ملخص
مشاهد القتل والخراب في غزة جعلت كثيرين ينفسون عن جزء من غضبهم عبر التنديد بتنديد المنددين.
عرف الإنسان لغة الشجب وأدوات التنديد منذ عرف الخلاف في الرأي مع الآخرين، والاعتراض على أفعال يقترفها غيره. حياة البشر عامرة بالشجب ولا تمضي من دون تنديد، وربما يصل الأمر بالبعض إلى الإدانة أيضاً.
تتعارك الزوجة مع زوجها بسبب سوء معاملته أهلها، فتشجبه. ويندد المعلم بإهمال الطلاب لدروسهم. وقد يصل الأمر ليدين السكان قرار صاحب العمارة تعطيل المصعد مستخدمين أشد العبارات.
الغضب المنظم
بأشد العبارات أيضاً، تشجب دول ومنظمات أممية وجماعات حقوقية دولاً ومنظمات وجماعات أخرى بدرجات متفاوتة من العبارات، بدءاً بالشجب الهادئ القريب من لوم الصديق أو تأنيب الحبيب، مروراً بالتنديد الصاخب، وانتهاء بالإدانة، التي تعد في قواميس الغضب المنظم والرفض المنمق أقصى درجات الرفض وأقسى وسائل الاعتراض.
الاعتراض على ما يجري في حرب القطاع يتعدى كل ما شهده العالم من موجات رفض وتنديد على مدار تاريخ الحروب الحديث. مشاهد القتل والخراب تعدت حدود صدمات سكان الكوكب في الحروب والكوارث والمصائب المعاصرة، وربما هذا ما جعل كثيرين ينفسون عن جزء من غضبهم وربما الشعور بقلة حيلتهم عبر التنديد بتنديد المنددين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أعداد المنددين بما يجري في غزة في أعقاب العملية التي نفذتها "حماس" يوم السابع أكتوبر (تشرين الأول) الماضي آخذة في التزايد. ونبرات التنديد وعبارات الشجب هي الأخرى آخذة في التصاعد. ومعها، يتفاقم غضب الغاضبين المتسائلين عن معنى الشجب وقيمة التنديد وسط هذا الكم من العنف والقتل.
حين ترتكب دولة أو جماعة قدراً من العنف والقتل والدمار، وحين تحول ظروف دولية أو حسابات دبلوماسية أو ترتيبات أمنية أو عوائق استراتيجية من دون التدخل لوقف هذا العنف، تلجأ الدول والمنظمات، لا سيما الأممية والحقوقية، إلى شجب الطرف الذي تعتبره باغياً، هذا هو المعروف والمتداول في عالم الشجب والإدانة الدولي، لكن ما يبقى سراً أو غير منطوق هو الشجب بهدف تخليص الذمة والإدانة لتبييض الوجه، بمعنى آخر، يعرف الساسة وكبار موظفي الأمم المتحدة والمنظمات الدولية أن الشجب والتنديد أحياناً باتا عمليات إجرائية لا بد من القيام بها لأسباب مختلفة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، تهدئة الرأي العام الداخلي، أو تبييض السمعة والصورة الخارجية كمحصلة نهائية لما جرى من عدوان.
محصلة الإدانة
المحصلة النهائية لعدد الدول التي دانت "حماس" لقيامها بعملية "طوفان الأقصى" هي 44 دولة. أما الدول التي تدين أو تشجب أو تندد بإسرائيل في حربها الضروس، فبلغ عددها نحو 50 دولة، إضافة إلى مناشدات بتخفيف حدة القصف أو إعادة النظر لتقليل حجم الفظائع.
"عندما تحدث فظائع، تميل الدول والمنظمات غير الحكومية إلى الرد بكلمات تعبر عن الدعم والتعاطف مع الضحايا، وفضح من يقترفون الفظائع عبر عبارات تنديد يتم إعلانها في بيان أو مؤتمر صحافي، ويندرج ذلك تحت بند (التشهير السياسي)، وهي استراتيجية شائعة لإنفاذ القانون الدولي وتعزيز المعايير والقواعد، لا سيما تلك الخاصة بحقوق الإنسان"، هذا ما تشير إليه الباحثة في العلوم السياسية المقارنة في جامعة برغن النرويجية ناديا روهان مارتنسن في دراسة عنوانها "ندين بشدة: السياسة الخارجية للحكومات النرويجية، التصريحات أداة سياسية أم موقف أخلاقي؟". وتضيف، أن سياسة التشهير كأداة سياسية ودبلوماسية أحياناً تؤدي إلى تحقيق التغيير في سلوك الدول في ما يتعلق بحقوق الإنسان والقانون الدولي، حيث الضغط يؤدي أحياناً إلى تغيير السلوك.
حقيقة السياسة
في الوقت نفسه تشير مارتنسن إلى حقيقة السياسة وواقع الدبلوماسية بعيداً من الخيال والمثالية. تقول إن المجتمع الدولي يعرف جيداً أن كل الدول تهدف إلى تعزيز مصالحها الوطنية ورفع وتحسين مكانتها بين بقية الدول. وتشير إلى أن السياسة الدولية تظل صراعاً على السلطة والقوة والمكانة، مع العلم أن مفهوم المكانة هو شكل من أشكال المصلحة الدولية. وتلجأ الدول إلى تحسين مكانتها بشتى الأشكال الممكنة، من بينها عبر القوة الناعمة للدبلوماسية، وجزء منها شجب الاعتداءات والتنديد بالفظائع.
الورقة تخلص إلى أن سياسة التشهير عبر الشجب والتنديد إما تسفر عن تغيير في سياسات الدولة "الباغية"، لكنه يكون تغييراً مشروطاً، أو لا تسفر عن نتائج من الأصل، لكنها تبقى ذات فائدة للدولة التي تشجب وتدين، إضافة إلى إضعاف موقت لمكانة الدولة المشجوبة دولياً بدرجات متفاوتة.
تفاوت درجات الشجب
تفاوت دول العالم في ردود فعلها السياسية والدبلوماسية تجاه حرب القطاع هو تفاوت في درجات الشجب والتنديد. فبين "الشجب بأشد العبارات" و"التنديد بكل معاني التنديد" و"إدانة العنف والعدوان" لكل من "حماس" وإسرائيل، وكذلك "مناشدة إسرائيل التهدئة" أو "التخفيف" أو "التعقل" أو "التروي" أو "استخدام أعلى درجات ضبط النفس"، تسري حالة من العضب وعدم الرضا بين الشعوب المتابعة لأمور الشجب والإدانة.
قطاعات عريضة من الشعوب العربية على سبيل المثال تعبر بشكل مستمر منذ بدء حرب القطاع عن الغضب من اكتفاء دولها بالشجب والتنديد. البعض يطالب بشن حرب شاملة على إسرائيل، والبعض الآخر يناشد حكوماته التدخل بشكل أكبر من مجرد الشجب أو ممارسة ضغوط أقوى من الإدانة.
الغضب من الشجب والإدانة يمتد كذلك إلى كتاب رأي ومحللين يدقون على وتر عدم كفاية "التشهير" الشفهي بالدولة "المعتدية"، وهو ما يبقي حالة عدم الرضا الشعبية متوهجة.
هل تدين ومن؟
"هل تدين ما تفعله إسرائيل؟" أو "هل تدين ما فعلته حماس؟" صارا أسئلة متكررة في المؤتمرات الصحافية التي تنعقد في دول العالم المختلفة، لا سيما تلك الضالعة في الصراع الدائر. مثل هذه الأسئلة التي تبحث عن تصريح واضح من دولة ما يدين إسرائيل أو "حماس" أو كليهما باتت أسئلة متوقعة في الظرف الحالي. غالباً يأمل الصحافي في استخراج إدانة رسمية من المسؤول الذي يمثل الدولة تجاه أحد طرفي النقيض: "حماس" في عمليتها "طوفان الأقصى"، أو إسرائيل في حربها الضروس رداً على العملية.
اللافت في حرب القطاع أن عديداً من الدول بات يدين الطرفين. صحيح أن إدانة الطرفين عادة تحوي كمين مختلفين من الشجب، حيث ميل لتحميل "حماس" قدر أكبر من المسؤولية، أو العكس، لكنها تظل من المواقف السياسية والدبلوماسية القليلة في الحروب التي تدين أو تشجب الطرفين، المعتدي والمعتدى عليه مع بقاء تعريف كليهما أمراً يختلف من دولة إلى أخرى بحسب مصالحها وتوازناتها وتاريخ تضامنها أو تبنيها لأي من طرفي النزاع.
ليس نزاعاً
"ما يدور في غزة ليس نزاعاً يتطلب شجباً وإدانة، بل إبادة جماعية تتطلب تدخلاً قوياً وسريعاً وفعالاً على أرض المعركة"، "إذا كانت سياسة الشجب والإدانة العربية على مدار العقود الماضية قد جرى قبولها أو تمريرها، فهذه المرة مختلفة" "متى ينتهي عصر الشجب والتنديد؟".
تأتي الإجابة الواقعية الصادمة: "لن ينتهي عصر الشجب والتنديد. سيستمر طالما العالم فيه دول وجيوش وجماعات ومصالح. ستستمر الحروب، سواء الفعلية على الأرض أو الافتراضية على الأثير أو حتى الثقافية عبر الفنون والآداب. استمرار الحروب والصراعات والمواجهات يعني استمرار الشجب والتنديد والإدانة بدرجاتها المتفاوتة وأغراضها المختلفة. فلنعتبرها شراً لا بد منه أو واجباً لا مفر منه أو فرضاً لا بديل له. مهمة الدول أو المتوقع منها، طالما لن تتدخل عسكرياً أو إجرائياً عبر السياسة والضغط، أن تشجب الاعتداءات وتندد بالقتل وتدين العنف غير المبرر. ومهمة الشعوب والمتوقع منها، لا سيما تلك الضالعة في الصراع أو المتضامنة مع طرف من المتصارعين، أن تعتبر الشجب والتنديد والإدانة غير كافية، وتتهم حكوماتها بالتقصير ورؤساءها بالتفريط. فلنعتبر الشجب والتنديد سنة السياسة"، وفق ما يقول الباحث في العلوم السياسية ودراسات الشرق الأوسط علي مصطفى.
الإدانات وهذا النوع من الخطاب تعتبره الشعوب رداً رسمياً "ضعيفاً"، وغالباً يتم اللجوء إليه حتى لا تبدو الدولة أو النظام السياسي وكأنه مشلول. تقول ناديا مارتنسن إن "أدين بشدة" و"لن يحدث ذلك مرة أخرى" أو "مثل هذا العمل لن يتكرر مجدداً" وغيرها من عبارات الشجب والتنديد والإدانة هي عبارات نموذجية يستخدمها الساسة والمسؤولون عند حدوث فظائع.
وتشير إلى عدم وجود قائمة رسمية تحوي الخيارات المختلفة المتاحة للدول للتصرف في مثل هذه الأحوال في الحياة الواقعية. أما في الدبلوماسية، فهناك مجموعة متعارف عليها من العادات والقواعد التي جرى سنها على مدار السنوات والعقود، وتتمثل في عبارات شجب وتنديد وإدانة أشبه بالرموز المفهومة بين الدول وبعضها، التي يجري استخدامها لدى وقوع فظائع، وبات الجميع قادراً على استيعاب مقدار فداحة ما جرى بناءً على محتوى خطاب التنديد.
الاكتفاء بالشجب
حرب القطاع تدور رحاها، وردود فعل الدول تختلف في درجات الشجب لأحد طرفي الصراع أو كليهما، وغضب الشعوب جراء الاكتفاء بالتنديد والإدانة يتفاقم، وقادة الدول على علم بغضب الشعوب من جهة وعلى حدود وقدرات وواقعية ردود فعلها من جهة أخرى، والجميع يعرف أن الإدانة لا سلطة تنفيذية أو قانونية لها، بمعنى أنها مجرد تعبير عن رفض، ولكن على الملأ بهدف الإحراج.
وعلى رغم عدم وجود تأريخ موثق لأصول وقواعد الشجب والإدانة في السياسة الدولية، إلا أن مارتنسن، تقول إن مفهوم التشهير بالمعتدي يعود إلى القرن الـ19، حين بدأت دول أوروبية في إعلان أسماء وهويات الأشخاص والمجموعات المذنبة التي كانت تقوم بأعمال معادية للمجتمع بغرض إحراجهم وإجبارهم على الندم.
الفرق الوحيد بين التنديد بالمعتدين في القرن الـ19 وبفظائع القرنين الـ20 والـ21 أنه بات من الصعب، وأحياناً المستحيل، المراهنة على إحراج المعتدي وإجباره على الندم.