ملخص
أين سنكون حين يعادلنا الذكاء الاصطناعي في عاطفته واتخاذ القررات؟
يكتب الباحث الصيني تشينيانغ لي في بحثه الطويل "تحدي الذكاء الاصطناعي ونهاية الإنسانية - الفشل في البحث عن الجوهر الإنساني" المنشور في 2021 وهو مترجم للغات عدة، أنه وفقاً للأسطورة كان على باب معبد أبولو في موقع دلفي المقدس في اليونان القديمة نقش "إعرف نفسك" لأننا نحن البشر في حاجة لمحاولة فهم "من نحن؟" في الكون الشاسع ومقارنة بسائر المخلوقات في الطبيعة.
وما توصلنا إليه حتى يومنا هذا، وبات شائعاً هو إيماننا بتميز الإنسانية، بل إننا كبشر مميزون بطريقة أرقى بكثير مقارنة بغيرنا من المخلوقات. وبرأي تشينيانغ لي فإننا إذا نظرنا إلى تاريخ البشرية، سنجد أن هذه الرغبة تبدو غير محققة أبداً، وفي العصر الراهن تبيّن لنا أن اعتبار الوعي الذاتي صفة إنسانية مميزة بات أمراً بلا قيمة بعدما اكتشف العلماء أن بعض كائنات الذكاء الاصطناعي لديها وعي ذاتي، مما يمثل تحدياً مباشراً للاعتقاد السائد منذ فترة طويلة حول احتكار الإنسان لهذا النوع من الوعي الذاتي.
هل فعلاً بتنا نعرف أنفسنا؟
إذاً، أين سنكون حين يعادلنا الذكاء الاصطناعي في عاطفته واتخاذ القررات؟ برأي العالم الصيني أن بحثنا عن إجابات لسؤال "إعرف نفسك"، أننا نستخدم الذكاء لخلق أساطير حول تميز الإنسانية، ولكن الآن جاءت اللحظة التي ترينا أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون تحدياً لتميز الذكاء البشري.
وسيثبت تقدم تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أننا نحن البشر لسنا فريدين في امتلاك ذكاء عالٍ ولسنا أكثر الكائنات فرادة في العالم المادي الذي نعرفه من حولنا، فبعض كائنات الذكاء الاصطناعي المتقدمة باتت تتفوق بالفعل على البشر في ذكائها وفي وعيها الذاتي وفي قدراتها الإدراكية والعملية.
المعاناة
يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيوس أن البشر يتميزون عن الحيوانات "لأن لدينا قلباً إنسانياً يجعلنا غير قادرين على تحمل رؤية المعاناة، معاناتنا الشخصية ومعاناة الآخرين بسببنا أو لأسباب خارج عن إرادتنا وإرادتهم".
ويمكن الآن لبرمجة الذكاء الاصطناعي المتقدم التوقف عن متابعة مهمة معينة حين "يدرك" أنها تسبب المعاناة، بل يمكن برمجته لاتخاذ إجراءات للحد من هذه المعاناة أو التوقف عن القيام بالمهمة الموكولة إليه بمجرد استشعاره بأنه ستسبب بالضرر لكائنات أخرى.
وجادل الفيلسوف زونزي في القرن الثالث قبل الميلاد بأننا نحن البشر نختلف عن الكائنات الأخرى لأننا نستطيع تشكيل المجتمع ولكن هذا لم يعد تميزاً إنسانياً خاصاً أيضاً. فمن المؤكد أن الروبوتات القتالية العسكرية يمكنها تنسيق أعمالها. وبرأي الفيلسوف المعاصر تشينيانغ لي أن ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي أدى إلى تقليص المسافة بين العالم البشري وغير البشري بصورة كبيرة، ويمكن تكرار أي شيء يعتبر خاصاً وفريداً بالنسبة إلى البشرية في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي. وإن ظهور تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي وتقدمها السريع يجعلان الإجابة عن سؤال "إعرف نفسك" بعيد المنال أكثر من أي وقت مضى.
روبوتات نابضة بالحياة
يقول العالم البيولوجي شوجو هامادا، عضو فريق البحث في جامعة كورنيل "إننا قطعنا الخطوة الأولى نحو بناء روبوتات نابضة بالحياة عن طريق التمثيل الغذائي الاصطناعي. سيتضاءل التمييز بين البشر وكائنات الذكاء الاصطناعي".
في المقابل، ثمة احتمال حقيقي أننا لن نجد الإجابة عن السؤال القديم "إعرف نفسك" بل سنشهد أيضاً نهاية البشرية كما نعرفها، بحسب هامادا. لقد كان للإنسانية دائماً معنى مزدوج، فهي من ناحية تمثل النوع البيولوجي للإنسان العاقل، ومن ناحية أخرى هي فكرة محملة بالقيمة والمثل العليا. ويستنتج العالم الصيني أن نهاية البشرية لا تعني أن البشر سيتوقفون عن الوجود كنوع بيولوجي، بل إن البشرية ستفقد إلى الأبد تميزها وتفردها في "جوهرها".
المجتمع الإنساني يسابق التطور بعقلنته
عادت فكرة حماية وتعزيز التعبير الثقافي الإنساني لتكون إحدى الأولويات في مطلع الألفية الثالثة، وكانت قد حددتها الدول الأعضاء في "يونيسكو" كهدف إنساني عام ومشترك في اتفاق عام 2005، باعتبار التعبير الإنساني تراثاً مشتركاً للإنسانية تنبغي حمايته كونه كنزاً راسخاً وحيّاً.
وما زال عدد كبير من وزراء الثقافة والفلاسفة والمثقفين حول العالم يدعون إلى ما يسمى "التكريس المتبادل" أي تفعيل عملية ديناميكية واقعية وذات نتائج ملموسة لتنسيق الاختلافات بين المجتمعات والثقافات البشرية ومواءمتها وتوحيدها في بعض الأحيان إذا ما اضطر الأمر إلى الحفاظ على تراث إنساني معين يتلقى تهديداً من خارج المجتمعات البشرية أو من نتاج بشري يخرج عن سلطة البشر أو يكاد مثل حال الآلات والروبوتات التي من المحتمل أن تمتلك إدراكها الخاص في زمن قريب، ومنها أنواع من التطور التقني والذكاء الاصطناعي غير محددة مآلاتها في ما لو أصبحت خارجة عن السيطرة بسبب قدرتها على التطور الذاتي. وقد تم رفع التنوع الثقافي والوئام البشري إلى مرتبة "التراث المشترك للإنسانية" في الإعلان العالمي الذي اعتمده المؤتمر العام لـ"يونيسكو" من منطلق أن التنوع الثقافي بالنسبة إلى البشرية "لا يقل أهمية عن التنوع البيولوجي بالنسبة إلى الطبيعة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول عضو المعهد الفرنسي والمتخصصة في دراسة تدويل القانون ميراي دلماس مارتي إن العالم منتظم منذ بداية الألفية الثالثة في نوع من الحرب الأهلية العالمية الدائمة التي تعمل على دعم الجنون الديني الحقيقي من جهة، ودعم إرهاب شعوب ومجتمات إنسانية كاملة تحت راية الهوية الضيقة، مما أدى بصورة خاصة إلى توترات في بلدان العالم التي تنغلق على خلافاتها باسم الهوية الوطنية.
ولكن هذا التناقض بين التعددية والوحدة البشرية العالمية بات مطروحاً، بخاصة في الحالات التي أصبحت تستدعي توحد البشر كنوع في مواجهة الآلة الذكية والتي قد تتطور بنفسها. ومن الأسئلة المطروحة "هل قد تؤدي عالمية حقوق الإنسان إلى إنكار التعددية المحلية الأصلية الخاصة بكل مجتمع إنساني؟ وهل يجب فرض اندماج الثقافات وإخفاء الاختلافات في الحالات التي يواجه فيها الجنس البشري عدواً خارجياً، سواء كان آتياً من الفضاء الخارجي، على سبيل المبالغة، أو من الذكاء الاصطناعي الذي قد يخرج عن سيطرة صانعيه البشر؟
في المقابل، يرى واضعو اتفاق عام 2005 هذا التناقض بوضوح، وأنه لا يُسمح بالاختلافات إلا إذا كانت متوافقة مع حقوق الإنسان، فمثلاً في حال الكرامة الإنسانية المتساوية مثل حظر التعذيب وغيره من ضروب المعاملة اللاإنسانية أو المهينة، يجب أن تكون الحماية مطلقة وتنطبق حتى في حال الحرب. أما الحقوق الأخرى مثل الخصوصية والحرية الدينية فيجب أن تخضع للقيود، إذا ما كانت نتائج حمايتها تضر في المبدأ الأول أي مبدأ المساواة في التعامل الإنساني.
وهذا كله في الأمثلة وليس على سبيل الحصر، والهدف في النهاية بحسب الفلاسفة المعاصرين وأصحاب الرؤى الثقافية الإنسانية الجديدة هو ليس فقط دمج الثقافات، بل جعلها أكثر توافقاً مع بعضها بعضاً.
الفلسفة المعاصرة وعلوم الاجتماع والإنسانية
الفلسفة المعاصرة وعلوم الاجتماع والنفس والسياسة الحديثة تجيب عن هذه التساؤلات عبر أداتين، الأولى تفعيل الإدراكات الحسية مثل السمع والبصر والشم والتذوق واللمس كأدوات للمعرفة الحقيقية والتواصل مع الثقافات المختلفة.
أما الأداة الثانية، فتشمل التمثيلات المعرفية مثل اكتساب المعرفة من خلال العقل، وليس بالضرورة من خلال الحواس. وتشمل هذه الخطابات التعليمية والفلسفية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية والقانونية.
في مجال الفنون، لدينا عدد كبير من الأمثلة على هذا النوع من التقاطع، والجمع بين الحسي والعقلاني الذي يفتح آفاقاً أوسع لمعرفتنا بالثقافات المختلفة. على سبيل المثال تقوم الترجمة من لغة إلى أخرى بدور "معجزة" حقيقية بحسب الفيلسوف الفرنسي بول ريكور لأنها "تخلق تقارباً وتوحداً ثقافياً بحيث يبدو أنه لا يوجد سوى التعددية أو الاختلاف"، والترجمة "معجزة" لأنها تحترم الاختلافات، بينما تبحث عن معادلات تجعل هذه الاختلافات متوافقة. والترجمة مثال عام أيضاً وليس على سبيل الحصر، ولكنها تدليل على قدرة الإنسانية على النمو والبقاء على قيد الحياة في زمن يشاع فيه موت الإنسان والإنسانية بسبب الحروب والمصالح والهيمنة وعمل كل قوة مسيطرة عل فرض وجهة نظرها على حياة البشر سواء ككتلة إنسانية عامة أو كتعددية في المجتمعات الإنسانية المنفردة.
توصف الحرب الروسية في أوكرانيا وكأنها حرب بين ثقافتي الغرب والشرق، كما توصف الحروب في الشرق الأوسط بأنها بين شعوب متحضرة ومتطورة وشعوب لم تلحق بركب الحضارة بعد.
هذه المفاهيم التي تتم تغطيتها في إطار الصراعات الاقتصادية وصراعات النفوذ والسيطرة على مصادر الطاقة تحمل في طياتها مشاعر التمييز بين البشر، بل قد تقوم دول كبرى بحروب كاملة تحت حجة نقل الحضارة إلى شعوب آخرى، هكذا برر الأوروبيون إبادة شعوب بأكملها في الأرض الجديدة في القارة الأميركية، وهكذا برّر جورج بوش الابن الحرب في كل من العراق وأفغانستان.
وهذه أمثلة مهما كانت تخبىء خلفها توجهات حقيقية أو مجرد تغطية على حروب اقتصادية إلا أنها تفعل فعلها في التفريق بين البشر على أسس حضارية وثقافية، بل تقوم الصين وروسيا ممثلتا "الشرق" وثقافته بمحاربة المدّ الغربي لأنه يهدف إلى طمس الثقافات المحلية التقليدية بدءاً من أنواع الطعام المعولم مروراً بالملابس والفنون من الموسيقى إلى "الفردية" وتقديسها على حساب الانتماء الجماعي. فما قد تراه فئة من البشر عملاً على توحيد البشرية في إطار ثقافي واحد، ستراه فئة أخرى طمساً لحضارتها والعكس صحيح.