ملخص
دمار كبير لحق بالبنى التحتية في كل المجالات، فضلاً عن عمليات النهب التي تعرضت لها البنوك والمؤسسات العامة والخاصة وممتلكات المواطنين
تتناول مجالس السودانيين منذ انطلاق الرصاصة الأولى في الحرب الدائرة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منذ منتصف أبريل (نيسان) الماضي، حجم الدمار الكبير الذي لحق بالبنى التحتية في كل المجالات، فضلاً عن عمليات النهب التي تعرضت لها البنوك والمؤسسات العامة والخاصة وممتلكات المواطنين، بإشفاق وتحسر كبيرين بالنظر إلى صعوبة الاعمار في ظل ما يعانيه الاقتصاد السوداني من تدنٍ كبير يجعله من الصعوبة بمكان إصلاح ما دمرته الحرب.
فكيف ينظر المتخصصون في الشأن الاقتصادي إلى واقع ومستقبل الاقتصاد السوداني بعد توقف الحرب، وإمكانية نهوضه في ظل هذه التحديات؟
حكم رشيد وحوكمة
يقول المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي حسن بشي محمد نور إن "إعادة إعمار ما دمرته الحرب يعتمد على الحكومة التي ستأتي بعد توقف الحرب، كما أن كلفة الإعمار تتوقف على متى ستنتهي الحرب لأنه كلما استمرت هذه الحرب زادت الكلف، لكن الملاحظ أن هناك تمركزاً كبيراً للتنمية في الخرطوم، بخاصة في جانب البنى التحتية الأساسية مثل الخدمات المالية والمصرفية والتأمين والاتصالات والمؤسسات الحكومية والخاصة والقطاع الصناعي بمختلف صوره، فضلاً عن خدمات الصحة والتعليم والطيران، وغيرها". ويضيف "الكلف المادية التي قدرت لحجم دمار الحرب في بداية الأشهر الأولى قدرت بـ70 مليار دولار، وهو رقم بسيط جداً الآن، بعد بلوغ الحرب شهرها الثامن، واتساع رقعتها إلى أقاليم أخرى غير الخرطوم، إضافة إلى الكلف الاجتماعية الناتجة من الأرواح والإصابات والإعاقات النفسية والجسدية والجوانب المتعلقة بالنزوح والهجرة وفقدان الممتلكات التي نهبت أو دمرت، وفقدان عدد كبير جداً من المواطنين لمصادر رزقهم، سواء في الأعمال الخاصة أو الحكومية، مع ارتفاع معدلات التضخم وتدهور العملة المحلية بنسبة فاقت 100 في المئة، فضلاً عن كلفة الحرب المباشرة، وخروج عدد كبير من مناطق السودان المنتجة، بخاصة في دارفور وكردفان، عن الدورة الاقتصادية، حيث كانت تشكل إضافة إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلى جانب تعطل حركة وصول الثروة الحيوانية للأسواق، وأيضاً توقف حركة الصادرات".
ويتابع محمد نور "كذلك يضاف إلى تلك الخسائر خسائر الاستثمار الأجنبي الذي كان موجوداً في البلاد، وهي خسائر كبيرة، ومن الصعب عودة هذه الاستثمارات مجدداً بعد توقف الحرب، من ثم فإن المسألة تحتاج إلى وقت طويل حتى يتعافى الاقتصاد السوداني، لكن لا بد من حكم رشيد وحوكمة في إدارة الدولة ومواردها، وهذا يتوقف على نوع الحكومة المقبلة التي تتولى شؤون البلاد بعد الحرب، فإذا جاءت حكومة مقبولة عالمياً وإقليمياً يمكن أن تحظى بمنح وإعانات ومساعدات بمختلف صورها، فضلاً عن معدات للتعويضات، ودعم إعادة الإعمار وإعادة التوطين بالنسبة إلى المواطنين الذين تأثروا بالحرب، وهذه فرصة لتوزع الأنشطة الاقتصادية بعدالة على مختلف مناطق السودان بدلاً من تمركزها السابق في العاصمة".
ويوضح المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي، "لكن في تقديري إن الوضع في غاية التعقيد ولن يكون الأمر سهلاً في ظل غياب قيادات رشيدة، سواء في الحكومة الحالية التي هي سبب الأزمة بعد انقلاب 25 أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أو في القيادات العسكرية، سواء الجيش أو المكونات العسكرية الأخرى، أو في جانب (الدعم السريع)، يمكنها أن تتخذ قرارات صعبة وتاريخية، وأن تضع في اعتبارها المصلحة العامة والمصالح الاستراتيجية للسودان وأمنه القومي ومصالح المواطنين وصيانة أرواحهم وممتلكاتهم وحفظ مكانة الوطن كدولة في حد ذاتها". ويرى أن "الوضع ملتبس جداً، ومن الصعب تقييم حجم الخسائر والدمار بالأرقام أو الإحصاءات، نظراً إلى تعطل جهاز الدولة تماماً، فضلاً عن الفوضى التي تضرب بالبلاد من أولها إلى آخرها، وكلنا يلاحظ الربكة الحادثة في الحكم من خلال التغييرات التي حدثت في عزل الوزراء وولاة الولايات وتكليف بدلاء لهم ومحاولة نقل الخدمات الأساسية لبورتسودان ومدن أخرى، إضافة إلى الاستنزاف الكبير للموارد من دون تعويض أو وجود قيم مضافة، مما يعني أن البلاد غرقت تماماً في الريعية الاقتصادية".
نقطة تحول
من جانبه يقول المتخصص في الشأن الاقتصادي عبدالعظيم المهل إنه "من خلال الحرب اكتشفنا أن الشعب السوداني غني مقارنة مع جيرانه، وما نهب من أسواق السودان وممتلكات مواطنيه أدى إلى ازدهار أسواق دول الجوار ممثلة في تشاد والنيجر وأفريقيا الوسطى وإثيوبيا وإريتريا ومصر ومالي، وتقدر جملة الخسائر بنحو 100 مليار دولار". ويضيف "كما اكتشفنا أن 90 في المئة من أموال السودانيين بالعملة المحلية مكتنزة خارج النظام المصرفي و99 في المئة من ذهب وعملات أجنبية يكتنزها السودانيون خارج النظام المصرفي، وأن غالب أموال السودانيين غير مستثمرة في الصناعة أو الزراعة، بل معظمها عاطل من العمل، وبعض من هذه الأموال تخص (حرامية) السياسة وكثير من أموال المغتربين موضوعة في مصارف خارج البلاد". ويواصل "هذه هي الأموال الوحيدة التي لم تنهب، من ثم تمثل اللبنة الأساسية للتنمية بعد إنهاء الحرب، لكن لا بد من وضع سياسات لجذب هذه الأموال، وجميع الأموال المستثمرة في الخارج لداخل السودان، وبلا شك فإن المفتاح الأساس لذلك تحقيق الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويؤكد المهل أن هذه الحرب يجب أن تكون نقطة تحول كبيرة نحو البناء والتنمية، فقد وصلنا إلى درجة النهاية في كل شيء، ومعلوم أن كل الدول التي مرت بنفس ظروفنا حققت التنمية، مثل أميركا بعد الحروب الأهلية، وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، ومشروع مارشال الذي نحتاج إليه بشدة، وأخيراً رواندا، وحتى جنوب السودان". ويتابع "المطلوب بعد انتهاء هذه الحرب تغيير المسار كاملاً، ودعم لا محدود للصناعة، وعدم قيام أي مشروع زراعي فقط مكافحة الفساد عبر الحوسبة، واتباع سياسة واضحة تجاه الأجانب، وإقامة البنى التحتية عبر نظام البوت، فضلاً عن خفض الصرف على الدفاع والأمن والقطاع السيادي والسياسي، إضافة إلى وضع الخطط والبرامج التنموية مع الحرص على تنفيذها، فالتنفيذ الجيد للأفكار السيئة أفضل من العكس".
دمار ممنهج
في سياق متصل يوضح الباحث الاقتصادي السوداني محمد الناير أن "حجم الدمار الذي أصاب البنى التحتية في الخرطوم كان كبيراً وممنهجاً، ويبدو أن (الدعم السريع) قصدت تدمير هذه البنية بصورة أساسية، ووضح ذلك في حجم الدمار الكبير الذي لحق بالقطاع الصناعي، إذ لم تنج إلا بعض المصانع التي تمكن أصحابها من نقلها إلى ولايات أخرى، كما دمر القطاع التجاري بنسبة كبيرة، بخاصة وسط العاصمة، فضلاً عن عمليات النهب للبنوك والمؤسسات وممتلكات المواطنين، فهذه الخسائر تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، لكن حتى الآن لا توجد إحصاءات دقيقة لحجم خسائر الدمار الذي لحق باقتصاد البلاد، وبالتأكيد إنه بعد انتهاء الحرب يمكن للدولة أن تعلن عن رقم حقيقي عن حجم هذه الخسائر، والتي تشمل أيضاً ما فقده الاقتصاد السوداني من إيرادات وتعطل حركة الصادر وغيرها". ويضيف "في شأن مستقبل الاقتصاد السوداني بعد الحرب، بالتأكيد إن البلاد تمتلك موارد طبيعية ضخمة تتمثل في امتلاكه أكثر من 85 مليون هكتار من الأراضي الصالحة للزراعة، المستغل منها نحو 25 في المئة فقط، و110 مليون رأس من الماشية مما يجعله من بين كبرى دول العالم امتلاكاً للثروة الحيوانية، فضلاً عن تنوع مصادر المياه، وبخاصة مياه الأنهار، حيث تبلغ حصته من هذه المياه 18.5 مليار متر مكعب يستقل منها 12.5 مليار متر مكعب، إضافة إلى المياه الجوفية المتجددة، والأهم من ذلك المياه المتساقطة من الأمطار، وهي تفوق حصته في مياه النيل وتحتاج فقط إلى برنامج حصاد مياه، إلى جانب التنوع الكبير في المحاصيل، والتي يندر وجودها على مستوى العالم نظراً إلى خصائصها الممتازة كالصمغ العربي، وكذلك وجود أكثر من 30 معدناً في باطن الأرض على رأسها الذهب ومعادن نفيسة أخرى، إلى جانب كميات من النفط لم تكتشف بعد، وساحل على البحر الأحمر بطول 750 كيلومتراً، مما جعله عرضة لأطماع دولية وإقليمية".
كل هذه الموارد والإمكانات قادرة على النهوض بالاقتصاد السوداني بعد انتهاء الحرب، لكن لا بد من وضع خطة استراتيجية متكاملة تنتهي في 2030، بحيث تتوافق مع أهداف التنمية المستدامة، ويمكن تنفيذها على مراحل وتجزئتها لخطة سنوية على أن يكون عام 2024 هو الأساس، بحيث يتم عبره تصحيح مسار الاقتصاد وإحداث نهضة اقتصادية حقيقية.
ويوضح الباحث الاقتصادي السوداني أن "السودان يحتاج بعد الحرب إلى دعم المجتمع الدولي بصورة أساسية، لكن إذا كان مشروطاً وفق أجندة محدودة سيكون مرفوضاً، لأن ذلك يعد انتقاصاً من السيادة الوطنية، فإذا كانت هذه القروض والمنح من دول صديقة دون إملاءات فمرحباً بها، وإن لم تأتِ، فموارد البلاد قادرة على جعل الاقتصاد ينمو بمعدلات جيدة وإعادة توازنه بصورة كبيرة، لذلك فإن فرص نجاح الاقتصاد السوداني كبيرة، لكن الأمر يحتاج إلى سياسات محكمة".
ويتابع الناير، "كذلك من القضايا المهمة التي تحتاج إلى معالجات وقرارات سريعة مسألة تدهور سعر صرف العملة الوطنية، فيجب أن يتخذ بنك السودان المركزي قراراً بإلغاء العملة المتداولة حالياً وإصدار عملة جديدة وفقاً لتركيبة فئوية جديدة، لأن هناك فئات من العملات تساقطت في الأسواق، مما يتطلب إلغائها مثل فئات الجنيه وخمسة جنيهات و10 جنيهات و20 جنيهاً و50 جنيهاً، فضلاً عن الاتجاه لحصر تداول فئات الـ(1000 و500) جنيه عبر التطبيقات والحسابات البنكية فقط من أجل استعادة الأموال المنهوبة وإعادة الكتلة النقدية داخل المصارف لأن أكثر من 90 في المئة من هذه الكتلة تداول خارج النظام المصرفي".