Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اليسار اليمني بين سطوة الأيديولوجيا وبراغماتية الدولة (2 - 2)

يجد التيار نفسه في مأزق جديد وسط بيئات متقلبة تتجاذبها سياسة نصفها حالم غير واقعي وآخر عنيف خشن

قوبل النهج اليساري بمقاومة شديدة من القوى التقليدية وتعرض لضربات مميتة من داخله (اندبندنت عربية)

ملخص

تعرف على تاريخ اليسار اليمني وضربات الازاحة والابعاد التي تعرض لها

تطرقت الحلقة السابقة إلى نشوء تيار اليسار في اليمن ونهجه الذي أسهم بصورة كبيرة في إشعال ثورة الـ 26 من سبتمبر (أيلول) 1962 ضد حكم الأئمة شمالاً، والـ 14 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 1963 ضد الاستعمار البريطاني جنوباً، واصطدامه بالقوى التقليدية والدينية المتخادمة مع جماعات الإسلام السياسي التي تداعت ضده ووجهت له سلسلة من الضربات التي أفقدته توازنه لكنها لم تقتله، تجسد أبرزها في الانقلاب على أول رئيس جمهوري في الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1967 وقتل واعتقال ومطاردة قادته كشخوص على طريق حظره كفكر من جميع دوائر صنع القرار ومفاصل حكومة الثورة في صنعاء.

ومع صعود الرئيس إبراهيم الحمدي (حكم شمال اليمن من عام 1974 - 1977) خف نشاط الحراك الاشتراكي شمالاً كون الرئيس الجديد القادم من خلفية عسكرية متأثرة بـ النهج الناصري حليفاً لهم، بل تكون له الإطار العام الذي انضمت إليه قوى عسكرية وأصبح حضوره يتهدد النظام القبلي في الشمال، وتشكلت "الجبهة" في الـ 11 من فبراير (شباط) عام 1976 من خمس قوى يسارية هي "الحزب الديمقراطي الثوري" و"منظمة المقاومين الثوريين" و"حزب الطليعة الشعبية" و"حزب العمل اليمني" و"اتحاد الشعب الديمقراطي".

وبمقتل الرئيس الحمدي في أكتوبر عام 1977 داخل منزل رئيس أركان جيشه أحمد الغشمي (تولى الرئاسة تالياً) تلقى التيار في الشمال اليمني واحدة من أقوى الإزاحات التي عملت على إنهاكه وتشتيت قواه، خصوصاً وهو يرتبط وثيقاً برئيس اليمن الجنوبي سالم ربيع، وكانا يعملان على إكمال الترتيبات لإعلان قيام اليمن الواحد غداة يوم اغتياله الذي سبب لليمنيين جرحاً غائراً اتهموا فيه القادة العسكريين المحيطين به والمشايخ الذين يرون في وجوده تقليصاً غير مسبوق لنفوذهم التاريخي.

 

وفي أكتوبر 1978 أُعلن، وفقاً للكاتب محمد الشيباني، قيام "الحزب الاشتراكي اليمني" كمظلة للتكوينات اليسارية الموحدة في الشمال والجنوب، وصار فرع الشمال يحمل اسم "حزب الوحدة الشعبية" ضم جميع الفصائل في الشمال، "حزب الطليعة الشعبية" و"اتحاد الشعب" و"الحزب الديمقراطي الثوري" و"حزب العمل" و"منظمة المقاومين الثوريين".

مقتل الحمدي وتوغل القوى القبلية في الحكم شمالاً لم تمنع اليسار من مواصلة النضال، إذ دفع تأسيس الحزب الاشتراكي الحاكم جنوباً إلى توسيع النشاط المسلح الذي كانت تقوم به "الجبهة" في المناطق الوسطى بدعم من الجنوب حينها"، نتج منه اندلاع حربين رسميتين، الأولى عام 1972 والثانية 1979، وفيها مني جيش الشمال بخسارة ساحقة ضد نظام صنعاء الذي لجأ إلى سوريا والأردن والعراق لإنقاذه، وبلغ حد تهديد تلك الدول لليمن الجنوبي بالتدخل العسكري وفقاً لاعتراف الرئيس علي عبدالله صالح نفسه في لقاء متلفز عام 2013 دفع الملك حسين للتهديد بإرسال الفيلق العربي لوقف تقدم القوات الجنوبية.

ومع صعود صالح في الـ 17 من يوليو (تموز) 1978، وبعد ثلاثة أشهر من توليه الحكم، فشل "الانقلاب الناصري" ضده فهرب معظم قادته إلى الجنوب.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يقول الكاتب والمفكر السياسي عبدالباري طاهر إن جبهات اليسار توحدت مع الناصريين منذ نهاية السبعينيات خلال ما عرف باسم "الجبهة الوطنية الديمقراطية"، وعززت من قوتها ونشاطها العسكري في دمت والبيضاء ووادي بنا والحجرية وغيرها من المناطق،  وساعدها المزاج الشعبي الناقم على مقتل الحمدي الذي كان يحظى بشعبية جارفة، وشعورهم أن مسار "ثورة سبتمبر" قد تحول، وآل بحسب اعتقاد سائد حتى اليوم، إلى القوى التقليدية ومراكز النفوذ القبلي، زاد من قوتها انشقاق ضباط وقادة جيش صالح وانضمامهم إليها.

هنا وجد صالح وحلفاؤه أن دائرة اليسار أضحت تضيق بهم فلجأوا لإدخال البعد الديني في الصراع من خلال تصوير "الجناح اليساري" بالكفار تزامناً مع اشتعال ما عرف لاحقاً بـ "حروب المناطق الوسطى"، إذ كانت "قوات الجبهة الوطنية" في الشمال مدعومة من الحزب الحاكم جنوباً.

وبحسب طاهر فقد كان هدف القوى التقدمية في الجنوب والشمال "القضاء على حكومة صنعاء الرجعية التي مثلت خليطاً من القوى القبلية والعسكرية والدينية ورجال المال، وإقامة دولة يمنية موحدة بنظام اشتراكي على النمط السوفياتي، والأخير تعهد بتقديم أوجه الدعم والمعونة كافة، إضافة إلى الدعم الليبي المقدم حينها".

الإخوان جاهزون

في عام 1979 شكلت الأحزاب اليسارية الخمسة شمالاً حزباً واحداً اسمه "حزب الوحدة الشعبية"، وأخفقت قوات صالح النظامية في كبح جماح تمدده السريع، وعلى وشك انتصار "الاشتراكي" شمالاً ظهرت جماعة الإخوان المسلمين الذين طلبوا من الرئيس علي عبدالله "تحالفهم معه ضد الشيوعية بهدف منع تصديرها إلى شمال الوطن والعمل على أن نحلّ أحاديث الرسول بدل الماركسية"، بحسب حديث صالح لـ "قناة العربية" عام 2013.

سعى "الإخوان" إلى إثبات أهليتهم لثقة صالح ودعمه المادي والعسكري، فسيطروا على منطقة خبان التابعة لمحافظة إب عام 1980 وكسروا هيبة المد الاشتراكي.

ولكسب الوعي الشعبي أطلقوا على أنفسهم "فرقة الجبهة الإسلامية" في إيحاء لمعاكسة الجبهة الوطنية التي جرى إلصاق جملة من الدعايات بها، مثل الكفر والعمالة للسوفيات، فجرى إضعاف الجبهة تارة بالحوار وأخرى بالضربات العسكرية والاغتيالات.

ثمن النضال

في التقاربات بين الشطرين مطلع الثمانينيات وتحديداً في عام 1981 تعرضت كثير من الفصائل اليسارية، بحسب الكاتب الشيباني، إلى ضربات أمنية متلاحقة في الشمال، وتقلص دور الجبهة الوطنية بسبب التنسيقات بين الأجهزة.

ويضيف أنه "بحلول أغسطس (آب) 1982 وتشكل حزب المؤتمر الشعبي عام كمضلة سياسية للأحزاب، تمثل في قوامه ممثلين للفصائل اليسارية في الشمال، غير أن ابتلاع "الإخوان المسلمين" وذراعهم الأمني والعسكري الجبهة الاسلامية للتنظيم الجديد، قلص فعالية المشاركة السياسية لليسار في هذا التنظيم الذي أنشئ ليكون روح السلطة وريحها".

وحل عام 1983 الذي شهد انسحاب القوات المحسوبة على الجناح الاشتراكي من جبهات القتال ومغادرة غالبية رموزه إلى جنوب البلاد، إذ استقبلهم رفاقهم هناك وعملوا على إدماجهم في الحياة السياسية ضد "الرجعية الشمالية"، وبهذا تكون الساحة قد تركت لنظام صالح وحلفائه من المشايخ ورجال الدين والقبائل.

وجنوباً نشأ "الحزب الاشتراكي" ليتبنى، وفقاً لأدبياته، الانحياز للطبقات الاجتماعية الفقيرة ممثلة بالفلاحين والكادحين والنضال لقضايا العدالة الاجتماعية وقيم الحرية والديمقراطية، وإلغاء الفوارق الطبقية السائدة، وخصوصاً الفئات المهمشة والبدو الرحل.

إلا أن تجربته مرت بجولات صراع بيني بدأت مع أول فترة حكم للتيار عقب الاستقلال عن الاستعمار البريطاني في الـ 30 من نوفمبر 1967، وحتى آخر عهد له بالسلطة صيف عام 1994 اللاهب.

ويتفق المؤرخون أنه مثلما تعرض "اليسار" إلى مؤامرات القوى التي ترى في وجوده تهديداً لسيطرتها التقليدية، لعبت الخلافات البينية داخل صفوفه وتياراته دوراً بارزاً في إجهاض تجربته على رغم حداثتها، فما إن رسخت تلك التجربة أركانها حتى دب الصراع بين تياري الثورة التي اندلعت ضد الاستعمار في الـ 14 من أكتوبر 1963 بين "الجبهة القومية" و"جبهة التحرير"، وانتهت لمصلحة الأولى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأدارت الجبهة القومية الجنوب اليمني بالأيديولوجيا اليسارية كحامل للتحرر من مخلفات الاستعمار، ولكن الصراع عاد لينخر مفاصلها الذي أدى إلى إجبار أول رئيس للجنوب اليمني بعد الاستقلال، قحطان الشعبي، على الاستقالة في الـ 22 يونيو (حزيران) 1969، لينفرد الجناح الذي وصف بالراديكالي في الحزب بقيادة عدد من المنظرين والمفكرين السياسيين وعلى رأسهم الأمين العام للجبهة القومية عبدالفتاح إسماعيل، ذي الاتجاه الإيديولوجي الماركسي ـ اللينيني وصاحب فكرة إنشاء الحزب الطليعي الذي سيقود الجماهير نحو التقدمية المنشودة.

وإضافة إلى سالم ربيع علي سالمين ذي الاتجاه الماوي، نسبة إلى الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي تونغ الذي يرى وجناحه أن الحزب الطليعي سيعزل القيادة السياسية عن الالتصاق المباشر بفئات الشعب الفقيرة وحاجاتها، ترجمة للنضال الميداني المواكب لمرحلة التأسيس والبناء الذي يتطلب النزول من المكاتب الوثيرة المكيفة في المدن إلى شمس الحقول وتراب الأرض وارتداء ملابس "الكاكي" جوار الفلاحين الكادحين في الأرياف، وإقامة نظام سياسي على أساس جماعي ينطلق من قاعدة ريفية ومنظمة سياسية على غرار النموذج الصيني مع الإعلاء من شأن المهمشين والمنسيين بمختلف فئاتهم في المناطق كافة الذين جرى إلحاقهم بالمصانع الحديثة والجمعيات السمكية والتعاونيات الفلاحية والجيش وغيرها.

وعلى رغم هدوء المؤثرات الخارجية إلا أن الصراع عاد ليدب سريعاً في مفاصل الجناح اليساري نفسه، إذ بدأت مع مساعي التوصل لتشكيل ائتلافية جماعية للحزب في ظل اتهامات لسالمين بالانفراد بالسلطة حتى جرى إعدامه في الـ 26 يونيو عام 1978 على يد "رفاق النضال والثورة" بطريقة سببت صدمة وجدانية في الوعي اليمني نظراً إلى تواضعه وارتباطه الوثيق بفئات الشعب الفقيرة، بتهم عدة أكثرها شيوعاً تورطه في قتل رئيس الشطر الشمالي حسين الغشمي انتقاماً لمقتل سلف الأخير إبراهيم الحمدي، وتعطيل جهود التوصل إلى الوحدة التي كانت على وشك التحقق، في حين يرى آخرون أنه استباق لتعطيل قرارات كان ينوي سالمين اتخاذها تؤثر ضد مصالح الجناح الآخر.

موت الفكرة وأصحابها

مع سيطرة الجناح المنقلب الذي عين علي ناصر محمد أميناً عاماً للجبهة القومية ثم أميناً للحزب توالدت الخلافات داخله بقيادة فتاح التي تشابهت مع سابقاتها في الشكل ومضمون الدوافع، وكان العنف لغة الحوار الوحيد "فمن فوهة البندقية تنبع السلطة السياسية"، بحسب القول الماوي المأثور، بدأت بوادره بنفي فتاح إلى الاتحاد السوفياتي الحليف عام 1980 في محاولة لوقف الصراع التنظيمي، ولكن في مارس (آذار) 1985 طلب الالتقاء بالرئيس علي ناصر محمد خلال زيارة الأخير لموسكو، وفي دار الضيافة بتلال لينين كشف فتاح لخلفه الأمين العام لحزبه عزمه العودة بأي ثمن، بخاصة بعد ما سمي حينها لقاء الخريف الذي حصل بينه وخصمه السابق علي عنتر الذي غدا حليفاً له بعد أن كان عدواً سبق وهدد بتصفيته.

يقول الرئيس الأسبق علي ناصر بحسب ما جاء في كتابه "ذاكرة وطن" إنه ظل حتى الثانية فجراً يحاول اقناع فتاح بعدم المجيء، وقال له إن المطالبين بعودته، عنتر وجناحه، يريدون استخدامك فقط ويمكن يكون هذا آخر سفر لك.

إلا أن فتاح أصر على الرجوع وعزز من دوافعه تصويت اللجنة المركزية على عودته وانتخب عضواً في المكتب السياسي.

يكشف عضو اللجنة المركزية للاشتراكي جارالله عمر في كتابه "الصراع على السلطة"، أنه "طلب من اللجنة المركزية للحزب السماح لفتاح بالعودة". وهو الرجوع الذي مثل الضربة القاصمة للتجربة كفكرة ولأصحابها، والإيذان بدخول مرحلة غير مسبوقة من الصراع الذي برز على السطح بعد أن ظل موارباً خلف المكاتب والغرف المغلقة.

بعد عودته انضم فتاح للجناح التابع لنائب الرئيس علي أحمد ناصر عنتر كطرف شكل حلفاً جديداً ضد "سياسات الرئيس الانفتاحية" على الشطر الشمال ذي الصبغة المناطقية والقبلية التقليدية، ودول الجوار الخليجي والولايات المتحدة وأوروبا، معتبرين ذلك مخالفة للنهج التقدمي الملتزم للحزب.

ومن هنا كبرت كرة ثلج الخلافات يوماً إثر آخر منبئة عن اصطدامها الدامي الوشيك.

من بين ملامح الخلاف ما جاء في عيد الاستقلال ( الـ 18 عندما وصل فتاح إلى المنصة الرئاسية وتفاجأ بعدم وجود اسمه على كراسي الصف الأول المصطفة جوار الرئيس، واكتشفه مكتوباً في الكرسي الخلفي قبل أن يأتي مدير مراسم الاحتفاء طالباً من فتاح الانتقال إلى كرسيه في الخلف، وهو الموقف الذي سبب جرحاً للأمين العام السابق للحزب ومؤسسه الأول وعضو لجنته المركزية.

ويذهب جارالله عمر إلى القول إن "فتاح بعد تصالحه مع عنتر أصبح هو القائد الفعلي للتيار الذي يقف ضد علي ناصر".

وفي حين لا يبرئ علي ناصر ساحة جار الله "أعتقد أن جارالله وصالح مصلح وآخرين معهما لم يكونوا محايدين، بل كانوا يعملون على برنامجهم الخاص الذي يميل إلى برنامج علي عنتر"، وبلغت الأمور حداً يضع كل قائد فيه يده على مسدسه "ماكاروف" الروسي الذي يتمنطق به غالبية قادة الدولة في لحظات السباق نحو الزناد.

وفي واقعة تكشف حال عدم الثقة والاحتقان الذي بلغ ذروته بين رفاق النظام، يقول جارالله عمر إنه في نهاية عام 1985 وبينما كان الرئيس علي ناصر خارج البلاد، "اتصل بي أحد الأشخاص من تيار عنتر وقال إن بعض ضباط الجيش والقيادة الحزبية تقترح علي أن أقنع صديقي صالح مصلح (كان يشغل منصب وزير الدفاع وهو من جناح فتاح) باعتقال علي ناصر عند عودته من صنعاء، وتغيير الأوضاع بطريقة لا تؤدي إلى دماء".

في تلك الأثناء كان اليساري اللبناني جورج حاوي يجري وساطته لمنع صدام دام يلوح في أفق عدن، إذ اجتمع بعلي عنتر الذي رد عليه بتهديد يكشف الحال الصعب الذي بلغه مدى الخلاف بعد أن قال له "سنواجهه، يقصد الرئيس علي ناصر، حتى لو أدى الأمر أن أفجر نفسي معه".

يقول ناصر إن "ما قاله عنتر يعد أوضح إعلان لما كانوا يفكرون به وأغلقوا الباب أمام التفاوض السياسي ونقل الصراع السياسي إلى محطة الحسم بالقوة والسلاح، ولهذا كان من المستحيل أن أسلم نفسي لهم كما سلم قحطان وفيصل وسالمين".

معركة القصر والدماء وسط الشاي

يوم الـ 13 من يناير (كانون الثاني) 1986 كان موعد اجتماع المكتب السياسي للفصل في قضية الدائرة التنظيمية التي تسببت في تصاعد الصراع بسرعة إلى حرب أهلية مكلفة استمرت 11 يوماً، وأسفرت عن سقوط آلاف الضحايا.

وفي العاشرة من صباح ذلك اليوم، وعلى حين غرة اشتعلت أرجاء قاعة المكتب السياسي بالرصاص لتختلط الدماء بأكواب الشاي بعد أن فتح اثنان من حراسة الرئيس علي ناصر محمد النار من أسلحة "سكوربيون" الرشاشة على قيادات الحزب التاريخيين الذين كانوا ينوون الاجتماع بالرجل للفصل في خلافات حادة نشبت بين الجانبين، لتدشن بذلك واحدة من أعنف دورات الصراع الذي عاشته اليمن، وعبرت عن فداحته مئات الجثث الملقاة على قوارع الطرق في شوارع المدينة الساحلية.

ولأن معظم أعضاء المكتب السياسي كانوا يحملون مسدساتهم ولديهم حراسهم الشخصيون، فقد اندلعت في داخل ومحيط مبنى اللجنة المركزية معركة بالأسلحة النارية وقتل لحظتها نائب الرئيس علي عنتر ووزير الدفاع صالح مصلح قاسم ورئيس دائرة الانضباط في "الحزب الاشتراكي اليمني" علي شائع هادي في تبادل إطلاق النار قيل إن بعضهم ظل يقاوم بمسدسه الشخصي ملقى على الأرض.

نجا علي سالم البيض من الموت بأعجوبة ليتولى لاحقاً منصب الأمين عام للحزب، أي رئاسة البلاد، كما نجا المؤسس عبدالفتاح إسماعيل الذي فُقد تالياً، وتختلف الروايات على سر اختفائه، بين مقتله بداخل الدبابة التي تدخلت لإجلائه من مقر اللجنة المركزية ومقتله في وقت لاحق من ذلك اليوم بعد أن تدخلت القوات البحرية الموالية لعلي ناصر وتمكنت من احراقها، في حين يطرح أنه جرى تصفيته بعد الحادثة بأيام، ولكن أحداً لا يعلم مصير جسده حتى اللحظة.

استمر القتال 12 يوماً وأسفر عنه سقوط آلاف القتلى وعزل علي ناصر وفرار ما يقارب 60 ألف شخص، بمن فيهم ناصر وفصيله إلى اليمن الشمالي.

وتعليقاً على تلك الواقعة يقول علي ناصر في توثيقه له إنه "ليس المهم من أطلق الطلقة الأولى، فهذا سؤال لا معنى له، لأن الذي حصل كان يمكن حدوثه من قبل، وكان من بعد هي تراكمات بلغت مداها".

يرى خصوم اليسار أنها أوهام وشعارات غير واقعية، فيما يعتبرها الاشتراكيون مساراً سياسياً ناجحاً كان يحتاج إلى ضبط العلاقة بين الرومانسية الثورية واحتياجات الدولة ومصالحها، وأدى عدم ضبط هذه العلاقة من قبل القيادة إلى تسرب الأطراف المغامرة وتصدر الموقف.

وفي تقييم تلك التجربة يرى يمنيون أنها مثلما تضمنت محطات دامية فقد حملت أيضاً جوانب مضيئة بالنظر إلى قيم العدالة وسيادة القانون وتوفر الخدمات والاكتفاء الذاتي، على رغم شحة موارد الدولة، يقول الأمين العام السابق للحزب الاشتراكي وسفير اليمن الحالي لدى المملكة المتحدة ياسين سعيد نعمان، إن "الجنوب كان ضحية للصراع الناشئ بين رومانسية الأيديولوجيا وبراغماتية الدولة".

ويكشف في لقاء تلفزيوني عام 2017 أن الحزب أجرى إثر أحداث يناير مراجعات عامة جاءت الوحدة عام 1990 لتحول دون التوصل إلى إتمامها بعد أن تحول حلم الوحدة من منجز إلى تهمة"، في رد على اتهامات الرئيس صالح للجنوبيين بالهرولة إلى مشروع دولة الوحدة مع نظامه هرباً من الصراعات البينية، وهي تهمة يختلف المؤرخون إزاء صحتها بين التأييد والنفي، إلا أنهم أجمعوا أن صالح بهذا الطرح يسيء لمفهوم الشراكة والوحدة كمشروع قومي يرعى مصالح اليمنيين والأمة العربية، ويحيله إلى تهمة لا يسلم هو نفسه منها.

الوحدة وحرب الـ 94

وفي كل مرة يجد اليسار نفسه في مأزق جديد وسط بيئات متقلبة تتجاذبها سياسة نصفها رومانسي حالم بالتقدمية الأممية، ونصفها الآخر عنيف خشن، ومصالح لا تتحقق إلا بالسلاح بين مجتمع لا يتحرك مع الأحداث أو يؤثر فيها وإن في حده الأدنى.

وفي المحصلة السياسية الوجودية يشير الكاتب الشيباني إلى أن "التراكمات والاحتقانات المتكررة أفضت إلى الانفجار المهول في يناير 1986 الذي أضعف الحزب الاشتراكي اليمني بمكونيه الجنوبي والشمالي، ولهذا حين ذهب إلى الوحدة في مايو (أيار) عام 1990 بعد  خلخلة المعسكر الاشتراكي، كان مكشوفاً تماماً فتعرض لمؤامرة كبيرة من شركائه الشماليين في السلطة (المؤتمر والإصلاح)، ومن خصومه السياسيين والأيديولوجيين".

وفي لقاء تلفزيوني للمفكر اليساري اللبناني فواز الطرابلسي الذي كانت تربطه بقادة الحزب في الجنوب علاقات ممتدة، يشير إلى أن اكتشاف النفط في تلك الفترة في مأرب الشمالية دفع "الاشتراكي" المثخن بجراح غائرة للذهاب إلى الوحدة، ويتحدث عما يصفها "سذاجة الاشتراكي" قبل الذهاب إلى المشروع الوحدوي من خلال التفريط بجيش الجنوب المؤهل والاستثنائي الذي بناه السوفيات، وكان هو رأس المال اليساري الوحيد مقابل نظام صالح الذي استهدفه وأضعفه.

ويشير إلى أن صالح أقنع الأميركيين بالوحدة كونها الوسيلة الوحيدة لتصفية النفوذ السوفياتي في اليمن، وعلى رغم ذهابه إلى الوحدة طواعية "تتويجاً لنضالات الشعب اليمني شمالاً وجنوباً"، إلا أن الاشتراكي تعرض مجدداً لهزات أخرى تمثلت في إزاحته من قبل نظام الرئيس صالح المتحالف مع الجناح القبلي المنتصر عقب ثورة سبتمبر، وعن ذلك يضيف الشيباني أنه "بعد أربعة أعوام خرج الاشتراكي من السلطة بعد حرب صيف 1994 التي قضت عليه وتسببت بتفكيك بنيته العسكرية والأمنية والاقتصادية، وصودرت مقدراته".

يرى أن "أهم ما في الأمر هو تجريف كل إرثه الاجتماعي والثقافي في المحافظات الجنوبية التي حكمها ربع قرن بواسطة القوى الظلامية من الجهاديون العائدين من أفغانستان التي وظفت في الحرب كمخلب متقدم".

يؤكد العديد من القادة الجنوبيين تصفية نحو "156" قيادياً اشتراكياً في صنعاء وغيرها من المناطق بعد عام من الوحدة.

بحسب تاريخ الأحداث، سعى الجناح الشمالي إلى تغليف تلك الحرب بطابع ديني حمل فتاوى تكفيرية تطالب بالجهاد وإزالة الماركسية والشيوعية عن الجنوب في مسعى إلى دفع الناس للوقوف ضد قوى الحزب الاشتراكي الحاكم جنوباً قبل الوحدة، فظهرت حينها تسجيلات لرموز جماعة "الإخوان المسلمين" تطالب الاشتراكي "بتسليم أنفسهم إلى أقرب مسجد قبل أن يقال لهم إلى أقرب معسكر"، لتنتهي المعارك في السابع من يوليو عام 1994 باجتياح القوات الموالية للرئيس صالح وإسقاط نظام حليفه الاشتراكي، مما سبب جرحاً جنوبياً غائراً لا تزال انبعاثاته ماثلة حتى اليوم.

حين توقع الجميع نهاية للحزب بعد تلك الحرب عقب اجتياح عدن ومدن الجنوب، معقله التاريخي، تمكنت قيادته التي بقيت في صنعاء وعدن، بحسب الشيباني، إلى "إعادة إحيائه من جديد، ولملمة شتاته التنظيمي كحزب سياسي معارض متخفف من عبء السلطة وشواغلها، فعمل في ظروف سياسية بالغة التعقيد بعد أن ابتلع شريكاه السابقان، "المؤتمر" و"الإصلاح"، السلطة والموارد والنفوذ وامتلاك الفضاء عام في الشمال والجنوب".

تداخل اللحظة والمعطيات

وعلى رغم عودة حضوره الطفيف اليوم في قوام الحكومة الشرعية إلا أن المتغيرات المحلية والدولية قد أفضت إلى إخماد شعلة المارد الشعبية، عزز منه المآلات المنبعثة عن آلة الحرب الحوثية العنيفة ضد اليمنيين والحكومة الشرعية، ودافعها المنتقم من كل القوى المدنية حيث لا صوت يعلو فوق صوت المدفعية، فغابت هيئاته التنظيمية والجماهيرية عن تبني قضايا عامة للمواطنين على الصعد السياسية والمعيشية والحقوقية كافة، وتجلى بغياب رؤيته تجاه الأزمة الطاحنة اليوم والتحديات المصيرية الماثلة، وهي استحقاقات كان في طليعة خوض غمارها والفاعل المؤثر في تفاصيلها بغياب لم يعهده أعضاؤه ومناصروه حتى في أشد المراحل السياسية تعقيداً.

ويرى طاهر وهو أحد شاهدي تلك المراحل، إن لا شيء في التاريخ يموت ولا شيء يبقى كما هو والتغيير هو الثابت الوحيد.

ويضيف، "إنك لا تستحم في النهر مرتين"، وهي الحقيقة التي أدركها باكراً هرقليطس فاليسار الذي كان له دور مشهود في الثورة اليمنية توارى كحكم وكرموز وشخوص وهيئات، ولكنه كفكر متجدد في قضايا مغايرة ومختلفة وتيارات وقوى جديدة هي الموجودة اليوم وتتخلق باستمرار.

ويستدل بأن ما يسمى "الربيع العربي في اليمن صناعة و تأثير اليسار الجديد والشباب، ومعطى من معطيات العصر وتغيراته الكبيرة والكاثرة والقوى التي دعت إلى السلام منذ اليوم الأول للحرب في اليمن رفضت الحرب بأبعادها الثلاثة، الأهلية والإقليمية والدولية، هي التعبير العميق والصادق عن الإرادة الوطنية التي زرع بذورها اليسار في الحركة الوطنية".

وكفكرة تواجه المستقبل بتدياته يعتقد طاهر أن التجربة "مزروعة في التربة اليمنية الخصبة، وموزعة على كل التيارات والاتجاهات السياسية والفكرية ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي ولعل ميزة هذا العصر التداخل حد الامتزاج ما بين اليمين واليسار ثم التحول، فما كان يميناً بالأمس يمكن أن يصبح يساراً، والعكس صحيح، فلم يعد التقسيم والصراع القديم قائماً".

ويذهب إلى أن "الملمح المهم في اليمن أن الشقة بين مختلف الاتجاهات ليست حاضرة بقوة، والمسافة للانتقال من اتجاه إلى آخر قريبة، والتداخل والترابط بين الشرائح والفئات المجتمعية وميوعة الحدود والفوارق الطبقية ملحوظة، خصوصاً في الظروف الحالية فالحروب المتسلسلة والمتناسلة وضعت المجتمع اليمني على صعيد واحد".

وعلى رغم ما يعيشه المشهد إلا أنه يرى "الاتجاهات السياسية والأيديولوجيا موجودة، وقد ضعفت كثيراً لمصلحة المناطقية الطائفية والقبائلية وحتى السلالية المرتفع صوتها ودعاواها قائمة، ولكنها لحظة عابرة وزائلة إن لم يكن اليوم فغداً، والعودة لليمن الموحد والديمقراطي مطلب الشعب اليمني جميعاً".

يخلص إلى أن النضال اليمني الذي يتشارك فيه الجميع اليسار واليمين والقومي والإسلامي هو مطلب وقف الحرب والحوار الشامل بين اليمنيين في الجنوب والشمال والشرق والغرب، والتوافق على صيغة يقبل بها كل اليمنيين والوضع المتوافق عليه بين كل اليمنيين بمختلف اتجاهاتهم وانتماءاتهم ومناطقهم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات