ملخص
كيف تورطت الدنمارك بأكبر فضيحة قضائية-أمنية من صنع يديها؟
إنها قصة طويلة تبدو وكأنها إحدى حكايات جون لو كاريه التجسسية المثيرة، لكن تدور أحداثها في أعلى الأروقة السياسية الدنماركية.
يبدو وزير الدفاع السابق، كلاوس هيورت فريدريكسن، عاطفياً عندما يتذكر كيف بدأت محنته.
يقول "لقد أوقفت سيارتي أمام منزلي، وعندما أطفأت المحرك، قفز اثنان من ضباط الشرطة من سيارتهما، واقتربا مني لإبلاغي بأنني متهم بجريمة خطيرة للغاية قد تؤدي إلى [قضاء] 12 سنة في السجن".
كان ذلك في ديسمبر (كانون الأول) من عام 2021. وكان فريدريكسن، شغل منصب وزير الدفاع من 2016 إلى 2019، لا يزال نائباً في البرلمان، ولكنه الآن في المعارضة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح فريدريكسن البالغ من العمر 76 سنة "شعرت كما لو أن عالمي انقلب رأساً على عقب. لم أكن أعرف حقاً ماذا أفعل. زوجتي التي كانت داخل منزلنا مصابة بمرض ألزهايمر، ولم أستطع التحدث معها بشأن هذا الأمر حقاً".
في ذلك اليوم، ألقت الشرطة الدنماركية القبض على أربعة أفراد، مفتتحةً دراما قانونية من شأنها أن تضع الدنمارك تحت أنظار العالم كافة.
وفي السياق نفسه، في مقر جهاز استخبارات الدفاع في كوبنهاغن، جرى إخراج موظف حكومي من مكتبه مكبل اليدين أمام زملائه. أما في مطار كوبنهاغن، فقد شهد أحداثاً كانت أشدّ توتراً.
ويقول لارس فيندسن، الرئيس السابق لجهاز استخبارات الدفاع الدنماركية، الذي يشرف عليه وزير الدفاع "بينما كنت أسير عبر نقاط تفتيش الجمارك بعد عودتي من رحلة إلى مقدونيا الشمالية حيث ساعدت على إجراء إصلاحات في قطاع الأمن، اقترب مني شرطيان وطلبا مني أن أتبعهما إلى غرفة مجاورة. وفيها كان كثيرون من عناصر الشرطة ينتظرون. وقد أُبلغت هناك بأنني كنت قيد الاعتقال وقيل لي إنني سأعلم المزيد لاحقاً".
نُقل فيندسن إلى مركز شرطة شمال كوبنهاغن برفقة عناصر شرطة مسلحين، علماً أنه يحمل وسام "دانيبروغ" Dannebrog من رتبة قائد لمساهمته في الحياة الدنماركية وقد خدم في جهاز الاستخبارات في البلاد لمدة تزيد على عشرين عاماً.
وما هي الاتهامات التي وجد فريدريكسن وفيندسن في النهاية أنهما يواجهانها؟ تسريب أسرار الدولة يصل إلى حد الخيانة.
ويذكر فيندسن "لقد اتصلت بالمحامي الخاص بي، وعُرضت علينا المواد الموجودة في حوزتهم ضدي. لقد صدمنا، كان الأمر جنوناً خالصاً. لقد كان جهاز الأمن الدنماركي هو المسؤول عن إجراء التحقيق، وألمحوا عندها إلى أنني إذا اعترفت الآن وفي الوقت نفسه أعطيتهم أسماء المصادر [من العاملين] في جهازهم الذين تستخدمهم الصحافة، فسوف ينظرون في قضيتي على نحو أكثر لطفاً".
ويوضح فيندسن "كنت رئيس فرع الاستخبارات الآخر [استخبارات الدفاع]، وهو جهاز الأمن الخارجي لدينا، وبغض النظر عن سخافة التهم الموجهة إلي، لم أكن على دراية بالمصادر التي تتواصل معها الصحافة في الفرع الأمني ذاك. لقد كانت هناك مجموعة من التسريبات التي على ما يبدو لم تكن مريحة سياسياً للحكومة آنذاك".
واليوم، بتنا نعلم أن الاتهامات كانت تتعلق بالكشف عن معلومات حول جمع البيانات من خلال الشراكة المتعلقة بتبادل البرقيات بين وكالة الأمن القومي الأميركي (أن أس أي) والدنمارك. بيد أن هذا التعاون صار معروفاً للجميع منذ أن كشف إدوارد سنودن عن آلاف الوثائق السرية التابعة لوكالة الأمن القومي عام 2013. وقد غطت الصحافة الدنماركية عملية تبادل البرقيات السرية على نطاق واسع لسنوات.
وألقي بفيندسن في السجن. وجرى تفتيش منزله. كما صُودرت أجهزة الكمبيوتر والهواتف الخاصة به وبزوجته وأولاده.
ويقول فيندسن "لقد عوملت كما لو أنني كنت شخصاً خطيراً. كان هناك دائماً ضابط حاضر في السجن عندما كنت أتحدث إلى أشخاص آخرين، وحتى عند الذهاب إلى الحمام في مركز الشرطة، كان عليّ أن أقضي حاجتي والباب مفتوحاً".
ومن المعطيات التي حصل عليها فيندسن خلال الاستجوابات التي أجريت معه، أصبح من الواضح أنه كان تحت المراقبة لفترة طويلة. وكان منزله ومنزله الصيفي يخضعان للتنصت.
ويلفت رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية السابق إلى أن "عملية بهذا الحجم ليست بالأمر الهين. ولا بد أن الإذن بتنفيذها كان يجب أن يأتي من أعلى المستويات. ففي نهاية المطاف، كان لدينا وضع حيث كان رئيس فرع من فروع الاستخبارات [الفرع المحلي] يتجسس على رئيس الفرع الآخر".
وقد نفى بيتر هوميلغارد، وهو وزير العدل الدنماركي الحالي، هذا الاتهام، وأكد في تصريح لـ"اندبندنت" أن "الدنمارك دولة تُحكم [على أساس] سيادة القانون، حيث تخضع هيئة الادعاء فيها إلى مبدأ الموضوعية المنصوص عنه في القانون، وهو في الدنمارك مبدأ أساسي في العدالة الجنائية. ويعتبر ذلك من أهم الضمانات في معالجة القضايا الجنائية، وهناك مبدأ مماثل ينطبق على الشرطة".
وقضى فيندسن في السجن 70 يوماً بقرار من قبل قاضي محكمة المدينة حتى أمرت المحكمة العليا بالإفراج عنه. غير أن التهم الموجهة إليه ظلت قائمة. وقد اتهِم رئيس جهاز الاستخبارات السابق بنقل معلومات في غاية السرية، جزئياً في إطار محادثات بينه وبين اثنين من كبار الصحافيين، وجزئياً من خلال محادثات في منزله مع أفراد عائلته المقربين، بمن في ذلك والدته، ولها من العمر 86 سنة، وأيضاً في محادثة خاصة مع زميل قديم، وهو المفوض الوطني السابق للشرطة، وهذا ما نفاه فيندسن دائماً.
وفي عام 2020، كان فيندسن واحداً من مجموعة من الموظفين البارزين في جهاز استخبارات الدفاع الدنماركية الذين أُنهيت خدماتهم بعدما أثار تقرير صدر عن هيئة رقابية مستقلة مخاوف بشأن كيفية عمل هذا الجهاز الأمني. وأشارت الهيئة إلى أن هناك "أخطاراً في الجزء الرئيس من قدرات جهاز استخبارات الدفاع الدنماركية المتعلقة بجمع المعلومات الاستخباراتية، وتتمثل في أن جمع معلومات أمنية غير مصرح بها عن مواطنين دنماركيين". وبعد نصف عام، برّأت لجنة خاصة فيندسن والآخرين من ارتكاب أي مخالفات.
ويذكر فيندسن أن "كل شيء يشير إلى ما حدث حينها. لقد تعاملت الحكومة مع هذا الأمر بشكل سيئ. كان الأمر أشبه بإلقاء قنبلة يدوية بداخل جهاز الاستخبارات. لقد كان الأمر ضاراً حقاً ولا ضرورة له على الإطلاق. صحيح أنني ثابرت على التواصل مع شبكة علاقاتي الصحافية خلال هذه المحنة. وكان السبب وراء ذلك هو الحد من الأضرار التي لحقت بالجهاز وسوء التعاطي مع عملنا المهم".
وفي سياق الاستجابة على التغطية الإعلامية، دافع فريدريكسن (الذي كان قد غادر وزارة الدفاع في العام السابق) عن فيندسن والموظفين الآخرين، الأمر الذي أقحمه في القصة الطويلة نفسها. وسيمضي لاحقاً ليذكر صفقة وكالة الأمن القومي في المقابلات الصحافية.
وفي قفزة سريعة إلى نهاية عام 2021، ظهر فيندسن وهو يحمل رواية "كل الضوء الذي لا نستطيع رؤيته" All The Light We Cannot See في إطار مثوله أمام المحكمة بعد اعتقاله، متعمداً عرض الرواية على الصحافة لحملها على التفكير في ظروف اعتقاله.
يتفق كل من فيندسن وفريدريكسن على أنه من غير الممكن تحديد سبب اعتقالهما وبشكل دقيق، وقد أشار العديد من متابعي القضية إلى خلافات بين فيندسن ومكتب رئيس الوزراء. وقد وجه الاتهام لفيندسن في سبتمبر (أيلول) 2022، ولفريدريكسن في فبراير (شباط) 2023.
إن الأمور ليست منطقية بالنسبة إلى فريدريكسن. ويقول وزير الدفاع السابق إن "الأمر برمته غامض للغاية. لو كانت الحكومة مهتمة حقاً بالحفاظ على سرية تبادل البرقيات مع وكالة الأمن القومي، لكان هذا آخر شيء ستفعله. الآن يعرف العالم كله هذا الأمر، وباتت التفاصيل حول جهاز الاستخبارات الدنماركي متوافرة على نطاق واسع".
وأسقطت التهم عن الرجلين الشهر الماضي، بعد أن قررت المحكمة العليا الدنماركية أنه يتعين على الادعاء الكشف علناً عن مصادره والأدلة التي في حوزته إذا أراد المضي قدماً في المحاكمة. وقال المدعي العام جاكوب بيرغر نيلسن في بيان له إن "المعلومات السرية أساسية في القضايا المعروضة على المحاكم. وعدم القدرة على عرضها لا يترك للادعاء أي سبيل لبرهنة صحة ما يدعيه.
وتصرّ النيابة العامة ووزارة العدل على أن الاعتقالات والتهم كانت مسوغة. كما نفى وزير العدل بيتر هوميلغارد والحكومة الدنماركية ارتكاب أي مخالفات أو تدخل في العملية.
وشدد هوميلغارد في بيان رسمي على "أن اتخاذ خطوات بغرض التحقيق أو توجيه الاتهامات لأسباب سياسية أو لأسباب أخرى غير لائقة من شأنه أن يتعارض بشكل واضح مع هذه المبادئ [سيادة القانون والموضوعية]. ولذلك أودّ أيضاً أن أؤكد أن السلطات الدنماركية لا ترفع قضايا جنائية لأسباب سياسية أو شخصية. إضافة إلى ذلك، إجراءات التحقيق مثل التنصب يجب أن تستحصل على أذن القاضي".
من جانبهم، يشير خبراء قانونيون إلى أن القصة الطويلة برمتها هي غير مسبوقة. مثلاً، يوضح لاسي لوند مادسن، وهو بروفيسور في جامعة آرهوس أن "هذا هو أكبر إضرار أمني ذاتي لهذا القرن. ليست هناك سابقة لما حدث في الدنمارك على مدى العامين الماضيين. إنه أمر غريب تماماً".
وأضاف مادسن "عندما توجه اتهامات لأشخاص من خلال النظام القانوني، عليك أن تكون، كمدعٍ عام للدولة، متأكداً تماماً من أن لديك قضية قوية، وبطبيعة الحال فإن هذا المبدأ ينطبق على الحالة التي تكون فيها القضية مهمة للغاية وقابلة للتحول إلى قنبلة متفجرة، أكثر من غيرها، والقضية المذكورة هي من دون شك الأكبر من نوعها في تاريخ الدنمارك". وتابع "وحقيقة أنكم تعتقلون وتتهمون رئيس جهاز استخبارات سابق ووزير دفاع السابق... إن هذه عادة ممارسات مرتبطة بدول لا نحب أن نقارن أنفسنا بها".
وفي إطار جلسة برلمانية خاصة عُقدت في وقت لاحق من نوفمبر (تشرين الثاني)، دافعت رئيسة الوزراء مته فريدريكسن عن الإجراءات التي اتخذت، وادعت أن الانتقادات الموجهة للمحاكمة المنهارة بأنها مجرد نظريات مؤامرة متهورة. وعندما سُئلت مرات عدة عن تورطها في هذه العملية، نفت صراحة ارتكاب أي مخالفات.
وقالت رئيسة الوزراء "أنفي بشكل قاطع [وجود] أي اعتبارات خاصة، وبالطبع أي تدخل سياسي. وهذا يجب أن يكون واضحاً في حدّ ذاته".
إلا أن كلاوس هيورت فريدريكسن لا يصدق هذا الكلام.
ويرى وزير الدفاع السابق "أن الإجراءات [المتبعة] ضمن الحكومة الدنماركية وما حولها تجعل من المستحيل على كبار المسؤولين عدم معرفة ذلك. ومن الممكن أن تكون القرارات قد اتُخذت في لجنة الأمن الحكومية خلال الإجراءات. ونحن بحاجة إلى معرفة من الذي قام بذلك".
ويزيد "بالنسبة إلي، ما يؤلمني هو انتهاك حقوقنا. إلى حد ما، أنا سعيد لأن كل شيء قد انتهى الآن، غير أن الكثير من الأسئلة التي لم تُجب عليها لا تزال معلقة في الهواء".
أما وزير العدل، هوميلغارد، قال لـ"اندبندنت" "لقد لاحظت أن هناك العديد من نظريات المؤامرة التي يجري تداولها، لكن يمكنني أن أؤكد بشكل قاطع أن القضايا المرفوعة ضد كلاوس هيورت فريدريكسن ولارس فيندسن لم تكن بأي شكل من الأشكال مدفوعة بحوافز سياسية أو شخصية".
ومن المقرر تشكيل لجنة للنظر في الطريقة التي جرى فيها التعامل مع القضايا. وحصلت الحكومة الدنماركية، يوم الخميس (7 ديسمبر/ كانون الأول)، على دعم من حزب "اليسار الأخضر" (حزب الشعب الاشتراكي) SF الذي ينتمي إلى يسار الوسط، للسماح بإسناد إدارة هذه اللجنة، إلى وزارة العدل وليس إلى البرلمان، كما طالبت أحزاب المعارضة الأخرى.
وفي أعقاب انتشار الخبر، اعتبر فريدريك واغه، وهو أستاذ القانون الدستوري بجامعة جنوب الدنمارك، في مقابلة أجرتها معه هيئة الإذاعة الدنماركية أنه "لا ينبغي أن نعلق آمالاً كبيرة على أن يلقي هذا الاتفاق السياسي ضوءاً جديداً على ما حدث. أعتقد أن القليل جداً من عمل اللجنة سيصبح علنياً".
إن مثل هذه اللجنة لن تفعل شيئاً يُذكَر لتهدئة أولئك الذين يعتقدون أن هناك إساءة حصلت في تطبيق أحكام العدالة وأن لها عواقب واسعة النطاق.
هانز يورغن بونيخسن هو أحد هؤلاء. وهو رئيس العمليات السابق لجهاز الأمن والاستخبارات الدنماركي وعمل مع فيندسن لسنوات.
وصرّح لـ"اندبندنت" بأن "اتهام لارس فيندسن بشيء يشبه الخيانة أمر سخيف. أنا سعيد بإسقاط القضايا، لكن لم يجر تبرئتهم، وقد لا يحصل ذلك الآن. لقد عاش لارس فيندسن أوقاتاً عصيبة للغاية".
وأضاف "لست متفائلاً للغاية بشأن الوصول إلى جوهر هذا الأمر. ولسوء الحظ، أعتقد أن إغلاق هذه القضية الآن يناسب الحكومة. لقد كان العامان الماضيان كارثيين على وضعنا الأمني على المستوى الدولي، لكن فيندسن وهيورت فريدريكسن يستحقان تبرئة ساحتهما بشكل كامل".
في الأقل، لن يضطر الاثنان إلى قضاء السنوات المقبلة في الدخول إلى قاعات المحكمة والخروج منها، وكل منهما يقول لـ"اندبندنت" إنه يعتبر أن حكم المحكمة العليا قد وضع حداً نهائياً للمسألة.
ويلفت فريدريكسن "تذكروا أن عمري 76 سنة. لم تكن هذه هي الطريقة التي أردت أن أقضي بها تقاعدي".
© The Independent