Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الآن وهنا... "حرب عالمية ثالثة مجزأة"

183 نزاعاً مسلحاً حول العالم خلال 2023 أعادت إشكالية الهويات التاريخية مع صحوة للقوميات المتشددة التي تذكر بنظرية صدام الحضارات

هل أصبح صدام الحضارات واقعا مؤكدا؟ (لوحة للرسام الأوكراني قسطنطين شيبتيا ـ صفحة الرسام على الفيسبوك)

ملخص

183 نزاعاً مسلحاً حول العالم خلال 2023 أعادت إشكالية الهويات التاريخية مع صحوة للقوميات المتشددة التي تذكر بنظرية صدام الحضارات

على مشارف نهاية العام وفي منتصف ديسمبر (كانون الأول) الجاري، أصدر المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن، النسخة الأخيرة من تقريره السنوي "مسح النزاعات المسلحة".

لا يبدي التقرير تفاؤلاً كبيراً تجاه حالة السلم والأمن الدوليين، بل ومن أسف شديد، فإنه يرسم صورة قاتمة للعنف المتصاعد في الكثير من بقاع وأصقاع العالم.

يوثق التقرير الذي يركز على النزاعات الإقليمية وليس على مواجهات بين القوى الكبرى مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة وحلفائها، نحو 183 نزاعاً لعام 2023، وهو الرقم الأعلى منذ عقود.

يعن لنا هنا أن نتساءل: هل غياب روح الحوار، وظهور نزعة القوميات، تدفع إلى الصدام وتباعد العالم عن الوئام؟ هل عالمنا يمضي في طريق رؤية عالم الاجتماع الأميركي الراحل صموئيل هنتنغتون، الخاصة بالصراع على أسس ومنطلقات ثقافية وعرقية بل ودينية، ينطلق منها تقسيم العالم إلى قسمين أو فسطاطين، الذين معنا والذين علينا، كما تحدث ذات مرة الرئيس الأميركي جورج بوش الابن في سبتمبر (أيلول) الحزين من عام 2001؟

ثم يبقى التساؤل الأشد أهمية: كيف يمكن لما يجري من نزاعات أن تؤسس لنظام عالمي جديد، تشيح عنه صورة السلام، ويعود من جديد إلى دائرة الخصام الكفيلة بزجه في معترك جحيم الحرب العالمية الثالثة؟

صدام الحضارات عودة إلى التنظير

قبل ثلاثة عقود، وتحديداً عام 1991، نشر عالم السياسة والاجتماع الأميركي صموئيل هنتنغتون عبر مجلة "فورين أفيرز"، رؤية أيديولوجية للعالم الحديث وقتها.

بدا ذلك العالم أحادي القطبية، فقد كانت الولايات المتحدة الأميركية هي المهيمنة بامتياز على مقدرات العالم، بعد السقوط المدوي للاتحاد السوفياتي، ونجاح المعسكر الغربي في تفكيك أوصاله.

هل قرأ هنتنغتون بأعين اليمامة ما سيحدث بعد عقود، من صحوات للقوميات، وصراعات على أسس ثقافية وعرقية، يختبئ فيها الجانب العقدي، وإن ظل فاعلاً بصورة كبيرة؟

مؤكد أن ذلك كذلك.

جاءت مقالة هنتنغتون رداً على أطروحة تلميذه فرنسيس فوكاياما الياباني الأصل الأميركي الجنسية، تلك التي عنونها باسم "الإنسان الأخير ونهاية التاريخ"، والتي اعتبرها كثيرون دعوة شمولية، لا تختلف كثيراً عن رؤية الرايخ الثالث الخاصة بالألف عام وبقية الرؤى المشابهة.

في طرح هنتنغتون ركز على أن الصراعات بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون النزعات الثقافية هي المحرك الرئيسي للخلافات والسبب في اشتعال المعارك بين البشر.

لاحقاً بدا وكأن الفكرة قد راقته بعد أن أعاد النظر إليها، ومن هنا مضى هنتنغتون في التوسع في عمله، من مجرد مقال إلى كتاب بعنوان "صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي".

كانت هذه من المرات النادرة التي يعمد فيها مؤرخ أو مفكر ثقيل الوزن إلى القول بمواجهة ومجابهة ستجري بها المقادير حول العالم من منطلق محاصصات حضارية، وأعاد تذكير العالم بـ:

 ** الحضارة الغربية.

** الحضارة اللاتينية.

** الحضارة اليابانية.

** الحضارة الصينية.

** الحضارة الهندية.

** الحضارة الإسلامية.

** الحضارة الأرثوذكسية.

** الحضارة الأفريقية.

** الحضارة البوذية.

كان مختصر رؤية هنتنغتون أن الصدوع الثقافية وليس الأيديولوجية أو القومية يجب أن تقبل نظرياً باعتبارها بؤرة الحروب المقبلة، وقد جادل طويلاً بالقول إن الاختلافات أو الخصائص الثقافية لا يمكن تغييرها كالانتماءات الأيديولوجية، ذلك أن بإمكان المرء أن يغير انتماءه من شيوعي إلى ليبرالي، ولكن لا يمكن للروسي مثلا أن يصبح فارسياً.

وبالمزيد من التعمق في هذا الطرح، بدا وكأن هنتنغتون قد خلص بالفعل إلى وجود معسكرين واحد غربي مسيحي يهودي، في مواجهة آخر صيني كونفوشيوسي إسلامي.

وعلى رغم الانتقادات المؤكدة التي وجهت إلى فحوى نظريته، إلا أن أحداثاً بعينها، لا سيما هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، قد رسختها في أذهان الكثيرين حول العالم، ويبدو أن الامتدادات قائمة حتى اليوم... كيف ذلك؟

عن القرية الكونية والمواطنة العالمية

في ستينيات القرن العشرين، تحدث عالم الاجتماع الكندي الشهير، مارشال ماكلوهان، عن فكرة العالم الذي سيضحى عما قريب قرية كونية صغيرة، وذلك بفعل وسائل الإعلام والاتصال التي ستربط القاصي بالداني، من تلفزة وإذاعة، وهواتف وصحف عالمية سيارة.

لم يقدر للرجل أن يعيش ليرى العالم وكأنه أضحى "صندوقاً للدنيا"، من خلال الهواتف الذكية، التي جعلت الكون برمته في حاجة إلى نقرات خفيفة أول الأمر على أجهزة الكمبيوتر، ثم لمسات أرق على تلك الهواتف، ليختصر المرء خطوات القرية الصغيرة إلى همسات "السوشيال ميديا" المنتشرة عالمياً.

غير أن علامة الاستفهام الحري بنا طرحها: هل حقاً قربت هذه المبتكرات من البشر، أم باعدت بينهم، وشتتتهم في "بابل الإعلام الجديد"، إن جاز التعبير، ما يعني أن القرية الكونية عادت لتتسع من جديد، وتضحى كوناً واسعاً من غير فرص التقاء أو تناغم؟

يبدو أن التجربة الأليمة التي عبرت بها البشرية خلال السنوات الماضية، وذلك حين انفلش فيروس "كوفيد19" المستجد حول البسيطة، قد عادت بنا إلى زمن الحدود المغلقة على سكانها، حيث الخوف من عدم المقدرة على مواجهة الجائحة، أجبرت النزعة الشخصانية على الظهور، ما ترك أثراً بالغاً لدى الكثير من الأمم والشعوب، وجعلها تكذب فكرة التواصل الكوني، أو القرية الصغيرة.

يبدو العالم وعن حق بعيداً من فكرة القرية الكونية التي تحدث عنها ماكلوهان، على رغم ما بلغته وسائل التواصل المعلوماتية من سرعة البرق وما يزيد... لكن لماذا؟

باختصار غير مخل، لأن الحدود لا تزال قائمة، بل ربما مقبلة، من خلال المزيد من تقسيم العالم إلى ما هو مقسم، وصناعة حدود جديدة تعمق الشرخ الحادث في النسيج المجتمعي البشري.

لا تزال التأشيرات قائمة، والمنع أو المنح معلق بأيدي من لهم السلطة والحكم، هذا يسمح بمروه وذاك يرفض دخوله، ما عاد بنا إلى "متلازمة الحدود"، من جديد.

من هنا ارتفعت علامات الاستفهام حول تراجع معدلات الثقة الدولية، الواحد في الآخر، والدولة في جارتها، والتكتل السياسي أو الجغرافي في نظيره.

من هنا لا يبدو عبثاً العودة من جديد إلى سياسات الأحلاف، كما الحال اليوم بين جماعات البريكس، والعشرين، والسبع، وبقية الأطر الدولية الصاعدة، والتي يغلب عليها حس التمذهب والتميز، مجتمعياً وثقافياً، وصولاً لاحقاً إلى العداء الأيديولوجي، ومن ثم اشتعال المعارك الحربية الإقليمية الكبرى، التي يخشى معها العالم الولوج من دون أن يدري القائمين عليها إلى أوان الحرب العالمية الثالثة.

هل ما يجري هو تقارب بلا تفاهم؟

غالب الظن أن عجلات المعلوماتية تتسارع، لكن البشر لا يتفاهمون، بل يتشاحنون في سعيهم للملكية ولتحقيق الأرباح وللصعود الحياتي على مختلف الأصعدة، ومن غير إيلاء أي اهتمام للآخر... هل من أمثلة توضح عمق الأزمة الحائرة والسائرة، ما بين قرية كونية متباعدة الأرجاء، وبين حلم يوتوبي في إنسانية واحدة؟

روسيا ـ أوكرانيا... "سلاف" الشرق والغرب

تبدو الحرب الروسية- الأوكرانية، والتي تدخل عما قريب عامها الثاني، نوعاً من أنواع الحروب ذات الأثر الثقافي والحضاري المحير للغاية، فقد كان من الطبيعي أن يتفهم المرء صراعاً صينياً – روسياً، انطلاقاً من جذور حضارية وعرقية مغايرة، ما بين روس أرثوذكس سلافيين، وبين صين كونفوشيوسيين، لا تتماهي طبقاتهم الحضارية ولا الثقافية مع جيرانهم.

أما الغريب والمقلق، هو أن يشاهد المرء شعبين من خلفية سلافية واحدة، وهم الروس والأوكران، يتصارعون إلى حد إمكانية إشعال العالم عبر حرب عالمية ثالثة.

فداحة المشهد هنا أننا نتكلم عن سلافيين شرقيين متمثلين في الروس، وسلافيين غربيين متمثلين في الأوكرانيين، ما يجعل المرء يفر من جديد ليقلب صفحات كتاب هنتنغتون، بعد أن بدا الطرح الثقافي غالب على ما عداه من علائم الاتفاق.

توضح الحرب القائمة اليوم في أوكرانيا أن مشاعر الهوية القومية الأوكرانية، قد نمت بشكل قوي على رغم الإرث السلافي المشترك مع روسيا، مشاعر تقولب هذه القومية ضمن الحضارة الأوروبية وفرادة أصولها التي لا تتحمل كثيراً التعدد الديني خارج المسيحية.

فرادة أصول تدعي مرجعية اليونان القديمة وروما في أصولهما، على رغم أن هاتين الحضارتين التاريخيتين كانتا أساساً متوسطيتين، أي تتشاركان مع الضفة الأخرى للمتوسط، قبل أن تكونا أوروبيتين. وهوية أوروبية تبدو اليوم على نقيض الهوية الروسية التي تتقبل أن يتم تطبيق الشريعة الإسلامية في أحد أجزائها، أي الشيشان.

بعد اندلاع أعمال الحرب بين موسكو وكييف، كتبت "نيويورك تايمز" تقول إن بوتين يمارس ضد أوكرانيا نوعاً من صراع الحضارات، يهدف إلى تشكيل عالم روسي مواز.

المقال جاء على لسان المحلل السياسي الشاب روس دوثات، وفيه أنه من الممكن أن يكون بوتين قد افترض أن الغرب فاسد للغاية وأن من السهل شراءه، للحد الذي ستمر معه نوبات الغضب ويستأنف علاقته المعتادة معه من دون أي عواقب طويلة المدى. لكن لنفترض أنه يتوقع حدوث بعض من هذه العواقب بما في ذلك مستقبل أكثر عزلة لبلاده، فما الذي يدفعه لاختيار هذا الطريق؟

 قد يكون الجواب وبحسب دوثات، هو أن بوتين يعتقد أن عصر قيادة أميركا للعالم في نهايته لا محالة، وأن بعض الجدران التي فرضها الوباء ستبقى في كل مكان، وأن الهدف خلال الـ 50 عاماً المقبلة هو تعزيز ما يمكن تعزيزه من الموارد والمواهب والشعوب والأراضي داخل أسوار حضارتك القديمة.

انطلاقاً من هذه الرؤية، فإن المستقبل ليس لإمبراطورية عالمية ليبرالية، ولا يحمل حرباً باردة متجددة بين قوتين عالميتين متنافستين، بل المستقبل لعالم مقسم إلى ضرب مما أطلق عليه برونو ماسيس الباحث بمعهد هدسون الأميركي "حضارات دول"، وهي قوى عظمى متماسكة ثقافياً لا تطمح للهيمنة على العالم، بل تطمح لأن تكون عالمها الخاص به على حدة تحت مظلتها النووية الخاصة.

هنا لا يعود العالم بالفعل قرية كونية واحدة، بل جزر منعزلة منطلقة من إرث ثقافي وعقدي واجتماعي.

هذه الفكرة التي تحمل رائحة حجج هنتنغتون، يمكن أن تؤثر بوضوح على العديد من القوى الصاعدة في العالم، وفي الهند عند نارديندرا مودي، المثل الواضح لرفض الحضارة الغربية والتمترس وراء ثقافة خاصة، والأمر ينسحب كذلك على الصين.

أي نماذج أخرى تقطع بأن العالم يرجع إلى الوراء في سياق الحوار والجوار الحضاري؟

حرب غزة والعودة إلى الدوغمائيات

هل جاءت الحرب الأخيرة في غزة لتكشف لنا وجهاً جديداً من أوجه الأزمة الحضارية المنبثقة من معطيات ثقافية؟

المؤكد أن إشكالية القضية الفلسطينية تتجاوز في واقع الحال أي قضية سياسية أخرى، حتى ولو كانت قضية التمييز العنصري في جنوب أفريقيا في النصف الثاني من القرن الماضي... لماذا؟

باختصار مفيد، في الحالة الجنوب أفريقية، كان الصراع نسبياً وليس مطلقاً، بمعنى أنه كان خلافاً سياسياً، ولا جذور عقدية دينية إيمانية من ورائه، كما الحال في الأزمة الفلسطينية، والتي يكاد القائمون عليها ينطقون بألسنة ثيولوجية لا سياسية.

من هنا اشتعل الحديث مجدداً حول العالم، بين فسطاط يرى الحق الفلسطيني من وجهة نظر دينية، وقبل أن تكون فلسطين قضية سياسية وإنسانية لأرض محتلة وشعب مقهور، وفسطاط آخر يرى أنها أرض موعود بها إلهياً لشعب بعينه، وإنه قد حان الوقت ربما لتحقيق إسرائيل الكبرى من الفرات إلى النيل.

في الأيام الأولى للمعارك، تحدث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو عن ملامح الأزمة، ولم يوفر الاستعانة بنصوص توراتية تثبت صحة كلامه، ما حول المشهد من قضية سياسية يمكن التفاوض من حولها، إلى أزمة عقائدية مطلقة، لا تقبل قسمة الغرماء، بل تقود حكماً عبر مسارات العزل والإقصاء، وإلى آخر المفاهيم الأحادية.

بعد آخر عمق رجوع مساحات الحوار والتفاهم بين الشرق والغرب إلى الوراء حضارياً، بعدما كاد العالم أن ينسى أحداث واشنطن ونيويورك عام 2001، لا سيما بعد أن احتل النزاع الروسي- الأوكراني المرتبة الأولى في أولويات الغرب، وزادت حدة الانشغال مع صعود الصين.

ظهر الموقف الغربي برأس حربة أميركية في موقف المرائي والمزدوج الأخلاق، ذلك أن الناتو بجانبيه شرقاً وغرباً قد اتخذ موقفاً صريحاً وقوياً من رفض الهجوم الروسي على أوكرانيا، وذرف الكثيرون الدموع على المدنيين العزل في أوكرانيا، وبدأت ترسانات أوروبا وأميركا مفتوحة أمام زيلينسكي، في مقابل هذا كله، رأينا الولايات المتحدة الأميركية، تستخدم حق النقض الفيتو داخل مجلس الأمن، قطعاً للطريق على التوصل إلى قرار يلزم إسرائيل على وقف إطلاق النار وحماية الأبرياء العزل من الموت المخيم على رؤوسهم صباح مساء.

هنا يضحى من الطبيعي أن تمتد التبعات السلبية في عقول وقلوب الملايين حول العالم، وحتى من خارج العالم العربي والشرق الأوسط، ويرسخ لدى الجميع مفهوم الغرب الذي يكيل بمكيالين، انطلاقاً من خلفيات عرقية دينية، ما يعني أن أجيالاً بأكملها سوف تؤمن وتصدق بما جاء به هنتنغتون قبل ثلاثة عقود، وربما يستمر الإيمان عينه إلى عقود أطول مقبلة لا محالة.

أخيراً تحدث الفيلسوف الفرنسي ذي الحضور الإعلامي الكبير، ميشال أونفراي، عن قناعته بأن الحرب في غزة تؤكد كما ورد في كتاباته سابقاً، رأي هنتنغتون حول الصراع بين عالم الشرق الإسلامي وعالم الغرب ذي العقلانية ذات الجذور اليهودية ـ المسيحية. فتصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي اعتبر زيارته إلى إسرائيل في بداية الأحداث مرتبطة بيهوديته كشخص أكثر من بعدها الرسمي مثال على ذلك، وفي نفس الاتجاه يمكن اعتبار تصريحات بعض المسؤولين في الدول الغربية، إضافة كذلك إلى خطاب المقاومة الفلسطينية ذي المسحة الإسلامية.

صحوة اليمين الأوروبي ورفض الآخر

من بين حساب الحصاد لهذا العام، يأتي التسارع الكبير في صحوة اليمين الأوروبي، الأمر الذي بات مهدداً حقيقياً لعالم التعايش والتسامح، التواد والرحمة.

هنا يحق علينا التساؤل: من يهدد هذا الصعود في البداية؟

الشاهد أول الأمر أنه يهدد الأوروبيين أنفسهم، بمعنى أنه يزكي في أروقتهم روح الرايخ الثالث مرة أخرى، حيث اعتبر النازيون أنهم شعب آري، أي سلالة بشرية منتقاة ومختارة، ترتفع كثيراً عن بقية مستوى الشعوب الأوروبية.

ولعل التيارات القومية التي ظهرت في ألمانيا، وبعضها مضى في طريق التعاطي العسكري مع الداخل الألماني، وبلغ الأمر حد التفكير في انقلاب مسلح، تؤشر إلى عمق الخطر الحاصل أوروبياً.

هنا تبدو أوروبا في مواجهة مخيفة مع استحقاقات هذه الأحادية التي ترفض الآخر، فيما تتنكر لإرث أوروبا التاريخي من التنوير والعدالة، من الإخاء والمساواة، ذلك الإرث الذي كفل له مسارات ومساقات من الأنوار التي لا تعمي، فيما هذه الصحوات غير الحضارية، كفيلة قولاً وفعلاً بأن تصيب الكثيرين بعمى البصيرة قبل البصر.

لا يتوقف صعود اليمين المتطرف أوروبياً عند حدود دولة بعينها، ففي بولندا حصد حزب "القانون والعدالة" 235 مقعداً في البرمان البولندي من أصل 460 أي 51 في المئة، وفي ألمانيا حاز حزب "البديل من أجل ألمانيا"، على أول منصب قيادي على مستويات البلديات في ولاية تورنغن شرق ألمانيا في يونيو (حزيران) 2023.

أما في فرنسا فقد حصلت زعيمة حزب "التجمع الوطني" على 41.8 في المئة من الأصوات في الجولة الثانية للرئاسة أمام الرئيس ماكرون، ما يعني أنه ربما عما قريب نرى ساكن الإليزيه من هذه الخلفية، وفي المجر فاز حزب "فيدس" اليميني على 59 في المئة من الأصوات في الانتخابات البرلمانية في أبريل (نيسان) 2022، أما المفاجاة الكبرى، ويمكننا أن نسميها مفاجأة متوقعة، فتمثلت في فوز المتشدد الهولندي غيرت فيلدرز بـ37 مقعداً لحزبه في آخر انتخابات برلمانية ما يعني أن اليمين قادم للسلطة هناك.

ما الذي يعنيه هذا التوجه السياسي الأوروبي، الذي يتبدى اليوم نظرياً أيديولوجياً، غير أنه حكماً سوف ينحو لأن يكون إجراءات على الأرض مع غير المؤيدين أو المعتنقين لتوجهاته، وصولاً إلى المواجهات المسلحة خارج الأفق الجغرافي لأوروبا في يوم قريب؟

غالب الأمر أن هناك عنصراً مهماً ضائعاً في زحام الحياة من جراء الأزمات المتنامية سياسياً واقتصادياً التي واجهت أوروبا وتم استغلالها بشكل فائق من تلك الجماعات اليمينية... ماذا عن هذا العنصر الضائع ومن تنبه له، وما مدى خطورة إضمحلاله من داخل النفس والعقل الأوروبيين، وهل له أن يمتد في اتجاه الجانب الغربي من الأطلسي، أي إلى قلب الولايات المتحدة الأميركية؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عن غياب لغة الحوار ورفض الآخر

من أكثر الشخصيات ذات الوضعية والحيثية المهمة أدبياً لا عسكرياً ولا اقتصادياً في الداخل الأوروبي، يأتي بابا روما، البابا فرنسيس، الذي لم ينفك ينذر ويحذر من غياب ثقافة الحوار، وتفضيل القطيعة عوضاً عنها.

أكثر من مرة تحدث فرنسيس عما يعيشه عالمنا المعاصر من أزمات وحروب، وقد بلغ به الأمر ذات مرة أن وصف الحروب التي تشتعل حول الكرة الأرضية اليوم، بأنها نوع من "الحرب العالمية الثالثة المجزأة".

هل تمضي التطورات بالبشرية المعاصرة تجاه الحرب العالمية الثالثة التي لا تبقي ولا تذر؟

فرنسيس يجزم أكثر من مرة بأن ثقافة الكراهية ومحاولة نفي الآخر هي السبب في توالد الحروب في النفوس والعقول، قبل أن تمتد إلى ميادين وساحات القتال.

يفيد غياب الحوار بأن هناك رغبة في تلاشي الآخر من الوجود وعدم الاعتداد بوجوده، ما يفرز المزيد من التحيز الأيديولوجي، والصراع الهوياتي من جانب طبقات بعينها غالباً قابضة على جمر المسؤوليات، وفي مواجهة طغمة من المفكرين الذين يرفضون هذه الأحادية الأقرب إلى الشمولية والتوتاليتارية.

هل العالم في مواجهة أزمة، وربما أزمات حقيقية؟

الجميع يتحدث عن صياغة نظام عالمي جديد، وأن النظام الحالي الأحادي القطب إلى زوال، حيث لن تبقى أميركا "سيدة قيصر" التي تأمر فتطاع، غير أن علامة الاستفهام المطروحة على موائد النقاش في المراكز الفكرية العالمية: كيف يمكن إيجاد صيغة تعايش إنسانوي، تقفز على الأنانية والتمركز حول الذات، وفتح الآفاق للتعاون الخلاق؟

مما لا شك فيه أن المشكلات التي يخلفها 2023 من ورائه، يمكنها أن تتفاقم في غياب الحوار والقبول بالآخر، ما يعني أنه ليس أمامنا من مجال سوى القفز فوق الأحادية، والإيمان بالتعددية، التي تغني، لا تلك التي ينقسم من حولها العالم في مراكز أو حضارات متناحرة كما رأى هنتنغتون ومن يتبعه إلى اليوم.

المزيد من تقارير