ملخص
من كان الأوفر حظاً بين الديكتاتور النازي والدوتشي الإيطالي أمام محكمة التاريخ؟
كانت أمور كثيرة تجمعهما حتى من قبل أن يترابط مصيراهما وينتهيان في زمن متقارب بشكل لم يكونا يتوقعانه ولا يصدقه أنصارهما حتى اليوم. صحيح أن كثيراً من المصائر التي سارا على دربها وعجلت من نهايتيهما بعد أن تسببا في كل تلك المجازر وصنوف الدمار التي أعادت أوروبا، وأجزاء كثيرة من العالم، إلى عصور الخراب عند نهايات النصف الأول من القرن الـ20، كانت متوقعة، غير أن ما لم يكن متوقعاً بالتأكيد أن يجتمعا بعد موت كل واحد منهما في قضية مشتركة وتكاد تكون متطابقة في وسمها ما بعد نهاية كل منهما بسنوات، قضية لا علاقة لها لا بالحروب ولا بالمجازر بل باليوميات التي ظهرت وهما هادئان في قبريهما غير قادرين على التحدث عنها أو إنكار وجودها. هي يوميات فاجأت العالم حين أعلن عنها وفاجأته أكثر حين تبين أنها في نهاية الأمر يوميات مزيفة حتى وإن كان قد صدقها كثر وما زالوا يفعلون حتى اليوم بعد عقود من اندلاع ما سوف يسميه آخرون، فضيحتهما المدوية. ولئن كانت حكاية "يوميات هتلر" معروفة منذ هبطت بسمعة الصحافة الألمانية المعروفة عادة بجديتها إلى الحضيض، فإن حكاية، بل فضيحة يوميات موسوليني لم تعرف في العالم كما حال تلك التي نسبت إلى هتلر، وذلك لأسباب ستلوح لنا في السطور التالية.
فضيحة هتلرية
قبل ذلك لا بد من التذكير بـ"الفضيحة" الأكثر صخباً، التي شغلت العالم وعالم الصحافة أكثر من أي فضيحة أخرى والمتعلقة بـ"يوميات هتلر". ففي ربيع عام 1983 وخلال مؤتمر صحافي نظمته مجلة "شتيرن" الألمانية في هامبرغ لتجمع فيه عشرات الفرق التلفزيونية ومئات من الصحافيين، أعلنت المجلة أنها تملك الآن حقوق نشر ما سمته يوميات هتلر الحميمة التي كان جندي أميركي قد عثر عليها في حطام طائرة أسقطت غير بعيد من مدينة درسدن في عام 1945 وهي يوميات ستعلن المجلة عن مواعيد نشر حلقات منها بعد أن أكد صحتها عدد من كبار المؤرخين، ومن بينهم الإنجليزي هيو ترفور هوبر الشهير بدقة متابعته للتاريخ النازي لا سيما في كتابه "آخر أيام هتلر". وبالفعل ما إن مرت بضعة أيام حتى نشرت "شتيرن" الحلقة الأولى من سلسلة كانت ستمتد على عشرات الحلقات لكنها لن تمثل سوى جزء يسير من "اليوميات" الموزعة "بخط هتلر" على أكثر من 60 كراساً، ولكن ما إن مضت أيام أخرى حتى اندلعت الفضيحة حيث أكد الخبراء بما لا يدع مجالاً لأدنى شك، أن هتلر لم يكتب تلك اليوميات وهو الذي كان يحب الحكي ولكن ليس الكتابة. ويعرف كثر بقية الحكاية: اعترفت "شتيرن" بأنها خدعت وأنفقت أموالاً طائلة على نص مزيف كان من المستحيل أن يكتبه هتلر بغض النظر عن إمكانية أن يمليه على آخرين. وانتهت الحكاية لدى القضاء وفي زنزانات السجون.
من هتلر إلى موسوليني
لكن الأهم من ذلك أن الحكاية أعادت إلى الأذهان حكاية مشابهة تتعلق هذه المرة بـ"شريك الفوهرر في السراء والضراء" الديكتاتور الفاشي الإيطالي بنيتو موسوليني بيوميات ظهرت باكراً منذ عام 1947 وحصل عليها هي الأخرى جندي أميركي فاحتفظ بها بوصفها غنيمة حرب، ولكن ظهور تلك اليوميات بعد حين لن تكون له الضجة التي ستكون لـ"يوميات هتلر". ولأسبات تبدو مقنعة. فعلى عكس الديكتاتور النازي، كان معروفاً أن موسوليني كان يحب الكتابة. وحتى إن لم تكن "يومياته" متقنة فإنها تضمنت تعليقات يومية لا شك في إمكانية أن تكون صحيحة ومع ذلك سرعان ما سوف يتبين أن زوجة ضابط في شرطة جمهورية سالو وابنته قد دونتاها مقلدتين خط الزعيم ولكن انطلاقاً من أفكار كان دائماً ما يعبر عنها بلغته الفصيحة حقاً وتمكنتا من العودة إلى صحافة تلك المرحلة وتصريحات موسوليني خلالها لتبدو التعليقات الموزعة بدورها على ألوف الفقرات وكأنها من كتابته حقاً. ولقد عزز من "صدقية" تلك اليوميات أن كاتبها –أو بالأحرى كاتبتاها– كان دقيقاً حتى في وصفه للطقس اليومي الذي كان سائداً حين سجل ذلك الكاتب تعليقاته على الأحداث ورأيه فيها. ومهما يكن من أمر هنا وعلى الرغم من إتقان المرأتين لما دونتاه، فإن عائلة الديكتاتور، لا سيما ابنه رومانو أعلنا على الفور أن النص مزيف جملة وتفصيلاً. ومع ذلك لم يتردد الناشر ماندادوري في دفع 22 مليون ليرة إيطالية مقابل نشر اليوميات في عدة مجلدات. غير أن المزيفتين كانتا من الطمع بحيث عرضتا نشر النص الطويل في حلقات على... صحيفة "كورييري ديلا سيرا" التي بعد دراسة للأمر أعلمت البوليس بتفاصيل الحكاية وبكونها بعد تحقيق في الأمر يمكنها أن تؤكد أن اليوميات مزيفة. وانتهى الأمر بالمزيفتين في زنزانتي سجن.
الحكاية متواصلة
لكن الحكاية لم تنتهِ هنا. ففي عام 1967 أعلن فتوريو موسوليني الابن الذي كان الأكبر بين أبناء موسوليني الباقين على قيد الحياة، أنه راجع موقفه وتبين له "بشكل قاطع" أن اليوميات حقيقية وأنه يضمن ذلك شخصياً. فكان أن نال سيارة "جاغوار" مقابل تلك الضمانة. ولقد نشرت أجزاء من تلك اليوميات حينها مع تقديم لها دونه فيتوريو موسوليني بنفسه. ولئن ظهر حينها من بين المؤرخين والخبراء من أنكر من جديد صحة اليوميات لا سيما من بين خبراء الخطوط الذين أكدوا أن الخط الذي دونت به اليوميات لا يمكن أن يكون خط الديكتاتور الراحل، فإن المدافعين عن "صحة" اليوميات لم يأبهوا لذلك بل قالوا إن الديكتاتور يمكن أن يكون قد أملى النص على مساعدين له. وإذ قال الخبراء إن اللغة لا يمكن أن تكون أصلاً لغة موسوليني سيرد أصحاب نظرية صحة اليوميات بأن الرجل بعد أن أملى النص على مساعديه طوال أشهر أمضاها على رأس جمهورية سالو الفاشية التي أقامها النازيون الألمان موالية كلياً لهم بعد أن كان الحلفاء قد احتلوا الأقسام الجنوبية من الأراضي الإيطالية فانعزل موسوليني في المناطق الشمالية حيث توافر له من الوقت ما مكَّنه من إملاء هذا النص، عمد في نهاية الأمر إلى إعادة صياغة فصول عديدة منه من دون أن يتاح له أن يكمل المهمة تماماً. و"هذا ما يفسر في رأيهم تلك الشوائب التي تسيء إلى النص لكنها لا تلغي صحته" كما أكدوا.
والحقيقة أن أقوالهم هذه بدت مقنعة، إن لم يكن للمؤرخين والخبراء فللجمهور العريض، لم يعد ثمة ما يمنع الآن –أي منذ عام 2010 الذي اندلعت فيه هذه القضية من جديد وربما للمرة الأخيرة بشكل تخطى الحدود الإيطالية ليصل إلى "العالم الخارجي"– طباعة وإعادة طباعة هذا النص الذي ينحو كثر من الإيطاليين إلى اعتباره نوعاً من "وصية سياسية حقيقية" إن لم تكن من نتاج قلم موسوليني بشكل مؤكد، فإنها وفي الأحوال جميعاً تحمل أفكاره وآراءه السياسية والاجتماعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أمام لعنة التاريخ
والحال أن الكتاب صدر منذ ذلك العام 2010 عشرات المرات لدى عدد لا بأس به من دور النشر الإيطالية وغالباً في طبعات شعبية لم يعد الناشرون في حاجة إلى قرصنتها بعد أن بات النص "حقاً عاماً" وأفلت حتى من يد ذرية موسوليني وأحفاده. ولعل ما يمكن ملاحظته أن ألوفاً من نسخ طبعات الكتاب المختلفة تباع بشكل متواصل في إيطاليا، وبخاصة منذ عودة الفاشيين إلى السلطة قبل سنوات قليلة وتحول الإيطاليين إلى الفاشية، لا سيما وقد استعادت الجماهير الإيطالية ارتباطها كوريثة لإيطاليا اليسارية التي كانت تقرأ هذه اليوميات على سبيل التسلية والسخرية، تبجيلها لتاريخ موسوليني ومكانته في التاريخ الإيطالي. ولعل في إمكاننا أن نقول هنا إنه لئن كان موسوليني يبدو لنا انطلاقاً من هذه الحكاية تحديداً أوفر حظاً من هتلر، فإن ثمة سؤالاً يبدو ممكناً في هذا السياق، ويتعلق بما إذا لم يكن الديكتاتور الألماني أوفر حظاً على الرغم من كل شيء بالنظر إلى أن غياب يومياته يجعله أكثر غياباً عن لعنة التاريخ من موسوليني الذي تنتشر "يومياته" اليوم في كل بيت إيطالي مذكرة الناس الأكثر حصافة من أبناء إيطاليا بحقبة سوداء من تاريخهم؟