ملخص
كيف يمكن أن ينعكس الجدل حول قضية التمييز العرقي على التعليم الجامعي والمناخ السياسي في عام الانتخابات الأميركية؟
على رغم دعم مؤسسة جامعة "هارفارد" العريقة لرئيستها كلودين غاي عقب اتهامها بالتساهل مع معاداة السامية في الجامعة المرموقة، فإنه لم تمر سوى أيام قليلة حتى بدأت حملة اتهمتها بالانتحال الأكاديمي، وتفجرت تساؤلات أخرى حول قيادتها وكفاءتها لتنتهي رئاستها القصيرة للجامعة باستقالتها يوم الثلاثاء الماضي.
غير أن هذه القصة أثارت جوانب جدلية حول قضية التمييز العرقي في الولايات المتحدة، وامتدت أيضاً لتشمل قضايا ثقافية وسياسية وتعليمية أخرى بين الجماعات المحافظة والليبرالية، فما أوجه الخلاف؟ وكيف يمكن أن ينعكس على التعليم الجامعي والمناخ السياسي في عام الانتخابات الأميركية؟
بداية المعركة
من المرجح أن كلودين غاي، التي تعد أول شخصية سوداء تقود جامعة "هارفارد" منذ تأسيسها قبل 387 عاماً، كانت ستظل رئيسة للجامعة لولا طريقة تعاملها مع الصراع الذي اندلع في الحرم الجامعي منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حينما شنت حركة "حماس" الفلسطينية هجوماً مباغتاً على إسرائيل تبعته هجمات إسرائيلية عنيفة على قطاع غزة، إذ تعرضت لموجة انتقادات فورية من المانحين اليهود والمتعاطفين مع إسرائيل، وعندما سألتها الجمهورية المتشددة في مجلس النواب ليز ستيفانيك خلال جلسة استماع بالكونغرس عما إذا كانت "الدعوة إلى الإبادة الجماعية لليهود تعتبر مضايقة بموجب مدونة قواعد السلوك في جامعة هارفارد"، جاوبت غاي استناداً إلى الجانب القانوني قائلة، "يمكن أن يكون كذلك، بحسب السياق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن تلك الإجابة اعتبرها كثيرون مراوغة، مما حفز خصومها الذين انزعجوا من الدعم الذي نالته غاي من مؤسسة جامعة "هارفارد"، التي كان من الممكن أن تقيلها من منصبها تحت الضغط، ولم تمر سوى أيام قليلة حتى بدأت الصحف ووسائل الإعلام المحافظة مثل "واشنطن فري بيكون" حملة اتهمت فيها غاي بالسرقة الأدبية في أعمالها الأكاديمية فضلاً عن اتهامات أخرى بعدم الكفاءة، وادعى الملياردير اليهودي المناصر لإسرائيل بيل أكمان، وهو أحد أبرز المانحين لجامعة "هارفارد" أن أعضاء مجلس إدارة الجامعة، التي تعد من أفضل جامعات العالم، لم يأخذوا في الاعتبار خلال البحث عن رئيس للجامعة سوى المرشحين الذين يتناسبون تماماً مع أهداف التنوع العرقي، منتقداً هذه الممارسة التي اعتبر أنها تأتي بشخصيات لم يكن من الممكن أن يحصلوا على هذه المناصب لولا وجود عنصر العرق.
أسباب الاستقالة
وانضمت شخصيات بارزة أخرى للحملة مثل فيرنون سميث، خريج جامعة "هارفارد" والحائز على جائزة "نوبل" في الاقتصاد لعام 2002، الذي اعتبر أن غاي حصلت على منصبها في الجامعة لاعتبارات تتعلق بقواعد التنوع والمساواة والشمول، وليس على أساس المؤهلات الأكاديمية القوية، وأنها تشويه لسمعة "هارفارد"، مشيراً في الوقت ذاته إلى أن هناك كثيراً من السود البارعين الذين لا يحتاجون إلى مثل هذه المساعدة.
أدت الأسئلة والانتقادات المتزايدة حول غاي وقيادتها إلى تسريع النقاش بين أعضاء مجلس إدارة الجامعة المكون من 12 عضواً حول ما إذا كان بوسع غاي الاستمرار في القيادة بفاعلية، ومع اقتراب رئيسة الجامعة من الاعتقاد بأنها قد لا تستطيع ذلك اختارت الاستقالة، لكن المدافعين عنها يعتقدون أن العنصرية تكمن وراء كثير من الانتقادات الموجهة إلى مؤهلاتها، قائلين إن الأبحاث تشير إلى أن النساء السود في المناصب القيادية أكثر عرضة من غيرهن لجعل الناس يشككون في كفاءتهن.
في مقالة نشرتها صحيفة "نيويورك تايمز" يوم الأربعاء، كتبت غاي "إن أولئك الذين شنوا حملة بلا هوادة للإطاحة بي غالباً ما يتاجرون بالأكاذيب والإهانات الشخصية، وليس بالحجج المنطقية، لقد أعادوا إنتاج الصور النمطية العنصرية حول موهبة السود ومزاجهم، ودفعوا برواية كاذبة عن اللامبالاة وعدم الكفاءة".
ضحية التمييز العرقي
وكتب مجلس إدارة الجامعة بياناً قال فيه إن الرئيسة غاي اعترفت بالأخطاء وتحملت المسؤولية عنها، وأظهرت مرونة في مواجهة الهجمات الشخصية العميقة والمستمرة، لكن كثيراً مما ظهر في المجال العام اتخذ شكل انتقادات لاذعة بغيضة وفي بعض الحالات عنصرية موجهة إليها من خلال رسائل البريد الإلكتروني والمكالمات الهاتفية المشينة، وهو ما جعل المجلس يدين هذه الهجمات، كما عبر أعضاء مجلس المشرفين على الجامعة، وهو هيئة إدارية أقل قوة، عن تعاطفهم مع استقالة غاي معتبرين أنها كانت ضحية.
وانتشر هذا التعاطف أيضاً في جميع أنحاء الأوساط الأكاديمية حتى خارج "هارفارد"، إذ تبنى حلفاء غاي وأنصار العدالة الاجتماعية هذه الدعوة، وعلى سبيل المثال انتقد البروفيسور في جامعة بوسطن إبراهيم كيندي، ما وصفهم بالغوغاء العنصريين الذين لن يرتاح لهم بال حتى يطيحوا بجميع السود من مواقع السلطة والنفوذ كما قالت كيت باركر، أستاذة الهندسة الحيوية في "هارفارد"، إن ما يحدث أكبر بكثير من الجامعة، وأكبر بكثير من التعليم العالي، فهو إنكار للأجندة التقدمية بعد أن سمحت مؤسسة "هارفارد" للجامعة بالسيطرة على الناشطين ذوي الميول اليسارية.
وانتقد نشطاء بارزون في مجال الحقوق المدنية استقالة رئيسة "هارفارد" ووصفوها بأنها هجوم على القادة السود وبخاصة النساء، إذ اعتبر القس آل شاربتون استقالتها اعتداء على صحة وقوة ومستقبل مبادئ التنوع والمساواة والشمول. وقال جاناي نيلسون، رئيس صندوق الدفاع القانوني والتعليم التابع للرابطة الوطنية لتقدم الملونين، إن الهجمات ضد كلودين غاي تكشف عن التحيزات، وإن استقالتها في أعقاب استقالة مماثلة من رئيسة جامعة "بنسلفانيا" ليز ماغيل بعد احتجاجات على أدائها في جلسة استماع بمجلس النواب حول معاداة السامية في الجامعات، تشكل سابقة خطرة في المطاردة السياسية.
تفكيك برامج التنوع
غير أن ما يجعل القضية أكثر سخونة في الوقت الحالي أن استقالة غاي جاءت متزامنة تقريباً مع محاولات المحافظين في جميع أنحاء الولايات المتحدة تفكيك البرامج التي تهدف إلى تعزيز التنوع في الحرم الجامعي ودعم الطلاب الممثلين تمثيلاً ناقصاً، بخاصة بعد أن أدى قرار من المحكمة العليا الأميركية العام الماضي إلى منع الجامعات من النظر في العرق عند اتخاذ قرارات القبول في الجامعة، والذي كان سارياً في الماضي بهدف منح الطلاب من الفئات العرقية المختلفة فرصاً متساوية في الجامعات، الأمر الذي أدى إلى تعزيز الضغط لإنهاء جهود التنوع.
وخلال رئاستها القصيرة لجامعة "هارفارد" التي لم تزد عن ستة أشهر، لعبت غاي دور وكيل التغيير، ودفعت لتأصيل المثل التقدمية بحسب ما وصفتها صحيفة "وول ستريت جورنال"، بما في ذلك سعيها إلى مزيد من التنوع العرقي بين أعضاء هيئة التدريس والتخصصات الأكاديمية، وهو ما حظي بالمعجبين، لكنه جلب أيضاً المنتقدين حيث فرضت الجامعة أحياناً عقوبات على الأساتذة ورفضت دعوة بعض المتحدثين ذوي وجهات النظر المحافظة، وتراجع ترتيب الجامعة في حرية التعبير مقارنة بالجامعات الأخرى.
وتزامنت حملتها من أجل التغيير مع حركة "مي تو" أو "أنا أيضاً" المدافعة عن النساء وتضمنت محاسبة عديد من أعضاء هيئة التدريس الأقوياء في شأن مزاعم التحرش الجنسي وسلوكيات أخرى، الأمر الذي دفع عديداً من النساء في الحرم الجامعي إلى الإشادة بأفعالها، لكن أعضاء آخرين في هيئة التدريس اعتبروا أن بعض التحركات لها دوافع سياسية.
وفي عام 2020، بعد مقتل جورج فلويد على يد ضابط شرطة في مينيسوتا، كتبت غاي لأعضاء هيئة التدريس أن "المأساة فرضت مواجهة مع الكراهية القديمة والإرث الدائم للعنصرية وعدم المساواة ضد السود".
معركة تعليمية
مع ذلك يبدو أن الحملة الناجحة للإطاحة برئيستين من رابطة "آيفي ليغ" التي تضم أرقى ثماني جامعات أميركية، شجع المشرعين الجمهوريين وحلفاءهم المحافظين، الذين يعتقدون أنه أصبح لديهم زخماً وقواعد جديدة يمكن من خلالها تغيير ما يعتبرونه استيلاء التقدميين اليساريين على التعليم في الولايات المتحدة، ويقولون إن الأميركيين أصبحوا أكثر تشككاً في المناهج الليبرالية ومراعاة قضية التنوع العرقي في الترقيات الأكاديمية بعد التدقيق الذي يقوم به مديرو الحرم الجامعي مثلما فعلوا مع كلودين غاي.
ويشير الباحث في مؤسسة "هيرتاج" المحافظة مايكل غونزاليس، إلى أن هناك فرصة سانحة يجب أن نتأكد من عدم إغلاقها، فيما اعتبر المشرعون والناشطون المحافظون أنهم سيستفيدون من انتصاراتهم الأخيرة من خلال الضغط من أجل مزيد من التغييرات على المستوى الفيدرالي ومستوى الولايات، وعلى سبيل المثال قالت النائبة الجمهورية ورئيسة لجنة التعليم والقوى العاملة بمجلس النواب فيرجينيا فوكس، إنها وزملاءها سيطلقون مبادرات سياسية من أجل مواجهة الاستيلاء العدائي على التعليم الجامعي من الناشطين السياسيين، وأصحاب سياسة الاستيقاظ اليسارية بين أعضاء هيئة التدريس والإداريين الحزبيين.
وتعمل مؤسسة "هيرتاج" حالياً على صياغة مشروع قانون لمشرعي الولايات من شأنه تقليص برامج التنوع والمساواة والشمول في الجامعات التي تمولها الولايات، كما أنها تضغط من أجل مراجعة البرامج الأكاديمية للتدقيق في مواضيع مثل دراسات النوع الاجتماعي أو المناهج الدراسية التي تتحدث عن المظالم العرقية، فضلاً عن الحد من المناقشات في الفصول الدراسية في شأن قضايا الهوية الجنسية والتعليم الجنسي، وذلك ضمن حملاتها للفوز بمقاعد في انتخابات مجالس إدارة المدارس في جميع أنحاء الولايات المتحدة.
في المقابل لا تزال غالبية الجامعات والكليات تقول إن لديها مصلحة في إنشاء مجموعة متنوعة من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس لخلق بيئة تعليمية نابضة بالحياة، وتشجيع النمو الشخصي ومساعدة الفئات المحرومة تقليدياً، وبحسب إيرين مولفي، رئيسة الرابطة الأميركية لأساتذة الجامعات التي تضم 44 ألف عضو، فإن الهجمات على التعليم العالي التي تحدث اليوم، ناتجة من حقيقة أن بعض الأشخاص الذين يملكون المال والسلطة والنفوذ غير راضين عن التوسع المشروع في جهود المساواة والتنوع كمصدر للقوة المؤسسية.
صراع سياسي
لكن من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان التركيز على التنوع في التعليم سيتردد صداه لدى الناخبين في الانتخابات العامة هذا العام، عندما تصبح القضايا الأساسية مثل التضخم والاقتصاد أكثر أهمية، ومع ذلك تظهر استطلاعات الرأي أن الأميركيين لا يوافقون على مراعاة العرق في القبول بالجامعات، وهي ممارسة أعلنت المحكمة العليا أنها غير دستورية في حكم صدر في يونيو (حزيران) الماضي.
وفي استطلاع للرأي أجرته صحيفة "وول ستريت جورنال" والمركز الوطني للأبحاث العامة التابع لجامعة "شيكاغو"، قال 15 في المئة إنهم يؤيدون أن تأخذ الكليات في الاعتبار عرق الطالب أو أصله في القبول بينما عارضه 56 في المئة، لكن الجهود الرامية إلى إزالة المواد التي تتحدث عن العنصرية أو المتعلقة بالجنس من المدارس قوبلت باستقبال مختلط، كما خسر ممثلو منظمة "أمهات من أجل الحرية" المحافظة التي طالبت بمثل هذه الأجندة في الخريف الماضي خلال عديد من انتخابات مجالس إدارة المدارس في ولايات مثل بنسلفانيا وأيوا وأماكن أخرى.
وبينما يرى ديف وينستون، وهو متخصص استراتيجي في الحزب الجمهوري، أن الناخبين الأكثر أهمية في الانتخابات، أي المستقلين، يركزون على الاقتصاد وليس على قضايا العرق التنوع والمساواة والشمول والقضايا الثقافية الأخرى على رغم أنها قد تبدو قضية مهمة لكثير من الناس، يعتبر الباحث الديمقراطي من يسار الوسط في معهد "أميركان إنتربرايز" روي تيكسيرا، أن معظم الأميركيين يؤمنون بتكافؤ الفرص للجميع، ولا أحد يعترض على فكرة أن الجامعات يجب أن تشجع التنوع، لكن ما يكرهه الناس هو البيروقراطيات التي تعمل بشكل أساسي كنوع من الرقابة وتفرض وجهة نظر من دون أخرى.