ملخص
اصطف الأطفال أمام شاشة عرض في غزة ليشاهدوا فيلماً كارتونياً، فهل تنجح هذه السينما في علاج آلامهم النفسية؟
أمام شاشة عرض كبيرة تجمع الأطفال النازحين داخل مركز إيواء وسط محافظة رفح أقصى جنوب قطاع غزة، وبلهفة جلسوا ينتظرون صديق الصغار خليل قشطة لتشغيل أفلام الكارتون، متجاهلين صوت الانفجارات وأزيز طائرات الاستطلاع التي تعلو في خلفية المشهد.
أدار خليل فيلم الكارتون وعم الصمت في المكان وتسمرت عيون الصغار على شاشة العرض، وانسجموا مع التأثيرات الصوتية وأخذوا يشاهدون بانبهار الرسوم المتحركة ذات الألوان الجذابة.
مشاهدة بعد انقطاع
ومنذ 113 يوماً وأطفال غزة منقطعون عن متابعة برامجهم التلفزيونية المفضلة بسبب الحرب التي أجبرتهم على النزوح من بيوتهم، وفرضت عليهم العيش في خيم تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، إذ لا يوجد فيها إنترنت ولا كهرباء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اصطف الأطفال بطريقة عشوائية أمام شاشة العرض التي جلبها خليل لإقامة فاعلية تشبه إلى حد ما عرضاً سينمائياً مرتجلاً، وأوصلها بسماعات متوسطة الحجم ليغطي صوتها على الغارات التي يشنها الجيش الإسرائيلي وتهز المنطقة.
وقد خلق خليل الذي يلقبه النازحون بـ"صديق الأطفال"، لأن الصغار يركضون خلفه فور وصوله إلى مراكز الإيواء، جواً سينمائياً في مدرسة يحتمي فيها الهاربون من القصف، إذ ربط الشاشة البيضاء بجهاز العرض ووحدة خلط الأصوات وأوصلها بحاسوبه المحمول الذي حمّل عليه أفلام الكارتون.
يتناسون الخوف
كان الأطفال منسجمين في فيلم "الإينمي" ويتابعون أحداثه بتركيز عال وكأنهم يعيشون في عالم الرسوم المتحركة، ويصف خليل المشهد بالعظيم لأن السينما تمكنت من خلق واقع جديد للصغار، وجعلتهم ينسون أو يتناسون أجواء الخوف والرعب التي بثتها مشاهد الدمار والحرب في نفوسهم.
وفعلياً تجاهل الأطفال الحرب بمجرد أن جلسوا يتابعون أفلاماً مخصصة لهم، لكن جو السينما لم يعالج الصغار من الندوب النفسية التي سببها القتال بين حركة "حماس" وإسرائيل، ولا يزال أثرها واضحاً في تصرفاتهم حتى وهم يشاهدون الأفلام.
يحدق الطفل سمير في شاشة العرض ويحرك عينيه ليلحق ببطل فيلم الرسوم المتحركة، لكنه في الوقت نفسه يضع أصابعه في فمه ويعض بأسنانه على أطفاره، وهي حركة يفعلها عادة عندما يكون خائفاً.
انتبه خليل إلى صديقه الطفل، وعلى الفور جلس إلى جانبه وحاول أن يرفع أصابعه من فمه، فحمله سمير بين يديه وأخذه إلى زاوية بعيدة من السينما وبدأ يتحدث معه ليفهم مشكلته.
أخبره الطفل أنه خائف جداً بسبب رؤيته الدبابات للمرة الأولى في حياته، فهذه المعدات أطلقت النار صوبه وبسببها شاهد والده يسقط ضحية أمام عينيه، ويخشى أن يتكرر ذلك مع أي فرد آخر في عائلته.
احتضن خليل الطفل وطلب منه أن يحضر في اليوم التالي لغرفة الدعم النفسي في مركز الإيواء لمحاولة علاج الصدمة التي يعانيها، ثم أرجعه لمواصلة مشاهدة الفيلم الذي يتابعه الصغار بتركيز.
أهداف الفاعلية كبيرة
ويقول خليل إن "فاعلية ’سينما النزوح‘ لها أهداف عدة، أولاً للتخفيف من الضغوط النفسية التي يعانيها الأطفال، وكذلك مشاعر الخوف والرعب والتوتر الموجودة لديهم بعد أن عاشوا أكثر من أربعة أشهر تحت القصف والحصار".
ويضيف خليل أن "الهدف الثاني يتمثل في رصد الأمراض النفسية والعقلية للأطفال، إذ من الطبيعي أن يمارس الصغار سلوكاً يوحي بمدى حدة المرض لديهم حتى أثناء الترفيه عنهم، وهذا ما ظهر في حال سمير".
ولا يقتصر عمل خليل على مجرد الترفيه عن الأطفال، وإن كان هذا الشيء هو الظاهر من فعاليته، بل يمتد إلى علاجهم إذ خصص لنفسه مكاناً في مراكز الإيواء يستقبل فيه الصغار الذين يعانون حالات نفسية معقدة ويعمل على علاجهم.
يفعل خليل ذلك لأنه يدرك أن النشاط السينمائي الذي ينفذه، وإن امتد لأربع ساعات، لا يستطيع أن يفرغ الضغط النفسي عند الأطفال بخاصة وأن الحرب المستمرة منذ أربعة أشهر لا يمكن مسح عُقدها بسهولة لدى فئة القاصرين.
ووفقاً لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف" فإن الأطفال أكثر الفئات هشاشة في حرب غزة، وتعرضوا إلى صدمات نفسية بالغة قد يستحيل علاجها خلال فترة زمنية تمتد لخمسة أعوام.
ويقول المتحدث باسم "يونيسف" جيمس إلدر إن قطاع غزة أخطر مكان في العالم على الأطفال، وجميع الصغار يعانون صدمات نفسية وصلت حد الاضطراب، وقد يصعب علاجها على مدى أعوام ممتدة.
ويضيف، "ما يعزز الأمراض النفسية في غزة أن الأطفال وأسرهم ليسوا آمنين في المستشفيات أو الملاجئ، وهم بالتأكيد ليسوا آمنين في ما يسمى المناطق الآمنة".
انفجار بعد الفيلم
وفي أية حال، وبالعودة إلى فاعلية "سينما النزوح"، فإن الفيلم انتهى وفجأة صرخ الأطفال حين سمعوا صوت غارة إسرائيلية استهدفت منزلاً قريباً من مركز الإيواء.
ويوضح خليل أن جميع جهوده ذهبت سدى بسبب هذا الانفجار، فمحاولاته لإنقاذ الوضع النفسي عند الأطفال لم تنجح بسبب استمرار الحرب، وهو يؤكد أن إطلاق النار يجب أن يتوقف حتى تسهم جلسات الدعم النفسي في تحسين حال الصغار.
وبسرعة تدارك خليل الموقف وأدار فيلماً جديداً ليعود الأطفال للحظة الاستقرار النفسي ويتجاهلون ما حدث، لكنه يطرح تساؤلاً مهماً وهو "هل يضمن أحد أن لا تنفذ المقاتلات الإسرائيلية أية غارة بعد انتهاء الفيلم؟".