Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

آنا بوش المجهولة رائدة في تجديد الانطباعية الأوروبية

معرض استعادي يعرّف بمنجزها التشكيلي وترحالها اللوني في الطبيعة

منظر انطباعي للرسامة آنا بوش (خدمة المعرض)

منذ سنوات عدة ، يتابع متحف مدينة بون آفِن الفرنسية مسعى تأملياً في موقع النساء داخل تاريخ الفن، بغية تحديد مساهمتهن فيه التي لم تحظ بعد بالاهتمام الذي تستحقه. مسعى حميد أثمر معارض جماعية وفردية مهمة، أحدثهار "فنانات رحّالات، دعوة البعيد". يدعونا القائمون على هذا المتحف لاكتشاف فنانة لم تعرف شهرة رفاقها الذكور داخل حركة الانطباعية الجديدة التي نشطت ضمنها، على رغم مضارعتها إياهم فنياً، وخطّها مسيرة نادرة في صخبها ومغامراتها، البلجيكية آنا بوش (1848 ــ 1936).

وفعلاً، عاشت بوش حياةً غنية بقدر ما هي مستقلة، بفضل جرأتها وموهبتها الفنية، وأيضاً بفضل أصولها الاجتماعية البورجوازية، فالتحقت بالحلقتين الطلائعيتين المجيدتين: "مجموعة العشرين" و"الجمالية الحرّة"، ووضعت نفسها على مساواة مع رفاقها، لدى انطلاقهم في مغامرة الانطباعية الجديدة التي جسّدها آنذاك بول سينياك، جورج سورا وتيو فان ريسلبرغ. وفي هذا السياق، أنجزت تلك اللوحات النيّرة التي تعكس بحثاً مثيراً في الخط واللون، وشغفاً بالطبيعة قادها إلى أماكن نائية وغذّى حلمها في العيش داخل كوخ، لالتقاط جمال المناظر الريفية، كما قادها إلى شواطئ أوروبية مختلفة، خصوصاً تلك الساحرة في مقاطعة بريتانيا الفرنسية، حيث لمعت في التقاط الضوء وانعكاساته على صفحة الماء، داخل تشكيلات جريئة وساحرة جعلت منها أحد أبرز وجوه الانطباعية الجديدة.

في الصالة الأولى من المعرض، نعرف أن بوش نشأت داخل بيئة ثرية ومفتوحة على مختلف الفنون، وسافرت كثيراً مع أفراد عائلتها، الذين كانوا يتنافسون على التقاط ذكريات رحلاتهم رسماً، بنجاح متفاوت. نعرف أيضاً أنها تابعت في صباها دروساً في الرسم مخصصة للنساء، لأنه لم يكن في وسع الجنس اللطيف آنذاك الدخول إلى أكاديميات الرسم. هكذا استفادت من توجيهات مواطنتها، الرسامة المشهدية أوفروزين بيرنارت، واهتمت بالميول التشكيلية الأكثر ابتكاراً في زمنها، فترددت على محترف إيزيدور فيرهيدين، الذي كان يمارس الرسم في الهواء الطلق، واستبدلت الطبيعة الصامتة والمشاهد الداخلية في عملها بالمناظر الخارجية والزهور، موضوعاها المفضلان.

تجديد تشكيلي

الصالة الثانية تتوقف عند التحاق بوش بـ "مجموعة العشرين" عام 1885، التي ضمّت وجوهاً فنية كبرى، مثل جايمس أنسور ويان توروب وداريو دو ريغويو وغييوم فان ستريدونك، وكانت بوش العضو النسائي الوحيد فيها، مما سمح لها بتطوير رسمها بسرعة، وبانتزاع اعتراف النقاد بموهبتها في تشييد لوحاتها وبلوغ تناغمات خطوطية ولونية باهرة، وإن سقط بعضهم في رعونة وصف هذه الموهبة بالـ "ذكورية". تتوقف هذه الصالة أيضاً عند الصدمة التي تلقّتها الفنانة لدى اكتشافها عام 1887 لوحة جورج سورا "بعد ظهر أحد في جزيرة لا غراند جات"، وعند شرائها لوحته "ضفاف السين في جزيرة لا غراد جات"، إثر وفاته المفاجئة عام 1891، ثم عند إكمال مجموعتها الفنية بشرائها عام 1907 لوحة بول سينياك "سان تروبي، لا كالانك". لوحات يبيّن حضورها في هذه الصالة إلى جانب البورتريه التنقيطي الذي أنجزه فان ريسلبرغ لبوش، التزام الفنانة هذا الأسلوب الانطباعي الذي يقوم على التقسيم العلمي لتدرّجات الألوان إلى لمسات صغيرة صافية ومتكاملة، قبل تجاوزها إياه للرسم بريشة أكثر عفوية وحدسية، وبلمسات تشبه الفواصل.

ونظراً إلى اهتمامها باكراً برسامي "مدرسة بون آفن"، نشاهد في الصالة الثالثة لوحة بول غوغان " حوار في بريتانيا" (1888) التي اشترتها بوش عام 1889، واللوحات التي اشتراها شقيقها أوجين من هذا الفنان في العام اللاحق، والبورتريه الذي وافق فان غوخ على إنجازه له حين عرف أنه شقيق بوش، ولوحته "الدالية الحمراء في مونماجور" التي اشترتها الفنانة عام 1890 منه، أثناء معرضه في بروكسيل الذي سمح لها باكتشاف عمله وتذوّق عبقريته. ولأن بوش كانت أيضاً رحّالة كبيرة، نتابع في هذه الصالة أسفارها، أولاً إلى جنوب فرنسا وسويسرا، ثم إلى إيطاليا مراراً، فاليونان وصقلية والجزائر وإسبانيا وهولندا، مدفوعةً دائماً برغبتي الرسم والحراك، اللتين شكّلتا بالنسبة إليها استعارة للحياة نفسها.

شواطئ وأودية

وتلبيةً لهاتين الرغبتين، أتت عام 1901 مع شقيقها إلى مقاطعة بريتانيا وأنجزت فيها سلسلة رسوم وخمس لوحات تحمل أربع منها عنواناً واحداً، "شاطئ بريتانيا"، والخامسة عنوان "نهر أوديه عند انخفاض المد". أعمال بقياسات ضخمة تحضر في الصالة الرابعة من المعرض، مرفقة بتعليق الكاتب ألفريد جاري عليها: "تترجم الآنسة آنا بوش بثقة مدهشة الانفعالات التي تخلّفها شواطئ بريتانيا". تحضر أيضاً اللوحات التي أنجزتها في وسط بريتانيا وشمالها، خلال صيف 1912، وتختلف عن الأولى بتأطيرها الضيق وموضوعاتها التي تشمل بيوتاً نموذجية، كما في "كوخ في بريتانيا"، ومناظر طبيعية، كما في لوحتيّ "سَيْل جارف".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي الصالة الخامسة والأخيرة من المعرض، نتأمل في الأعمال التي أنجزتها بوش بعد التحاقها عام 1904 بمجموعة "حياة وضوء" التي ضمّت الرسامين "النورانيين" البلجيكيين (إميل كلاوس، جورج مورين، جيني مونتينيي، آنا دو فيرت...) الذين التزموا في رسمهم التقليد الواقعي، لكن ضمن تعاليم المدرسة الانطباعية الفرنسية، وسعوا إلى عرض أعمالهم من دون كسب ودّ الهيئات التي تشرف على الصالونات الرسمية. وفي تلك الفترة، طوّرت الفنانة أسلوباً فاتناً اعتمدته حتى رحيلها، وتميّز بلمسات خاطفة وعصبية، ثم بضربات ريشة واسعة وسخية. ونظراً إلى عشقها الحياة في أحضان الطبيعة، تابعت رسمها لمشاهد ريفية وذهبت، أثناء إقامتها في هولندا، إلى حد تحقيق حلمها عبر استئجارها كوخاً يقع في وسط المستنقعات، للعيش مع أدوات رسمها داخل عالمها المثالي.

يبقى أن نشير إلى أن مساهمة بوش الأكيدة في بلورة مفردات الانطباعية الجديدة لم تجنّبها كلفة طغيان العقلية الذكورية على محيط الفن في زمنها، فتعرّضت لإهمال كلّي في الفترة الأخيرة من حياتها، من دون أن توقف نشاطها المحموم أو تفقد حسّها الدعابي، الذي جعلها تصرّح قبل أيام قليلة من وفاتها: "لا أريد أن أموت، لكني لا أعتقد أن الموت يضرّ بصحتي".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة