منذ تأسيس الحوزة الدينية الشيعية في مدينة النجف العراقية عام 499 هجرية (1057 ميلادية) على يد "شيخ الطائفة" أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي بن الحسن الطوسي آتياً من بغداد التي دخلها السلاجقة، يمكن القول إن هذه المرحلة شهدت البدايات الأولى لتأسيس نظرية الاجتهاد في المذهب الشيعي الاثني عشري.
هذا التأسيس جاء من خارج أي سلطة قائمة في تلك المرحلة أو المراحل اللاحقة، وتحولت مسألة استقلالية هذه الحوزة عن السلطة إلى خاصية بارزة، وقد يكون السبب أو الدافع لهذه الاستقلالية هو طبيعة النظرة التي كانت تسود لدى القائمين على الموقف الديني أو الفقهي، والتي تنظر إلى هذه السلطة باعتبارها غير شرعية ولا تنطبق عليها الشروط التي أرستها هذه المدرسة الفقهية وضرورة أن تكون برئاسة أو تحت إشراف أحد الأئمة الاثني عشر، وأن أي دولة أو سلطة حتى وإن كان القائم عليها من الشيعة الموالين لأهل البيت، لا تعتبر هي السلطة أو الدولة المنشودة ما دامت أقيمت أو أعلنت في زمن غيبة الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي، وهي نظرة تترك شرعية الدولة معلقة بالمستقبل وبانتظار اليوم الموعود بظهور الإمام الغائب.
الاستثناء الذي حصل في العهد الصفوي بداية القرن الـ16 الميلادي، والتركيبة التي أقامها الشاه عباس مع المؤسسة الدينية والسلطة السياسية، جاءت من خارج السياق التاريخي وما تواضعت عليه المؤسسة الدينية منذ إنشائها، وكانت محكومة بخلفيات واشتراطات فرضتها حالة الانتقال المذهبية، والتي وضعت السلطة أمام أزمة البحث عن المشروعية الدينية، بخاصة في مواجهة الخلافة العثمانية التي قدمت نفسها استمراراً للخلافة العباسية، الأمر الذي دفع الشاه الصفوي للبحث عن شرعية دينية ولم يجدها إلا من خلال إيجاد غطاء ديني لسلطته، فكان تقاسم الأدوار بينه وبين المؤسسة الدينية التي منحته الغطاء الذي يريده، وفتح الباب أمامها لممارسة سلطتها على المجتمع وتطويعه لصالح السلطة.
هذه التجربة لم تنتج سلطة دينية أو وضع الدولة في دائرة نفوذ المؤسسة الدينية وتحت وصايتها أو جعلتها تابعة لقراراتها، بل أنتجت حالة كرست السلطة الزمنية التي بقيت هي المسيطرة والمهيمنة وصاحبة القرار، وحولت السلطة الروحية إلى مصدر لتعزيز شرعيتها وتعزيز سيطرتها من دون أن تسمح لها بالتدخل سوى بالحد الذي تسمح به وتريده، وحتى مارست حصاراً محكماً لأي طموحات لدى المؤسسة الدينية لتوسيع سلطتها ونفوذها ودورها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يمكن القول إن التجربة الصفوية مع المرجعيات الدينية لعبت دوراً مهماً في تثبيت السلطة، لكنها مرت بكثير من منحنيات الصعود والهبوط، وانتهى دورها أو انتهت هذه الشراكة مع انتهاء الحكم الصفوي وسقوطه عام 1722 في عهد الشاه سلطان حسين، فانقطعت أو غابت الشراكة بين السلطتين الزمنية والروحية حتى جاء السيد روح الله الخميني الذي قدم أطروحته للسلطة الدينية في إطار رؤيته لمستقبل الصراع مع النظام الملكي الشاهنشاهي تحت عنوان "الحكومة الإسلامية" عام 1970، وهي الرؤية التي حملت التأسيس النظري لمسألة "ولاية الفقيه"، وهي التي أقرها الدستور الإيراني بعد انتصار الثورة، والذي أنتج توليفة معقدة ومتشابكة بين الآلية الديمقراطية والبعد الجمهوري للدولة مع البعد الديني وصلاحيات "ولي الفقيه" المطلقة.
يمكن القول إن نظرية "ولاية الفقيه" بما هي سلطة مطلقة موصولة بالبعد الإلهي وسلطة المعصوم الذي هو النبي والأئمة الاثنا عشر لدى الشيعة، نقلت مع الثورة الإيرانية المؤسسة الدينية وموقع المرجع الديني من الولاية الخاصة إلى الولاية العامة، خطوة غير مسبوقة في تاريخ التشيع الديني والسياسي على حد سواء. وأضفت على "ولي الفقيه" نوعاً من القداسة مستمدة من قداسة المعصوم الذي هو "ظل الله" على الأرض.
هذا التحول، وعلى رغم مخالفته السائد الشيعي التاريخي والعملي لم يفتح الطريق أمام رجال الدين لممارسة السلطة فحسب، بل أسس لمسار جديد في الفكر السياسي الشيعي من كونه فعلاً اجتماعياً وثقافياً، إلى السعي لإقامة "حكومة إسلامية" أو الدولة الإسلامية متأثراً بتجارب أخرى كانت تحاول التأسيس لمثل هذا المسار، أي جماعة "الإخوان المسلمين" الذين رفعوا شعار "حكم القرآن والسنة" مع تمايز شيعي يقوم على إضافة عامل أو بعد آخر، هو سيرة أئمة أهل البيت واجتهاد الفقيه أو المرجع الديني، وهنا لا مكان لاجتهادات المرجعيات الدينية الأخرى، بل تتمحور حول اجتهادات المرجع الذي يختار لموقع ولي الفقيه. أي أن هذه الحصرية أصابت الميزة أو الخصوصية الشيعية في تعددية المرجعية والتمايزات التي بينها في الاستنباط على النص.
هذا التطور في الممارسة الفقهية فرض على المرجع الذي يتولى منصب "ولي الفقيه" باعتباره رأس السلطة الروحية والزمنية، أن يكون في مواجهة مع المؤسسة الدينية من أجل تطويعها واستلحاقها وتدجينها لكي تكون متسقة في مواقفها وآرائها مع مصلحة النظام الإسلامي، مما يعني عدم معارضتها الواضحة والصريحة مواقف المرشد أو أعمال النظام وإدارة الدولة.
هذا الاستلحاق ساعد فيه وعليه سيطرة النظام على النظام والآليات المالية المتمثلة في إدارة أموال الحقوق الشرعية "الخمس" والتصرف بها والتي تشكل أحد أركان العلاقة بين المرجع الديني وجمهور المؤمنين، وما شكلته وتشكله هذه العلاقة من رافد مالي لهذه المرجعيات يمنحها هامشاً من الاستقلالية عن السلطة والدولة بغض النظر عن طبيعتها الزمنية أو الروحية. ومن ثم باتت مؤسسة "الحوزة الدينية" المعنية بإنتاج هذه المرجعيات مرهونة للسلطة، وتحولت هذه الحوزة من كونها العاصمة الروحية إلى ملحق وتابع للعاصمة السياسية ومعتمدة عليها في إدارتها وفي جزء كبير من مصادرها المالية.