أحدث ظهور التصوير الفوتوغرافي في القرن الـ19 تغييراً هائلاً في تاريخ فن الرسم، ودفع الرسامين للبحث عن طرق جديدة تمنحهم الخصوصية فلا تستطيع الآلة منافستهم فيها، بعد أن أصبحوا غير قادرين على مجابهة سرعتها ودقتها في التقاط الصور الطبيعية والبورتريهات. ولتجاوز ذلك المأزق، لجأ الرسامون إلى التعبير عما يميز الذات الإنسانية، فظهرت المدارس التعبيرية والتشكيلية في الرسم للتعبير عن المشاعر أو العواطف والحالات الذهنية التي تثيرها الأشياء أو الأحداث في نفس الفنان، ورفض مبدأ المحاكاة الأرسطية الذي أصحبت الآلة أكثر دقة وبراعة فيه من الإنسان.
وفي القرن الـ21 يستشعر كثير من الروائيين وكتاب السرد إرهاصات تهديد مشابه بعد ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي القادرة على كتابة نصوص أدبية أو المساعدة في كتابتها مثلما فعلت الكاتبة اليابانية رييه كودان Rie Kudan (1990) التي أعلنت بعد فوزها بجائزة "أكوتاغاوا" المرموقة للكتاب الواعدين في اليابان، أنها استعانت بتطبيق "تشات جي بي تي" في كتابة أجزاء من روايتها الفائزة، بنسبة لا تتجاوز خمسة في المئة. هذه النسبة من متن رواية "برج التعاطف في طوكيو"، جرى أخذها "حرفياً" من برنامج المحادثة المعتمد على الذكاء الاصطناعي. وأشاد أحد الحكام بهذا العمل الأدبي ووصفه بأنه "خال من العيوب". وأثار ذلك الإعلان ضجة كبيرة.
وفي ضوء هذه المبادرة الروائية، استطلعت "اندبندنت عربية" آراء مجموعة من الروائيين العرب حول ما إذا كان أي منهم يمكن أن يستعين بالذكاء الاصطناعي في كتابة أعماله الإبداعية، وما حدود ذلك، وكيف ينظر إلى تأثيره على الكتابة الأدبية مستقبلاً.
البداية كانت مع الأستاذ المساعد في كلية الدراسات العليا للإنسانيات في جامعة "أوساكا" في اليابان عبدالرحمن الشرقاوي، الذي رأى أن واقعة الكاتبة اليابانية "ليس لها حضور قوي" في الأوساط الأدبية والأكاديمية المحلية. وأضاف أنه استطلع آراء طلاب وخريجين في جامعة أوساكا حول هذا الأمر، ووجد أن معظمهم لم يسمع بالواقعة من قبل، مرجحاً أن تسليط الضوء عليها في وسائل الإعلام الغربية تقف وراءه منصة "شات جي بي تي" نفسها، كنوع من الدعاية لها خاصة، وأنه تصاحب مثل هذه الأخبار إعلانات مرئية عن المنصة ذاتها.
الإنسان والآلة
ويرى الشرقاوي أن موضوع رواية "برج التعاطف في طوكيو"، يحتمل هذا الاستخدام، لأنها تعالج قضية مستقبلية وإحدى شخصياتها هي عبارة عن آلة ذكية. وأوضح أن استخدام هذه التطبيقات يناسب إلى حد بعيد الكتابة التقنية والقوالب الجاهزة، لكنه لاحظ في المقابل أنها لا تستطيع ابتكار لغة جديدة أو استخداماً جديداً للغة، وهذا ما يفعله الأديب طوال الوقت. ولفت إلى أنه بمقدور هذه التطبيقات أن ترتب قوائم المراجع أو أن تكتب فقرات وصفية تتسم بنوع من التكرار أو القولبة. وجائزة "أكوتاغاوا" تعد أرفع الجوائز الأدبية في اليابان وتمنح مرتين في العام لفئة الكتاب الشباب، ويحظى الفائز بالجائزة التي تحمل اسم الكاتب ريونوسكي أكوتاغاوا (1892: 1927م) الذي توفي منتحراً، بمكانة رفيعة حتى إنه يعامل باعتباره "رمزاً أدبياً وثقافياً".
ويتفق الأديب المصري إبراهيم عبدالمجيد مع الشرقاوي في أن الضجة التي أثارتها تلك الواقعة هي مجرد "زوبعة"، لافتاً إلى أن هناك الآن قصصاً قصيرة تصدر من تأليف الذكاء الاصطناعي الذي يقوم بعمله كرد فعل للتعليمات التي يتلقاها من مستخدمه. ويضيف صاحب رواية "في كل أسبوع يوم جمعة" أن اليابان تسبق العالم كله في مسألة الروبوتات، فهناك مصانع كاملة يديرها روبوتات بدلاً من العمال، وهناك دور طبي يقوم به الذكاء الصناعي في المستشفيات، وهناك في العالم لوحات فنية كثيرة تنتجها تقنياته أو تساعد في إنتاجها. وقال، "الأمر يظل مختلفاً في الفنون، مقارنة بالآداب، فالكاتب الذي يستعين بهذه التقنيات لا بد أن يضع لمسته الفنية، حتى في نسبة 5 في المئة، كما هي الحال في رواية كودان".
ويرى صاحب رواية "لا أحد ينام في الإسكندرية" أن إنتاج الذكاء الاصطناعي في الفنون هو "أمر يفتقد إلى الروح"، معتبراً الجهد الذي يبذل في إعطاء التعليمات والأفكار، يجعل العمل متكلفاً وأقرب إلى العلم منه إلى الفن". ويقول عبدالمجيد إنه يتخيل أن الذكاء الاصطناعي في الفنون قد يتمرد على الفنان نفسه، معتبراً إياه مستغلاً جشعاً يستفيد مادياً هو وحده من إنجاز الروبوت"! واختتم بأنه لن يستعين بالذكاء الاصطناعي أبداً، لأن المتعة الروحية في الكتابة تفوق أي متعة للعقل، مستثنياً حالة واحدة "مستحيلة الحدوث"، يمكن أن تدفعه للجوء إلى ذلك الأمر، تتمثل في استطاعة الذكاء الاصطناعي إعطاء الشخصيات الروائية الحياة لتعطي هي التعليمات للروبوت كما تفعل به شخصياته الروائية في الحقيقة والتي تجعله - على حد تعبيره – "عبداً طائعاً لها في لغتها وأحوالها".
الذكاء الأدبي
ويقول والروائي السوري هوشنك أوسي إن الذكاء الاصطناعي مهما تطور فلن يتفوق على الذكاء الطبيعي، معتبراً اللجوء إليه في كتابة الأدب، "يشي بل يؤكد أن هناك قصوراً في الذكاء الأدبي لدى الذات الكاتبة. وأضاف، "الأمر يشبه لجوء رجل أو امرأة إلى جراحات التجميل، ليس بهدف تحسين تشوهات خلقية أو ناتجة عن حوادث، بل لجعل الجمال المتواضع جمالاً فائق الإبهار". ويرى أوسي أن من يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي في عمل أدبي، بنسبة واحد في المئة، سيأتي اليوم الذي سيلجأ فيه إلى هذه الوسيلة بنسبة 99 في المئة، مشيراً إلى أن التقنيات الذكية، تلك، لن تخلق قيماً إبداعية من صلب فكر وخيال الكاتب، ومن ثم فإنه لا تخرجه من دائرة الاختلاس". وأوضح أنه ليس شخصاً محافظاً، أو أصولياً في عالم الأدب، وفي أي عالم آخر، وأنه مع التجريب، وخيارات الأدب والثقافة المنتجة لقيم الخير والحب والجمال، "على أن تكون نابعة من قدرات الكاتب الذاتية". ولاحظ أوسي أن الخدمات التي يقدمها الذكاء الاصطناعي، يمكن أن تكون إيجابية وجليلة أيضاً، على أن تبقى بعيدة عن التورط في منح فكرة أو خيال لأشخاص متوسطي الموهبة. وأضاف أن "الاحتفاء والتكريم الأدبي الآتي من الذكاء الاصطناعي، هو أيضاً اصطناعي، وليس حقيقياً". وأكد أنه طالما بقي فيه خيال ينبض، وفكر ينتج أسئلة، لن يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي، لا في عالم الأدب ولا في أي حقل آخر من حقول الكتابة.
مغالطة رائجة
الروائي والسيناريست الأردني ياسر قبيلات يرى أن حادثة الروائية اليابانية، "تنطوي على كثير من المبالغة لجهة اعتبار الذكاء الاصطناعي شريكاً في تأليف الرواية المعنية، لأنه ببساطة قد يستطيع إنشاء نص مضطرب، لكنه في كل الأحوال لا يؤلف". ويضيف قبيلات أن "المغالطة الأكبر في هذا الخبر ناشئة عن ميل أغلب الوسائل الإعلامية إلى الإثارة، من خلال التركيز على تفاصيل غير ذات شأن بطريقة مخادعة، مثل التركيز على القول إن لجنة التحكيم أعلنت أن الرواية كانت على درجة من الكمال بحيث يصعب العثور على خطأ فيها". وأوضح أنه لا يعتقد أن كاتباً يستطيع استخدام الذكاء الاصطناعي بأكثر مما يستخدم القاموس، أو "ويكيبيديا"، لأن هذه التقنية لا تزال قاصرة إلى حدود كبيرة، لا سيما في البيئات الثقافية الواقعة خارج نطاق اللغة الإنجليزية. وأشار قبيلات إلى أنه يعرف من واقع دراسته للسيناريو، أن كتاب التلفزيون والسينما في الولايات المتحدة الأميركية، يستخدمون منذ عقود، عديد من برامج الكتابة المتخصصة، التي تقوم آلياً بكل الأشياء الروتينية والمتكررة في النص، وتقدم الخيارات لمسار الأحداث، كما تضبط سلوك الشخصيات مع صفاتها المحددة مسبقاً... إلخ.
ولاحظ قبيلات أن فكرة "تشات جي بي تي" ليست فتحاً جديداً في عالم الذكاء الاصطناعي، ولكن ترويج مثل هذه الواقعة، ينطوي على رغبة في الترويج لعمل أدبي، وللعلامة التجارية ذاتها، وهذا هو ما تقوم به كثير من الشركات للسيطرة على مجالات معينة، واحتكارها. ويردف أن محركات البحث، مثل "غوغل"، التي تقدم بنقرة واحدة مختلف أصناف المعلومات، حتى إنها تقدم للشاعر الكلمات المناسبة لقافيته، هي أكثر نضجاً من "تشات جي بي تي". ورأى أن التقنية، عموماً، تقدم مساعدة كبيرة للكاتب، سواء أكان مبدعاً أو باحثاً أو حتى صحافياً، ولكن هذا فقط حينما تكون ناضجة. واعتبر أن "تشات جي بي تي"، لا يزال في طور الفكرة، ولا يزال عملياً في نطاق ليس بعيد عن "ويكيبيديا"، بل هو أقل جودة منها.
واختتم حديثه أنه يرى أن هذا النوع من الذكاء هو عملياً، محاولة لتقديم نسخة أكثر رقمية وتطوراً من الموسوعات الإلكترونية، لجهة أنها تحاول ألا تكتفي بتقديم المعلومات، ولكن تجميعها من مصادر مختلفة ومعالجتها في صيغة نص، "ولكنها لليوم فاشلة في هذا المضمار إلى حد كبير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تقول الروائية المصرية بسمة عبدالعزيز إنها ليست ممن يؤيدون الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في الإبداع الروائي، وما زالت أبعد ما يكون عن فعل ذلك، بخاصة أنها حتى الآن تعتمد على الطريقة التقليدية في الكتابة مستخدمة الورقة والقلم أولاً ثم تنقل ما كتبت لحاسوبها. وتضيف صاحبة رواية "الطابور" أنها ممن يقرأون الكتب والجرائد الورقية، لأن لها متعة وضع خطوط وأسهم وعلامات أسفل ما يهمها ويثير فضولها. وتردف عبدالعزيز أنها ممن يدعمون الوجود الإنساني بصوره كافة، ولا تحبذ اللجوء للوسائل التكنولوجية في كل صغيرة وكبيرة، مشيرة إلى أن صانع الآلة هو في النهاية من البشر، ويبقى له التفوق والاستحقاق.
ويقول الروائي الأردني هزاع البراري إنه ضد تدخل التقنيات الحديثة في الإبداع الإنساني، لأنه يخرجها من الطابع الذاتي والإنساني المحمل بالمشاعر والأحاسيس والأفكار والرؤى والتطلعات والذكريات والهواجس وإلى غير ذلك من الأمور التي تعتمل في داخل المبدع بشكل خاص فيحولها إلى عمل إبداعي. ويضيف أن الاستعانة بهذه البرمجيات في الأدب يخرج العمل من طبيعته الأساسية، مشيراً إلى أن تلك البرمجيات ما زالت في مراحلها الأولى، وربما مستقبلاً تحل كثيراً من المشكلات، لكنها قادرة في الوقت ذاته على إدخال مزيد من المخاوف والقلق على إنسانية الإنسان. ويعتقد البراري أن "الإبداع المرقمن"، لن يكون مؤثراً وقادراً على التأثير في القارئ وملامسة المشاعر التي بداخله، مثل الكتابة النابعة من الذات الإنسانية، كما أن التوغل في مثل هذه المسائل سيلغي الفوارق بين المبدع وغير المبدع، فلن يشترط إبداع الشخص وإنما قدرته على إدارة الذكاء الاصطناعي وهذا يناقض الفطرة البشرية.
قبول مشروط
لا يمانع الروائي الكويتي عبدالله البصيص في الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، "إذا كانت تخدم الفكرة العامة للرواية"، مضيفاً أن الأصل هو خروج العمل بالشكل الذي يريده الكاتب. ويضيف البصيص أنه دائماً ما يشبه الكاتب بالطباخ، لأن الطبخ فن يعتمد على رهافة الذوق وحسن التقدير، سواء أعد الطباخ الطعام بيده أو وضعه في أحد الأجهزة الحديثة للطبخ... "هنا يضع الطباخ المقادير وفق تقديره وذوقه في الجهاز، ثم يأتي دور الذكاء الاصطناعي ويمزجها ويطبخها حتى يخرجها وفقاً للمقادير التي وضعها، والحكم على الطبق في النهاية هو الشأن الذي ينبغي الاهتمام به". ويذكر البصيص أنه لو خاض مسابقة في استخدام البرامج الإلكترونية الحديثة فإنه لن يكون في المراتب الأولى بكل تأكيد، بما أنه، على حد قوله، لا يتقن هذه الأشياء ولا يشعر بحاجة إلى إتقانها، وهو لذلك لا يعرف كيفية الاستعانة بالذكاء الاصطناعي، لكن إذا ما عرف فلا مانع لديه من استخدامه في كتابة رواية. وعن تأثير مثل هذه التقنيات على الكتابة الأدبية مستقبلاً يلفت البصيص إلى أنه لم يقرأ عملاً استخدم فيه الذكاء الاصطناعي بعد. وأضاف أن الحكم ينبغي أن يكون على النتيجة وليس على السبب. وقال متهكماً: "لكن إذا أنتج الذكاء الاصطناعي روايات بمستوى يفوق ما يخرجه عقل الإنسان" فربما توجهنا إلى مهنة الطبخ كتصرف حكيم للاستفادة من الموهبة"!