ملخص
يقول أحدهم "كنت أتمنى الراحة في هذا العمر، لكنني وجدت نفسي مضطراً إلى البحث عن عمل جديد بعد الـ60"
"بمجرد أن وصلت إلى سن المعاش انتابني شعور بأنني انضممت لقوائم الموتى"، بتلك العبارة بدأ الرجل الستيني عزيز يوسف يحكي عن الواقع الجديد الذي يعيشه بعد انتهاء فترة خدمته الوظيفية، واضطراره إلى المكوث في المنزل من دون عمل. عزيز واحد ضمن أكثر من 11 مليون مواطن مصري مسجلين في قائمة أصحاب المعاشات، وجد نفسه مجبراً على تقليل نفقات أسرته لمواجهة أزمة غلاء السلع الأساسية في ظل انخفاض قيمة العملة المحلية.
يشير عزيز الذي ظل يمارس مهمات عمله بشركة المصرية للاتصالات على مدى أكثر من ثلاثة عقود حتى انتهت به الحال بالخروج على المعاش عام 2021، إلى أن قيمة معاشه لم تزد على 4 آلاف جنيه (129.45 دولار). يستذكر الرجل الستيني كيف شهد تطور الشركة بقوله: "بدأت العمل منذ عام 1978، وحضرت الطرق البدائية التي كنا نستخدمها في مواجهة المشكلات والأعطال، وعندما وصل راتبي إلى مبلغ يعينني على الحياة بصورة آدمية خرجت على المعاش".
يتطرق عزيز إلى موجة التضخم الحالية وغلاء الأسعار التي أثرت في طريقة وأسلوب إدارته وترتيبه أوليات أسرته، مؤكداً أن معاشه لم يعد يكفيه أكثر من أسبوع، مسلطاً الضوء على أنه لا يجد أمامه خيارات متاحة إلا للاستدانة أو الدخول في جمعيات لتوفير احتياجات منزله في ما تبقى من أيام الشهر.
ومع ذلك تشير البيانات الرسمية الصادرة عن جهاز التعبئة العامة والإحصاء المصري إلى أن معدل التضخم سجل 29.8 في المئة في يناير (كانون الثاني) الماضي، متراجعاً من أعلى مستوى له في سبتمبر (أيار) الماضي عندما سجل 38 في المئة، وفي المقابل تعاني مصر شحاً في العملات الأجنبية واختلافاً ملحوظاً بين سعر الدولار في البنوك والسوق الموازية يقترب من الضعف.
قائمة من الممنوعات
يضطر عزيز إلى وضع قائمة سلع صنفها على أساس أنها من الممنوعات التي خرجت من أولوياته، وعن نوعية هذه السلع يقول "لم أعد أشتري اللحوم، وأي منتجات باهظة الثمن مثل الجبن الرومي وغيرها من السلع التي لا أقدر على توفير قيمتها في الوقت الحالي". وعاد بالذاكرة للوراء معلقاً "منذ سنوات قررت عدم شراء ملابس جديدة، واكتفيت بما كنت أرتديه خلال فترة عملي". ويؤكد عزيز أنه بسبب ظروفه المعيشية حدد النسل منذ فترة طويلة، واكتفى بولدين فقط، ومع ذلك فهو غير قادر على تلبية المتطلبات اللازمة للأسرة الصغيرة.
وعلى رغم معاناة عزيز وأقرانه أولت الحكومة المصرية اهتماماً بفئة أصحاب المعاشات، وكان آخر قراراتها التي شملتهم حزمة الحماية الاجتماعية، التي تضمنت موافقة مجلس الوزراء المصري الخميس الماضي على إقرار 15 في المئة زيادة في المعاشات لـ13 مليون مواطن، بكلفة إجمالية 74 مليار جنيه، إضافة إلى 15 في المئة زيادة في معاشات "تكافل وكرامة" بكلفة 5.5 مليار جنيه، لتصبح الزيادة خلال عام 55 في المئة من قيمة المعاش، وخصصت 41 مليار جنيه معاشات "تكافل وكرامة" في العام المالي 2024/2025.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعود الرجل الستيني ويلفت إلى أنه يعاني أمراضاً مزمنة مثل القلب والضغط والسكر، وبدأ يحكي جانباً من معاناته "أدفع مبلغ 3950 جنيهاً سنوياً نظير التأمين الطبي الذي أحصل عليه من إحدى الشركات ونضطر إلى الوقوف في زحام هيئة التأمين الصحي للحصول على الدواء".
يعدد عزيز الالتزامات المطلوبة منه بصفة شهرية باستثناء الطعام والشراب والمستلزمات الأخرى ويقول "أدفع كهرباء ومياه وإنترنت، وغيرها من الالتزامات"، من ضمن مطالب عزيز أن تتم معاملة أصحاب المعاش بعدالة من دون تمييز بين المهن.
معاش بالمشاركة
لم تكن فاطمة علي (65 سنة) أفضل حالاً من عزيز، إذ عاشت ظروفاً صعبة من بعد وفاة زوجها نهاية عام 2013، وكان خرج على المعاش بدرجة مدير عام. تعيش فاطمة بمفردها في شقة مؤجرة تدفع لها 2000 جنيه بصفة شهرية، إضافة إلى مبالغ أخرى خاصة بخدمات الكهرباء والمياه والغاز. لم تنجب السيدة الستينية من زوجها، وأشارت إلى استقطاع 25 في المئة من قيمة المعاش بعد طلاق ابنة زوجها التي باتت تشاركها فيه.
أوضحت فاطمة "منذ فبراير من العام الماضي تشاركت المعاش مع ابنة زوجي، وأقضي الشهر بمبلغ لا يتعدى 1800 جنيه فقط (58.24 دولار) بعد سداد قيمة الإيجار ومتطلبات الشقة من غاز وكهرباء ومياه، ولذلك اضطر إلى طلب المساعدة من شقيقي الذي يدفع لي ألف جنيه شهرياً (32.36 دولار) لإعانتي على قضاء بقية أيام الشهر مع تقليل المستلزمات التي اعتدت عليها".
لا تنكر فاطمة أن قيمة المعاش شهدت زيادات في الفترة الأخيرة، لكنها مع ذلك تشير إلى أنها تقابل بغلاء في الأسعار. وتقول "لأنني لا أمتلك شقة ومع خصم 25 في المئة من معاشي لصالح ابنة زوجي أصبحت أعد الأيام حتى انتهاء الشهر، والأمور أصبحت صعبة للغاية". وقالت إنها تشعر بالعجز أمام المتغيرات الجديدة مع عدم قدرتها على شراء ما تريده من فواكه ولحوم وغيرها من السلع التي كانت أساسية في أوقات سابقة.
ووفق استطلاع أجرته وكالة "رويترز" للأنباء يناير (كانون الأول) الماضي فإن الاقتصاد المصري سينمو بوتيرة أبطأ من المتوقع سابقاً، مع تراجع الجنيه وتقلص القوة الشرائية، نتيجة ارتفاع التضخم وتداعيات الحرب في غزة على المصادر الرئيسة للعملة الأجنبية في البلاد. كما غيرت وكالة موديز للتصنيفات الائتمانية نظرتها المستقبلية لمصر من "مستقرة" إلى "سلبية". ونبهت إلى أخطار متزايدة متمثلة في استمرار ضعف الوضع الائتماني للبلاد، وسط صعوبة إعادة التوازن للاقتصاد الكلي وسعر الصرف.
وأشارت فاطمة إلى أنها تنتظر شهر يوليو (تموز) كل عام على أمل استمرار الدعم المقدم من الحكومة لأصحاب المعاشات. وتعلق على أزمة الأسعار "المال لم يعد يشتري شيئاً في الوقت الحالي، ومن أجل المعيشة من دون احتياج لأحد يتطلب ذلك ما لا يقل عن 10 آلاف جنيه، وما أفعله أنني أقلل النفقات وانتظر انتهاء الشهر بفارغ الصبر" بحسب تعبيرها. وتابعت "تنازلت عن متطلبات عديدة، وحال لم أفعل ذلك سينتهي المعاش في ستة أيام فقط، لذا فإنني مضطرة إلى الاستغناء حتى يستمر الجنيه في أيدي".
البحث عن عمل جديد
يعيش الموظف السابق بحي السيدة زينب، جمال رزق، الذي خرج أخيراً على المعاش المعاناة نفسها. ويسرد جانباً من أزمته، مشيراً إلى أنه ظل يمارس عمله في الحي لمدة 35 عاماً، ومع ذلك يتقاضى معاشاً ضعيفاً قيمته 1850 جنيهاً. وأشار جمال إلى أن راتبه كان يبلغ 5500 جنيه قبل أن ينخفض ويصل إلى 20 في المئة من قيمة الراتب بعد وصوله سن المعاش.
ويقترب المعاش الذي يحصل عليه رزق من الحد الأدنى بعد احتساب الزيادة الجديدة التي أعلنتها مصر، التي تصل إلى 1495 جنيهاً، بينما يقف الحد الأقصى للمعاش عند 11 ألفاً و592 جنيهاً.
يقول الرجل الستيني الذي يصرف على أسرة مكونة من أربع فتيات وزوجة، إن "قيمة المعاش لا تكفي مصاريف أسرتي، واضطر إلى الاستدانة"، مستدركاً "نفسي أعيش مثل الناس، وأوفر لأسرتي احتياجاتها من دون أن أمد يدي لأحد. يوجد بنات ومصاريف منزل وإيجار ونور ومياه ومواصلات والتزامات أخرى". وأشار رزق إلى أنه خرج على المعاش منذ شهر واحد، ومنذ ذلك الوقت وهو يبحث عن أي مكان للعمل فيه من أجل أن يقدر على المعيشة.
وأضاف رزق "كنت أتمنى الراحة في هذا العمر، لكنني وجدت نفسي مضطراً إلى البحث عن عمل جديد. بعد الـ60، من أين نأتي بالمجهود الذي نبذله في عمل جديد، كنت أعمل بثلاث وظائف في بداية حياتي حتى أوفر احتياجات أسرتي لكني أجد الآن صعوبة عند بذل أي مجهود".
يضطر رزق إلى الخروج صباح كل يوم لقضاء يومه في محل يملكه أحد أصدقائه المقربين. وحول الأسباب التي تدفعه لذلك الأمر يرد قائلاً "إذا جلست في المنزل سأتعب من التفكير، وأحاول قضاء اليوم بعيداً من أجواء البيت". ومضى يقول "أعاني كثيراً نظراً إلى أن جميع بناتي انتهوا من المرحلة الجامعية، ولم يتزوجوا بعد، وبحاجة إلى مساعدة مني وليس لدي ما أقدمه لهم على رغم أنهم لا يطلبون مني شيئاً نهائياً". وقال الرجل الستيني، إن قيمة المعاش من المستحيل أن تستمر أكثر من 10 أيام في ظل الغلاء، وسلع كثيرة لم أعد أشتريها نهائياً، لكني تعلمت من والدي أن أدير شؤون البيت بأقل الإمكانات.
التعايش مع الأزمات
ووفق عبدالله حسن الذي كان يعمل موظفاً بوزارة العدل المصرية حتى أبريل (نيسان) من العام الماضي، قبل خروجه على المعاش، فإن التأقلم مع الغلاء هو أمر بات حتمياً على الجميع وليس أصحاب المعاشات فقط. ويقول إنه كان يحصل على راتب قدره 10 آلاف جنيه، وانخفض دخله إلى 3500 جنيه بعد إضافة الزيادات الأخيرة. وقال إنه اضطر إلى التجارة، وافتتح محلاً تجارياً في منطقة دار السلام حتى يتمكن من تلبية احتياجات أسرته.
وأشار الرجل الذي لديه ثلاثة أبناء إلى أنه لا بديل أمامه سوى الاستمرار في العمل من دون راحة، والاتجاه إلى التقشف بعد الخروج على المعاش، ومحاولة التأقلم مع الظروف الصعبة الحالية. وأوضح الرجل الستيني أنه بدأ يقتصد في معيشته بقدر الإمكان مستعيناً بآية قرآنية "وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين". وأشار إلى أنه يضطر إلى الدخول في جمعيات مع أصدقائه، مع طلب الحصول على أدوار متقدمة حتى يتمكن من تدبير متطلباته المعيشية. وتابع "لم أعد أفكر في أي مظهر من مظاهر الرفاهية. نحن نبحث فقط عن توفير الأساسات، وحياتنا مثل المريض الذي يضطر إلى التأقلم مع مرضه حتى يستطيع أن يواصل حياته".
بحسب مستشار التدريب السابق بمنظمة العمل الدولية صلاح الأنصاري فإن وضع أصحاب المعاشات بات صعباً للغاية، مرجعاً السبب إلى الارتفاع الكبير في أسعار السلع التي وصفها بـ"غير المعهودة"، مشيراً إلى تأثر هذه الفئة بشكل مباشر بضعف القوة الشرائية للجنيه، وانخفاض قيمته بشكل كبير.
ووفق الأنصاري فإن الأزمة التي يعيشها أصحاب المعاشات على رغم الدعم الموجه لهم من الدولة المصرية لم تكن موجودة بهذه الصورة التي وصفها بـ"القاتمة" قبل عامين، ويرى خبير التدريب النقابي أن أصحاب المعاشات لا يمتلكون مزايا حقيقية، والمساعدات التي تقدم لهم لا تساوي حجم المشكلات التي تواجههم.
ويمضي الأنصاري قائلاً "تزداد أعباء أصحاب المعاشات العائلية مع التقدم في العمر، ويجدون صعوبة في الوفاء بالتزاماتهم تجاه أسرهم، ولا بد من مراعاة فكرة أن تكون هناك علاوة تضخم فعلية حتى يكونوا قادرين على مواجهة الأعباء".
يتطرق الأنصاري، الذي كان يعمل في شركة الحديد والصلب وخرج على المعاش منذ عام 2008، إلى مشكلات يعانيها هو الآخر بعد وصوله سن المعاش. وقال "علاجي 2000 جنيه بصفة شهرية لأنني أعاني ذبحة صدرية، وأعاني مشكلات في القلب، ولا أجد أدوية توسعة الشرايين".
ويشير مستشار التدريب السابق بمنظمة العمل الدولية إلى أنه يجد صعوبة في تلبية احتياجاته من الأدوية والكشوف في التأمين الصحي، ويضطر إلى الذهاب لطبيب يثق فيه. وتابع "التأمين الطبي لا يوفر لي الخدمة المطلوبة، فالهيئة مقيدة برقم فاتورة وأنواع أدوية معينة، لكن يمكن اللجوء إليها عند الخضوع للعمليات الجراحية".