ملخص
هل القارة الأوروبية محصنة من "معاداة السامية"؟
من بين كل التداعيات الكبيرة والصغيرة التي خلفتها مجزرة "حماس" التي ارتكبت في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) في العام الماضي، إحداها فاجأني، والآخر لم يفعل ذلك.
المفاجأة كانت في سرعة تبدل المشاعر من تعاطف شبه كامل مع إسرائيل إلى التعبيرات العنيفة الداعمة للفلسطينيين. في المملكة المتحدة، كما بدا لي الأمر، انقلبت مشاعر التعاطف ضد إسرائيل خلال 24 ساعة، أي تقريباً مباشرة بعد توعد رئيس الوزراء الإسرائيلي بالعمل على تدمير حركة "حماس"، ولكن أيضاً جرى ذلك قبل وقت طويل من شن إسرائيل هجومها العسكري الأول على غزة.
الأعلام الإسرائيلية التي رفعت على المباني الحكومية في المملكة المتحدة، وذلك بعد ساعات فقط من عمليات القتل التي ارتكبتها "حماس" خفضت بعد اليوم من ذلك، لتعود الأعلام الأوكرانية مكانها.
على مدى سنوات طويلة، كانت قضية حصول الفلسطينيين على دولتهم مسألة منسية على المستوى العالمي، مثلها مثل العمليات الصادمة التي نفذتها منظمة التحرير الفلسطينية، لكن ها هي القضية تعود من جديد ليحملها جيل جديد كامل من المحتجين، ليس فقط في الضفة الغربية المحتلة، ولكن في أجزاء كثيرة من القارة الأوروبية والولايات المتحدة.
وكانت عمليات التنديد بإسرائيل قد ازدادت بعد قيامها بالهجوم العسكري، ولكن كثير من التعاطف كان قد تبخر قبل ذلك بكثير، وذلك شكل المفاجأة الأكبر بالنسبة لي.
ما كان أقل مفاجأة بالنسبة لي هو ربما العقد التي قام حزب العمال وزعيمه كير ستارمر بإلزام نفسهم بها، نتيجة مصادفة تزامن الحرب في الشرق الأوسط مع الاستعدادات لإجراء الانتخابات العامة البريطانية. فهناك دوائر انتخابية - محلية وأخرى على المستوى الوطني - ويقطنها عدد كافٍ من المقترعين المسلمين، وجلهم يتحدر من أصول باكستانية، للتأثير في نتائج الانتخابات. وكثيراً ما قام هؤلاء بالتصويت لصالح حزب العمال، وبدوره كان حزب العمال قد عكف على السعي إلى إرضائهم.
لكن، وعلى رغم كل الجهود المبذولة لاقتلاع معاداة السامية، فإن الحزب لم يقم يوماً بالاعتراف علانية لأي درجة كانت تلك المشكلة غير مرتبطة بشخص الزعيم السابق للحزب جيريمي كوربين - وهو شخصية من الطراز القديم ومن الشخصيات العالمية المؤيدة للقضية الفلسطينية – بقدر ما هي مشاعر مترسخة بمعاداة إسرائيل ومعاداة اليهود لدى بعض مقترعيه من المسلمين. إذ قد يبدو أن عدداً من مرشحي حزب العمال للانتخابات، ينتمون إلى تلك الشريحة عن قصد أو بالصدفة. ولا يمكنني أن أصدق أن مرشحاً لمنصب نيابي يكون "يرتكب زلة لسان" غير مقصودة عندما يقول إن إسرائيل كانت قد غضت النظر عن استعدادات "حماس" لعمليات القتل التي وقعت. فتلك لا يمكن أن تكون مجرد زلة لسان، فذلك الموقف يعكس مثالاً من رأي دولي سائد، وتفضل قيادة الحزب أن تخفيه، خشية أن يؤدي ذلك إلى تنفير مجموعات أخرى من المقترعين المؤيدين للحزب. وتلك ميول من المستبعد أن تزول بالنظر إلى الأوضاع الديموغرافية السائدة في المملكة المتحدة. وهو ما يقودنا إلى النتيجة الثالثة لأحداث السابع من أكتوبر التي كانت قد فاجأتني بصورة جزئية فقط: إذ أظهرت أرقام قامت بنشرها مؤسسة إنسانية يهودية هي مؤسسة "الأمن المجتمعي" Community Security Trust، تقول إن رقماً قياسياً من أحداث معادية للسامية عددها 4103 قد سجلت العام الماضي، وهو ما يعادل ضعف عدد الأحداث المبلغ عنها عام 2021 تقريباً.
وثلثا التقارير تزامنت مع تاريخ السابع من أكتوبر أو بعده، وعديد من تلك الأحداث كانت قد وقعت في محيط مواقع المدارس. حسنا، إن الحوادث تلك جرى الإبلاغ عنها بصورة ذاتية، لكن ذلك النهج تدعمه تقارير قوات الشرطة، والتي أظهرت أيضاً ارتفاعاً حاداً في عدد تلك الحوادث.
إن الطفرة الجديدة في حوادث معاداة السامية رصدت أيضاً في مناطق متفرقة من أوروبا في السنوات الأخيرة الماضية. نعم، هناك مؤشرات تدل على الاتجاه المعاكس، فقد كانت الانتخابات الأوكرانية الرئاسية التي جرت عام 2019 [انتخب فيها اليهودي زيلينسكي]، قد دلت على أن الناخبين كانوا قد أداروا ظهرهم إلى آفة اللاسامية المزمنة التي عاناه المجتمع في الماضي.
وهناك تساؤل أيضاً إلى أي درجة يمكن أن تشكل قوة جذب تيار السياسيين اليمينيين المتطرفين في مناطق مختلفة من أوروبا انعكاساً لانبعاث مظاهر معاداة السامية، أو مظاهر من كراهية الأجانب أكثر شمولية، والتي لديها اليوم نفحة تتمحور أكثر حول معاداة الإسلام، لكن من الصعب أن ننكر وجود ذلك الاتجاه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن المملكة المتحدة كانت قد استغلت الدور شبه الأسطوري لاستقبالها الأطفال اليهود [في فترة ما قبل وأوائل الحرب العالمية الثانية] فيما عرف "بعمليات نقل الأطفال" Kindertransport، من خلال حماسة بعض السياسيين، والأبرز من بينهم كانت رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، التي تغنت بنجاحات اليهود في مجالات الاستثمار والثقافة في المملكة المتحدة - على رغم من تراجع ذلك مع مرور السنوات - وبدور بريطانيا في قيام دولة إسرائيل.
في الوقت نفسه، لا بد لي أن أقول إنه ليس من السهل كثيراً كما يعتقد البعض، أن نقوم بفصل مشاعر معاداة إسرائيل عن مسألة معاداة السامية. في كل الأحوال، فمن الممكن التنديد بسياسات الحكومة الإسرائيلية وأفعالها، من دون أن نكون معاديين للسامية - كما يظهر من عدد اليهود المستعدين للقيام بذلك، ولكن إحداهما قد يلبس قناع الآخر في أحيان قد تزيد عما هو المريح الاعتراف به، ولا بد أن هناك تساؤلات بالتأكيد تتعلق بالحد الذي سيبقى فيه حتى ذكر مسألة المحرقة أمراً يخدم عملية حماية اليهود والدفاع عنهم وعن الدولة الإسرائيلية حتى إلى حدود ما يحققه حالياً.
وتتزامن هذه التساؤلات مع فيلمين أنتجا أخيراً يتمحوران حول هذا الموضوع، ولكن في اتجاه مغاير قليلاً. فيلم المخرج جوناثان غلايزر، "منطقة اهتمام" Zone of Interest، الذي كان قد جذب عن جدارة استحسان هواة الأفلام من كافة الاتجاهات. لكن، وإلى درجة ما، إن ذلك [النجاح] يعتمد على مفعول الاستخدام الواسع للمعالم الأيقونية. وعليكم أن تعلموا ما تمثله كلمة "أوشفيتز" Auschwitz، وأن تتعرفوا على شكل البرج في ذلك المخيم، وأن تعلموا بأن غرف الغاز كانت تستخدم لارتكاب جرائم القتل الجماعي، وهي معالم أيقونية، لكنها مع مرور الأجيال تصبح أقل تشاركاً في هذا الانطباع بين الجميع. فكومة الأحذية تتحول فجأة إلى مجرد كومة أحذية، والبرج في مخيم "أوشفيتز" يتحول إلى مجرد برج.
أنا لست شخصاً يهودياً، لكنني ترعرعت مع تلك الصور، كما هو حال معظم الأفراد من الجيل الذي ينتمي إلى حقبة ما بعد الحرب ربما. لقد زرت عدداً من معسكرات الاعتقال، ومن ضمنها معتقل "أوشفيتز"، الذي كان قد أصبح إلى درجة كبيرة رمزاً لجميع تلك المعتقلات.
لكنني أتساءل: حتى وإن كنتم ستقومون في رحلة مدرسية إلى معتقل أوشفيتز، اليوم، كما يفعل كثر، فما حجم العلاقة التي قد يشعر بها الفرد حيال ذلك، خصوصاً إن كان هؤلاء الأطفال قد نشأوا بعيداً من التقاليد اليهودية أو المسيحية؟
أما الفيلم السينمائي الثاني يصور درجة وكيفية محو الذاكرة اليوم، فيلم ستيف ماكوين "مدينة محتلة" Occupied City، هو فيلم قاسٍ تدور أحداثه حول جولة تدوم أربع ساعات في مدينة أمستردام الهولندية، خلال وبعد جائحة كورونا، ويقوم بالتعليق على أحداثه صوت يحدد المواقع من خلال الدور الذي لعبته تلك المنشآت خلال الاحتلال الألماني للمدينة. من أقسى تلك المواقع مدرسة للفتيات التي كانت استخدمت كمركز للاستجواب والتعذيب. إن فيلم ستيف ماكوين أظهر التلاميذ في هذه الأيام، وهم متجمعون حول الخزائن تماماً مثل تجمع الأطفال في أي مكان آخر.
إن تاريخ تلك السنوات في هولندا محصور اليوم بصورة كبيرة في النصب التذكارية الرسمية، ولكن وكما كان أحدهم قد طرح السؤال على ماكوين بعد عرض الفيلم: مع تاريخ كهذا، كيف يمكن لحزب مثل حزب غيرت ويلدرز (حزب يميني متطرف والمعادي للإسلام) أن يجمع عدداً أكبر من الأصوات من أي حزب آخر في الانتخابات الهولندية التي جرت العام الماضي. إنه سؤال وجيه، لكن فترة الاحتلال الألماني كانت قد انتهت قبل أكثر من 75 عاماً. إن الزمن لا يمكن إعادة عقاربه وترجمته وعكسه على واقعنا اليوم.
على مشارف مدينة القدس، يرمز مجمع "ياد فاشيم" إلى ذاكرة المحرقة بوصفها عموداً مؤسساً لدولة إسرائيل، أو ما يقول البعض عنه الشعور بالضحية التي يحس به اليهود. إن تلاميذ المدارس في إسرائيل يحضرون لزيارة هذه الموقع بوصفه توكيداً على الانتماء، وإنه أيضاً محاولة لتأكيد الذكريات المتعلقة بالمحرقة، وإن الدروس المستقاة منها يجب ألا تنسى، لأن أولئك الذين يتذكرون تلك الأحداث يصبحون جزءاً من التاريخ نفسه.
إن ذلك هو بمثابة هاجس يحمله اليهود في كل مكان، وسيكون هذا الهاجس أكثر قوة بسبب السرعة التي طمست بها تجربة هجمات السابع من أكتوبر في كثير من الدول من قبل أولئك من يتحدثون عن معاناة الفلسطينيين، وذلك من شأنه ترك أسئلة عن الدرجة التي ستستمر من خلالها ذكرى "الهولوكوست" أو المحرقة في الصمود بين من هم من غير اليهود، وتخدم كمبرر لقيام دولة إسرائيل، وبقاء اليهود حول العالم ونجاتهم.
قد لا تتوفر إجابة عن هذا السؤال، تماماً كما أنه سيكون من الصعب التخلص من معاداة السامية، لكنني أتفق مع عدم صوابية فكرة إنشاء نصب تذكاري ضخم في لندن. من الجانب الآخر، وبالنسبة إلى مواصلة إسرائيل تقدمها كدولة متطورة ديمقراطية ومزدهرة، تتمتع باقتصاد يعتمد على التكنولوجيا المتطورة، قد يكون جزءاً من الطريق، إضافة إلى التقيد الدقيق بكل الاتفاقات الدولية، هو إنهاء إقامة المستوطنات في الأراضي المحتلة.
لا بد أن تكون إسرائيل دولة مستعدة للحديث عن مبدأ التعايش مع الدولة الفلسطينية، شريطة أن تتوافر ضمانات أمنية للجانبين. إن دولة مثالية من ذلك النوع قد تنجح في تلك الأثناء في المساعدة على محاربة معاداة السامية. لقد مرت فترات حين كان حصول شيء مماثل أمراً محتملاً، لكن وللأسف فإن المزيج المكون من اعتداءات "حماس" ورد الفعل الإسرائيلي عليها، من شأنه أن يكون قد أبعد تلك الاحتمالية لمدة سنوات إضافية كثيرة.
أما بالنسبة إلى المملكة المتحدة، فإنه لا بد أن يتحقق شيء من التغيير. ففي دولة ديمقراطية، لا يمكن تجاهل أقلية مسلمة تنمو. إن المسؤولين عن اتخاذ القرارات في شأن السياسة الخارجية، والمقررات الدراسية والحروب التي تخوضها البلاد، لا بد أن يأخذوا في عين الحسبان التغيرات الديموغرافية، مع تمسكهم بالقيم التي تنادي بها الغالبية.
إن حزب العمال البريطاني، وعلى رغم كل الأخطاء المرتكبة، يظهر مدى الصعوبة التي سيكون عليها ذلك الأمر.
© The Independent