Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"سيرة الآخرين" كما يكتبها بشير البكر بروح الالفة

أجيال وتجارب عربية في شتّى المجالات الإبداعية والثقافية

لوحة للرسام خالد يان (صفحة الرسام - فيسبوك)

يسعى الشاعر والصحافي السوري بشير البكر بنيان كتابه هذا "سيرة الآخرين" (دار جسور، 2023)، إلى استعادة "شذرات" من سِيَر وتجارب عدد كبير من المبدعين، في مجالات شتّى، أبرزها الشعر والرواية والقصّة والترجمة، ولكنها تتضمّن الفكر والنقد الأدبي والتشكيل، وحتى السينما وفنّ التمثيل. وهو يتّكئ في إنشاء بنيانه هذا على تجربة ثقافية (وسياسية أيضاً) واسعة، ومعرفة عميقة بالعوالم الثقافية التي يخوض غمار الكشف عنها، ومحاولة وضعها في إطار يميّزها.

فمن خلال تسع وستين شخصية ثقافية- إبداعية، عربية غالباً، ومن أقطار العرب كلها تقريباً، مع استثناءات قليلة من غير العرب، لكلّ شخصيةٍ منهم تجربته الإبداعية وملامحه الحياتية والإنسانيّة، يتغلغل البكر في روح هذه الشخصيّات وفكرها وثمار تجربتها، ليقدم لنا عصارة علاقته مع كل منهم، مع تعدّد وتنوّع مستوى هذه العلاقة التي تتّخذ شكل حواريّة ما، عن قرب أو بعد، علاقة تتجسّد من خلالها صورة الشخصيّة التي يجري تناولها، والعالم الذي تدور فيه. وتَظهر في هذا كله، محطّات من سيرة البكر نفسه، سيرة ترحاله وانشغالاته الأساسيّة، في الصحافة والثقافة، والتوجّهات والمواقف التي حكمت هذه المسيرة وميّزتها... السيرة التي لم يشأ أن يكتبها بوصفها سيرته هو.  

لعلّ أوّل ما يلفت قارئ هذا الكتاب هو عنوانه، وخصوصاً مفردة "سيرة" التي غالباً ما تحيل على الشخصيّ واليوميّ في الحياة، أكثر مما تحيل على الإبداعيّ الصِّرف، على رغم كونها قد تمزج الشخصيّ اليوميّ والمعيشيّ بالإبداعيّ، كما هي الحال في هذا المنحى الذي يتناول به البكر شخصيّاته. لكنّ "السيرة" هنا قد تكتفي بالجوانب الفكرية لبعض هذه الشخصيّات، كما سنرى في تناول "سيرة" المفكّر الفلسطيني "عزمي بشارة... المثقف العربي في الزمن الصعب" التي هي تركيز في مسيرة فكريّة- سياسية، مثلاً، وغيرها من السِّيَر التي يتضاءل فيها الجانب الحياتي لمصلحة الفكريّ والإبداعيّ. ويلفت الانتباهَ أيضاً انشغال المؤلّف- البكر بعناوين فصوله التي أراد لها أن تلخّص تجربة الشخص الذي يتناول "سيرته"، فهي عناوين ذات صبغة شاعرية ودلالات ثقافية وفكريّة عميقة.

ووسط الزّخم الثقافيّ والإبداعيّ الكبير، تبرز أسماء وتجارب إبداعية مألوفة، ولكلّ منهم لافتة وعنوان، زخم يصعب معه استعراضها جميعاً، منها: عزمي بشارة، صادق جلال العظم، محمد الماغوط، أمجد ناصر، علي الجندي، رياض الصالح الحسين، جهاد هديب، عبد السلام العجيلي، أمين معلوف، فرج بيرقدار، يوسف سامي اليوسف، خالد خليفة، إنعام كجه جي، سمر يزبك، سلوى النعيمي، خليل النعيمي، عبد العزيز المقالح، بندر عبد الحميد، فواز حداد، رشا الأمير، ديمة الشكر، سميح شقير، فهد بلان، مصطفى الحلّاج، نزيه خاطر، نجاح طاهر، جان شمعون، محمد حقّي صوتشين.

صور شخصية

كثيرة هي السّيَر التي يكتبها المؤلّف- يرسمها برشاقة وحميميّة، لأصدقاء ومعارف، في لقاءات طويلة أو عابرة. نقرأ مستوياتٍ من التصوير والسرد. وبتعدّد الصوَر، تتعدّد صِيغ "السّرد" وتختلف من شخصيّة إلى سواها، وربّما اعتمد هذا الجانب على مدى عمق العلاقة بين البكر والشخصيّة التي يكتب عنها. وسوف نتوقّف، هنا، عند أبرز الصّيغ التي يلجأ إليها البكر في تناول هذه النماذج التي اختارها لكتابه هذه. فحين يكون الشخص صاحب السيرة قريباً جدّاً، تطغى صيغة "تعرّفت..."، "التقيتُ..."، "كانت بداية معرفتي..."، "حاورت..."، "رأيت..."، أو حتى "قرأت لـه..."، وقد نكون أمام سيرة شخص من خلال نضالاته ومؤلّفاته من دون الوقوف أمام العلاقة الحميمة، وهكذا. ومن ذلك بداية علاقته مع الصحافيّ الفرنسيّ إريك رولو الذي يسمّيه "ذاكرة القرن العشرين"، يقول: قابلت إريك رولو أول مرة سريعاً، في بيروت، مطلع العام 1982، في صحيفة السفير، وكان قادماً من طهران، حيث كان يغطي لصحيفة لوموند الفرنسية".

كتاب بشير البكر يبدأ بعرض ومناقشة كتاب "في نفي المنفى"، الذي يحتوي حواراً فكريّاً وسياسيّاً شاملاً مع المفكر عزمي بشارة أجراه الكاتب والصحافيّ صقر أبو فخر، وينتهي بفصل عن "صالح علماني... المترجم شريك الكاتب ومؤلف الترجمة"، وما بينهما عشرات الفصول والسّيَر. واللافت فيه أيضاً أنه، في نهاية الأمر، صيغة من صِيَغ العلاقات الثقافية بين البكر والعالم، أو صورة من صوَر هذه العلاقات، حتى لو كانت علاقة مع كتاب، لكنها تشكل مدخلاً ومبرّراً للعلاقة. 

ويعتبر البكر أن كتاب "في نفي المنفى" عمل مرجعي للتعرف إلى مسار بشارة العامّ، منذ ولادته في فلسطين عام 1956، وحتى لحظة إجراء هذا الحوار الشامل معه (صدر عام 2017)، مروراً بالطبع في محطّات نضاليّة شهدتها تجربة بشارة في الداخل الفلسطيني وخارجه، بما فيها تجربته في "الكنيست"، ثمّ استقالته منها، والخروج إلى "المنفى"، ليتفرّغ لتجربته الفكرية والبحثية التي أثمرت عدداً من الدراسات.

يقول البكر في فصل بعنوان "حكاية صهوة الجواد الأبيض"، حول علاقته مع زكريا تامر "كانت آخر زيارة لي للكاتب الصديق (تامر) في 30  مارس (آذار)  2019، قبل أن أرحل من مدينة لندن"، بهذا المقطع يفتتح البكر ملمَحاً من ملامح علاقته مع هذا الكاتب، لكن المقطع- كما نلحظ- يُظهر أيضاً جانباً من حياة- سيرة البكر نفسه بين الحلّ والترحال، بين عواصم عربية وعالمية. أي أنّنا أمام الذات- المؤلّف في علاقته مع "الآخر" صاحب السيرة المرويّة هنا.

وهو ما نشهده في غالبيّة فصول الكتاب، ففي كلّ سيرة يحضر المؤلّف- البكر على نحو ما، الأمر الذي يؤكّد على أنّه يكتب ملامح من سيرته التي لم يكتبها. وممّا يلفت الاهتمامَ إشارة البكر إلى جانب من شخصية زكريا تامر في (أكسفورد- بريطانيا) حيث "يعيش في بيت جميل واسع، أدخل عليه ما تجود به الحداثة من اختراعات وتقنيات، ومن ذلك المنظف الآلي. وهو عبارة عن "روبوت" صغير يتحرك من تلقاء نفسه لتنظيف المنزل، وهو مبرمج للقيام بهذه المهمة من دون أن يطلب منه أحد". ويتساءل القارئ من يتوقّع هذا الملمح في شخصية صاحب "النمور في اليوم العاشر"؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أمّا عبد الرحمن منيف، فهو بالنسبة إلى بشير البكر "راوي النفط والسّجن والصّحراء"، الذي تعود معرفته به إلى "أول عمل روائي له صدر عام 1973 "الأشجار واغتيال مرزوق"، وذلك في بداية القراءات التي تنشد الجديد"، كما يقول في افتتاحية الفصل عن منيف. ويضيف في فقرة لاحقة "والتقيت منيف في باريس، في بيت الفنان يوسف عبدلكي وزوجته السينمائية هالة العبدالله، في أكتوبر (تشرين الأول) 1985 ، وكان قد مضى على إقامته في العاصمة الفرنسية حوالى أربعة أعوام، إذ سكن فيها بعدما غادر بغداد عام 1981 بعد عام على اندلاع الحرب العراقية- الإيرانية". ومثلما يتذكّره في باريس، سيتذكّره في اليمن التي أحبّه أهلها لكتاباته.

وفي فصل عن حامد آراغون بدرخان الكردي، نتعرف إلى شاعر كردي، ولد في إحدى قرى منطقة عفرين في سوريا عام 1924، وحين كان طفلاً فرَّت عائلته للطرف الآخر من الحدود إلى عنتاب في تركيا، يقول البكر إنه تعرف إليه "في حلب ذات ليلة عاصفة وباردة من شتاءات عام 1976، وكنّا في دعوة عشاء أقامها الشاعر سعيد رجو الذي كان يعمل في فرع اتحاد الكتاب في حلب"، ويتحدث عن أهمّ محطات حامد في الشطر الأول من حياته في تركيا، والتعرف إلى الشاعر ناظم حكمت، والروائي عزيز نيسين، وإنه حين عاد إلى حلب اختلط بالمثقفين السوريين والفلسطينيين والأردنيين من أمثال سعيد حورانية، شوقي بغدادي، سعيد مراد، علي الجندي، معين بسيسو، ونبيه أرشيدات.  

بورتريهات عن قرب

 إلّا أنّ حضور بعض الششخصيات يبدو أشدّ حميميّة من سواها. والأمر يعود- كما ذكرت سابقاً- إلى مدى عمق علاقة المؤلّف بالشخصيّة وتجربته، ومن ذلك مثلاً ما يظهر في تناوله تجربة الشاعر الفلسطيني الأردني جهاد هديب، أو "الشاعر الذي خانه الألم"، كشاعر وصحافي ثقافي وكاتب ومترجم، ولكن كصديق مقرّب أيضاً، إذ يبدو حجم تعاطف البكر مع هذا الشاعر، مع آلامه وعذاباته التي انتهت برحيله بعد رحلة قاسية مع السّرطان. وهو تعاطف يحرص على أن يمزج بين الإنسانيّ والتميّز الإبداعيّ.

وكذلك الأمر في تناول تجربة القاصّ السوريّ جميل حتمل الذي يكتب عنه بعنوان "صورة الكاتب في شبابه الحزين". و"فرج بيرقدار... شاعر طليق الجناحين". فهو هنا لا يكتفي بتناول الجانب الإبداعيّ، بل يغوص في تجربة حتمل الحياتية، الثقافية والسياسيّة، والمرض الذي ظل يعاني منه جميل قبل أن يهزمه القلب. أمّا بيرقدار، فتحضر تجربته الشعريّة المميّزة، بقدر ما تحضر حالة الاعتقال والسّجون، قبل أن يتحرّر ويهاجر ليبدأ في اكتشاف أجنحته ويطير من جديد.

باختصار، نحن حيال عمل يلخّص ويكثّف أجيالاً وتجارب إبداعية يصعب اختزالها في كلمات، كما يصعب تجاهل الأسلوب في تناولها وعرضها على تنوّعها. 

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة