Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"وجوه" مسرحية تستعيد شخصيات غابت عند بحر اللاذقية

المخرج جهاد سعد عمل على توظيف جوقة صامتة في عرض مونودرامي

الممثل سهيل حداد في عرض الممثل الواحد (ملف العرض)

ملخص

المخرج جهاد سعد عمل على توظيف جوقة صامتة في عرض مونودرامي

بين المقبرة وصالة النادي السينمائي في اللاذقية قطع الفنان جهاد سعد أسابيع تدريباته الطويلة والصعبة على عرضه الجديد "وجوه". تعاون المخرج السوري في هذه التجربة مع (تجمع القباني للفنون المسرحية والموسيقية) عبر ممثل وحيد على الخشبة (سهيل حداد)، وحاول من خلاله الإطلالة على أرشيف ضخم لشخصيات كان لها أثر كبير في الحياة الثقافية للمدينة البحرية السورية.

اشتغل سعد في "وجوه" على نص للكاتب أحمد قشقارة، وعمل على إعداده للخشبة من خلال تقنية تعدد الأصوات، فالشخصيات الغائبة يتم استحضارها عبر مونولوغات مطولة يعود فيها إلى الحياة كل من حنا مينا وغابي سعادة وإلياس مرقص، جنباً إلى جنب مع جورج سعد ومحمود عجان وعبدالله عبد. حدث ذلك على لسان راو حاول استحضار أرواحهم، واستعاد الجمهور من خلال "تحضير الأرواح" هذا أماكن ومقاه وصالات سينما ومسارح لم تعد موجودة في اللاذقية، فالمدينة التي تغير طابعها العمراني لم تعد هي نفسها اليوم، بل أمست مدينة باهتة وبطيئة تعيش على ساحل البحر المتوسط.

حكايات المدينة المفقودة

يبدأ العرض (إنتاج شركة إيبلا الدولية) بمعزوفات حية للموسيقي سيمون مريش، ليدخل بعدها الممثل إلى ما يشبه مقهى بحرياً خالياً من زواره، فيجول بين كراسيه وطاولاته الفارغة، وبين كل طاولة من طاولات هذا المقهى يعبر بنا الممثل إلى حكاية جديدة من حكايات مدينته المفقودة، فيروي لنا عن شعرائها ومفكريها وموسيقييها، مثلما يحكي لنا عن مجاذيبها وبهاليلها وظرفائها الذين اختفوا من الحياة العامة. لنكتشف رويداً رويداً أن المكان هنا ليس اعتباطياً، فهو تجسيد خيالي لـ"مقهى ومسرح شناتا" الأثري. المكان الذي احتضن حفلات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب، كما أقيمت فيه عروض مسرحية لكل من يوسف وهبي ونجيب الريحاني وفاطمة رشدي وأمين عطا الله ثلاثينيات القرن الماضي.

ويمهد جهاد سعد لهذا التشييع الجنائزي بمرور جوقة صامتة من شباب وشابات وهم يحملون الشموع، ويسيرون خلف قطعة قماش بيضاء تنعكس ظلالهم عليها، وكأنهم أطياف لتلك الوجوه البعيدة التي غادرت الحياة، لكن أرواحهم بقيت هائمة في المكان، وما زال صدى أصواتهم يتردد عبر حنجرة بطل العرض، فيتكون صراع خفي بينه وبين أشباح تلك الشخصيات التي تأبى أن تغادر ذاكرته، وتظل تظهر له على طاولات المقهى القديم، وعند سور ميناء القزاز، وعلى أرصفة الواجهة البحرية لمدينة اللاذقية.

أمكنة وذكريات وحوارات

مسرحيات نضال سيجري، وألحان محمود عجان، وشخوص روايات حنا مينا وقصص عبدالله عبد، وأول نوتة موسيقية في موقع رأس شمرا الأثري (أوغاريت)، كلها تتدافع نحو مخيلة بطل العرض، وتلاحقه إلى فندق الكازينو الأثري الذي أنشأه الفرنسيون عام 1926، ومنه إلى حديقة البطرنة ومقهى العصافيري، ومن ثم الحديث عن ذكريات الصيادين وأغانيهم التي اندثرت مع "تبليط البحر"، وإنشاء ميناء جديد ردم الواجهة البحرية القديمة، وطمس الممشى البحري الذي كان أهالي اللاذقية يعتبرونه بمثابة منصة يومية لحوار دائم بينهم وبين الموج والأسماك والأبجديات القديمة.

يمضي العرض بعدها إلى حوارات ساخرة من نمط الحياة المعاصرة، وإلى الخراب الذي أصاب الوجوه، فأحالها عبر عمليات التجميل إلى نسخ متشابهة ومشوهة. وجوه بابتسامات هوليوودية وأسنان من الزيركون تبتسم للعابرين بخبث ولؤم، وجوه لا تشبه قسمات من غادروا المكان، ولا قرابة لها مع معالمه الذي بدأ هو الآخر يضمحل ويأخذ سحنة هجينة، ويبتعد عن ماضيه المجيد.

هنا يعوض كل من مخرج العرض وكاتبه المخاطب الغائب في عروض المونودراما (مسرحية الممثل الواحد) بالحوار مع زوار وهميين للمقهى المهجور. تماماً كما كان الحال في البروفات الطويلة التي سبقت زمن العرض، إذ اعتمد المخرج على اصطحاب بطل "وجوه" يومياً إلى مقابر اللاذقية، وجعله يتحدث إلى الأموات، وذلك في محاولة من صاحب "هستيريا" لدفع الممثل إلى أعلى درجات الصدق الفني، واستبدال أطياف الشخصيات المستحضرة بشواهد القبور وصمتها الرهيب، ليكون الحوار أولاً مع الموتى قبل الأحياء، ومن ثم مع أطيافهم التي يصورها العرض كشبح والد هاملت المقتول غيلة في المسرحية الشكسبيرية المعروفة.

الوجه والجسد

اعتمد جهاد سعد في "وجوه" على سينوغرافيا من تصميمه، واتكأ فيها على أضواء الشموع وعلى الإضاءة العمودية المسلطة على وجه الممثل وجسده عبر مصابيح المقهى، وذلك من دون إظهار ملامح وجه الممثل كاملة، وذلك في محاولة لاستعارة وجه المؤدي ليكون جميع الوجوه التي يتم استحضارها على المسرح، إلا أن اللافت في هذا العرض هو تطويع جسد الممثل لأداء لم يقتصر على الروي وحسب، بقدر ما ضم الغناء والحركة والتمثيل، إضافة إلى التركيز على العالم الداخلي للممثل، والعمل على تنويع النبرات المستخدمة في الخطاب المسرحي.

ويظهر من "وجوه" رغبة جهاد سعد في جعل الصوت الواحد مجموعة لا نهائية من الأصوات على لسان بطل العرض، ومحاولة الخروج من المونولوغ إلى الديالوغ، وذلك من أجل إيجاد صراع درامي بين الممثل والأطياف التي تحاصره، ومن ثم نقل هذا الصراع إلى الجمهور، والرغبة في تحقيق صلة انفعالية مع المتفرج، وعدم الاكتفاء بالحنين إلى الماضي كموضوع للعرض، بل بمقاربة هذا الماضي مع الراهن واليومي في حياة السوريين، لا سيما في سنوات الحرب التي أجهزت على ما تبقى من ذاكرة حية للأماكن والوجوه، ونبشها من بين القبور لتكون ماثلة للعيان.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عبر هذه الوصفة الدرامية المحكمة يمسي الجمهور أمام ممثل بأصوات متعددة، ممثل لم يتوقف أداؤه على استظهار الحوارات المكتوبة بقدر معايشتها، والخروج على الصيغ التقليدية لممثل المونودراما الذي غالباً ما يعتمد على التقليد والتنكر واستعارة أصوات الشخصيات التي يقوم بمحاورتها، بل اختار مخرج "وجوه" أن يبقي ممثله ضمن شرط فني يبتعد فيه عن تكلف نبرة مغايرة لصوته، مع الإبقاء على لمحات ساخرة وكوميدية كانت تأتي في العرض على شكل نقلات بين فقرة وأخرى، والتركيز على الصراع الداخلي كأحد أصعب أنواع الصراعات الدرامية.

هكذا خلص "وجوه" إلى ما يشبه الدمج بين الرثاء والهجاء معاً لمدينة لم تعد موجودة إلا في ذاكرة من عايشوها. مدينة اللاذقية التي يقول بطل "وجوه" عنها إنه "مملح بترابها". وصولاً إلى المشهد الختامي من العرض، والذي جاء على هيئة ترنيمة وداعية لجوقة تعود وتسدل ستارة المسرح على صرخات من غرقوا في بحرها العظيم، ليخرجوا من جديد من هذا البحر في مشهد أقرب إلى فيلم سوريالي، فتنطفئ شموع الجوقة، ويبقى صوت بطل العرض يتصادى بين كراسي المقهى المهجور الذي قضى معظم زواره انتحاراً أو كمداً أو حباً من طرف واحد.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة