لم تغب المفاجآت عن مهرجان برلين السينمائي (15 - 25 فبراير/ شباط) هذه السنة، وفي جو من النقاش والتظاهر، فازت أفلام لأسباب سياسية، وبعضها وثائقي لا يرقى إلى مرتبة الفن السينمائي الروائي الحقيقي. فللعام الثاني على التوالي، يفوز فيلم وثائقي فرنسي بالجائزة الكبرى في، إثر إسناد "الدبّ الذهبي" مساء أمس إلى "داهوميه" للمخرجة الفرنسية من أصل سنغالي ماتي دويب بعدما كان نالها السنة الماضية فيلم "على قارب الأدامان" لنيكولا فيليبير، علماً أن الفيلمين مختلفان جداً أحدهما عن الآخر، طرحاً وأسلوباً.
"داهوميه" هو أحد الفيلمين الوثائقيين اللذين شاركا في مسابقة الدورة 74، وكان فوزه متوقّعاً بعض التوقع بسبب ترؤس لجنة التحكيم لوبيتا نيونغو، وهي ممثّلة مكسيكية من أصول أفريقية (كينيا)، ذاع صيتها إلى حد ما بعد اضطلاعها بدور باتسي في فيلم "12 سنة عبداً" لستيف ماكوين، واضطلعت فيه بدور "عبدة" تعمل في حقول القطن التي يملكها رجل أبيض يعاملها معاملة غير إنسانية. وفازت عنه وقتذاك بجائزة "أوسكار" أفضل دور ثانوي. وتردد خلال المهرجان أنها تعاطفت مع القضية التي يطرحها "داهوميه" وهي استعادة جمهورية بنين (مملكة داهوميه سابقاً)، لبعض من كنوزها المنهوبة التي تنتمي إلى تراثها، وهذا خلال إحدى الحروب التي خاضتها الإمبرطورية الاستعمارية الفرنسية في القرن الثامن عشر. موضوع يجمع بين السياسي والثقافي والعلاقة التاريخية المعقّدة بين أفريقيا والغرب وتاريخه الاستعماري، لدرجة بدا الخيار الأمثل لتسجيل موقف عبر تظاهرة ثقافية فنية شهدت هذا العام الكثير من التجاذبات والاستقطابات السياسية، خصوصاً في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة.
لوبيتا نيونغو أول سيدة من أصول أفريقية تتولّى رئاسة لجنة تحكيم برلين، وهذه اللجنة أعطت "الدب" لثاني شخص من أصول أفريقية نالها في تاريخ برلين، إذ كان فاز بها "أو كارمن" للجنوب أفريقي مارك دورنفورد ماي في عام 2005. لكن، هذه ليست أول جائزة تنالها ديوب، فهي حازت على الجائزة الكبرى عن فيلمها الأول "أتلانتيك" في مهرجان كانّ عام 2019.
هل يستحق الفيلم هذه الجائزة الرفيعة؟ الرد معقَّد. فهو يستحقّها ولا يستحقّها في أن واحد. الفكرة ليست ثورية والتنفيذ مقبول، لكن هل يصح أن ينافس أعمالاً روائية أكثر تعقيداً وتأتي بأطروحات أعمق واحتاجت إلى جهد أكبر كي تُنجز؟
مسار التماثيل
يوثّق "داهوميه" مسار التماثيل والآثار والتحف التي قررت الدولة الفرنسية إعادتها إلى جمهورية بنين، بعدما سُنَّ قانون عام 2020 في البرلمان الفرنسي يتيح ذلك. إلى هنا، لا شيء جديداً في الفيلم، ولكن في لحظة من اللحظات، يبدأ أحد التماثيل الذي يحمل رقم 26 في الحديث عن تجربته في التواجد داخل مكان غير مكانه وبعيداً من بيئته طوال عقود، وعن تاريخه ورؤيته للاستعمار، وإلى ما هناك من مسائل وقضايا. هذا كله خلال الرحلة التي يقوم بها من متحف كيه برانلي في باريس إلى القصر الرئاسي في كوتونو حيث وجهته الأخيرة. سيكون في انتظاره هو وغيره العديد من أهل البلد في استقبال رسمي حاشد.
الفيلم يدور في فلكين: الأول يحاول أن يرتقي بالحدث إلى مرتبة الميثولوجيا، رابطاً الحاضر بالماضي، في حين ينزل الثاني إلى أرض الواقع ليسجّل النقاش الذي تثيره عودة الكنوز إلى ديارها، مع التذكير أن ثمة الكثير من تلك الآثار التي يُنتظر عودتها ولم تستردها الدولة بعد. وهذا موضوع نقاش طلبة إحدى الجامعات، وفيها تموضع ديوب كاميراها. فلا يكفي أن يعود التراث الأفريقي إلى بيئته الطبيعية، بل هناك كثير ممّا يجب أن يُقام في هذا المجال، انطلاقاً من سؤال الهوية الأفريقية ومستقبل الشباب في القارة السمراء، الذين من الواضح أنهم لم يتعودوا أن يذهب أي شيء من أفريقيا إلى أوروبا ليعود منها لاحقاً. فالهجرة كانت دائماً من الجنوب في اتجاه الشمال، وللمرة الأولى تقوم جهة ما بهجرة عكسية، لتصبح أحد مواضيع فيلم ديوب التي تقدّم فيلماً وثائقياً فيه فانتازيا والاستعانة بالأساطير، من دون أن يستسلم إلى الرؤية الكلاسيكية والمعالجة التقليدية.
العديد من الأقلام أثنى على خيار اللجنة، للأسباب عينها التي جعلت الفيلم يفوز: عدم القدرة على تجاهل الخطاب السياسي فيه، وهذا هو العيب الذي يؤخذ على الـ"برليناله"، إذ ينحاز دائماً إلى السياسة على حساب الفن.
جائزة لجنة التحكيم الكبرى ("دب فضي") ذهبت إلى المخرج الكوري هونغ سانغ سو عن "احتياجات مسافرة"، وفيه تضطلع إيزابيل أوبير بدور فرنسية تمضي وقتها في شوارع العاصمة الكورية وتعلّم اللغة الفرنسية لسيدتين. ثم تتعرف إلى شاب تقيم هي في منزله، ويتبادلان أطراف الحديث. سانغ سو، المعروف بسينماه المينيمالية والذي يترك مساحات غامضة في أفلامه، من الذين اعتادوا عرض جديدهم في المهرجان، وهو خلال تسلّمه الجائزة، توجّه مستغرباً إلى أعضاء لجنة التحكيم بسؤال: "ماذا وجدتم في هذا الفيلم؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الإمبراطورية" للفرنسي برونو دومون، أغرب أفلام المسابقة وواحد من أفضل ما عُرض في ساحة بوتسدامر هذا العام، وجدته اللجنة أهلاً لجائزة لجنة التحكيم ("دب فضي"). دومون الذي عودنا على المعالجات الغريبة لمواضيع شائكة تأخذ من عمق الريف الفرنسي مسرحاً لها، يطلق حرباً بين معسكري الخير والشر، لكن يجب عدم توقع أي شيء يتقيّد بالمنطق، فكل شيء هنا متروك لمخيلته الخصبة، من خلال محاكاة أفلام علم الخيال الهوليوودي التي يقول عنها المخرج القدير بأنها تحكي ما تحكيه سينما المؤلف الجادة، لكن بلغة وأساليب وأنماط مختلفة. وهذا الفرق بين السينمايين هو موضوع الفيلم.
"پيپيه" للمخرج الدومينيكاني نيلسون كارلو دو لوس سانتوس أرياس، شكّل فوزه مفاجأة، إذ أُعطى جائزة أفضل مخرج ("دب فضي")، فيلم غرائبي حافل بالدلالات والرمزيات التي تجمع الأماكن والأفكار في توليفة سينمائية عجيبة جداً تخربط طريقة التلقي التقليدي عند المُشاهد، علماً أن فرس البحر هو الشخصية الرئيسة فيه. أما جائزة أفضل تمثيل، فكانت من نصيب الممثّل الأميركي الروماني سيباستيان ستان عن دوره في "رجل مختلف" للأميركي أيرون شيمبرغ، حيث لعب دور شاب أربعيني يعاني من تشوّه في وجهه، نتيجة إصابته بمرض الورم العصبي الليفي، إلى أن يحدث ما لم يكن في الحسبان: يخضع لعملية يعود بعدها إلى وسامته، إلا أن حادثة معينة تجعله يطوق إلى مظهره السابق.
في المقابل، أُعطيت الممثّلة البريطانية إيميلي واتسون جائزة أفضل دور ثانوي عن شخصية الراهبة التي تجسّدها في "أشياء كهذه" لتوم ميليانتس، فيلم الافتتاح المتواضع فنياً الذي لم ينل أي جائزة غير هذه. كذلك فاز "أن نموت" للمخرج الألماني ماتياس غلاسنر، جائزة أفضل سيناريو، وهو فيلم يمتد على ثلاث ساعات تتحدّث عن لم شمل عائلة في مواجهة لحظة الموت القاسية، علماً أنه نال إعجاب الكثيرين. أخيراً، لم تنسَ اللجنة رد الاعتبار إلى "حمّام الشيطان" للنمسويين سيفيرين فيالا وفيرونيكا فرانز (بورتريه نفسي لسيدة ريفية في زمن المحرمات الدينية)، من خلال إعطائه جائزة أعظم مساهمة فنية.