ملخص
5 أسابيع من التدريب – هكذا تسهم بريطانيا في تحويل مدنيين أوكرانيين إلى جنود
بخطى بطيئة إنما واثقة، تتقدم فصيلة من ستة جنود أوكرانيين داخل ما يشبه بيتاً مهجوراً، قد يكون في داخله رجال روس غزوا بلادهم بوحشية تامة على امتداد السنتين الماضيتين. وهؤلاء الأوكرانيون مصممون على عدم إظهار أي الرحمة، ويعرفون أنه سيكون عليهم اقتحام المكان بعزم وسرعة.
وقد أومأ لهم قائدهم بإشارة صامتة، فدخلوا المبنى. لكنهم لم يقتحموه صارخين ومهولين وكأنهم في مشهد مبتذل في أحد الأفلام الحربية. بل على العكس، تسلل الجنود إلى المكان بصمت وخفة حركة.
فكانوا كراقصي الباليه، تراهم يطوفون متجهين إلى مواقع تمرنوا عليها جيداً، مما سيعطيهم أفضل فرصة ممكنة لتحييد عدوهم، ولكن أيضاً لتجنب تعرضهم للقتل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولم تمر دقيقة، حتى كان الأوكرانيون قد انتشروا في أرجاء المنزل. وفي هذه المرة، كان مهجوراً. لكن عدداً كبيراً من المباني بعد، وعدداً أكبر حتى من القرى والبلدات والمدن الكاملة سيكون في حاجة إلى التفتيش، بيتاً تلو الآخر.
لكن اللافت في هذا البيت تحديداً هو أنه واقع على مسافة بعيدة جداً عن أوكرانيا وأن هذا المشهد تحصل أحداثه على مسافة آلاف الأميال من البلاد، وتحديداً في السهول الطينية الموحلة في جنوب إنجلترا. حتى إن البيت المذكور ليس حقيقياً، بل هو منزل زائف شيد في منطقة تدريبية تابعة للجيش البريطاني، لتعليم الجنود على كيفية شن الحرب في المدن.
ولكن في حين أن المنزل ليس حقيقياً، فإن فرقة الأوكرانيين هي كذلك إلى حد كبير. وتضم ستة شبان يافعين، يشاركون في برنامج تدريبي تنظمه القوات المسلحة البريطانية. وأمامهم خمسة أسابيع ليصبحوا "جاهزين للقتال". وفي التفاصيل، يشارك هؤلاء في ما يعرف بـ"عملية إنترفلكس" Operation Interflex، وهي برنامج أطلق بعد وقت قصير من بدء الغزو الروسي، وقد تدرب في سياقه 34238 أوكرانياً حتى منتصف فبراير (شباط) من هذا العام.
والبرنامج المذكور عبارة عن دورة تدريبات مكثفة، يستقدم إليها مدنيون مباشرة بعد أن يتركوا وظائفهم ومنازلهم، ويحولون إلى جنود ضمن فترة لا تتعدى خمسة أسابيع. من ثم وفي ظرف ساعات قليلة، قد ينقل ساعي بريد أو محاسب بلغ عمره 24 عاماً من أوكرانيا، إلى قاعدة جوية في بريطانيا، ومن ثم يزود أو تزود (بما أن نسبة 1 في المئة من المجندين من النساء) بحزمة تجهيزات من 65 أداة عمل، ثم يستدلون على موقع السرير الطبقي الذي سينامون عليه، قبل أن يبدأوا 35 يوماً من التدريبات المكثفة القاسية.
والواقع أن النظام المتبع صارم، ويجب أن يكون كذلك، لأنه بعد أيام قليلة من انتهاء التدريبات، سيكون كثيرون بينهم على الجبهة الأمامية في مواجهة الروس. وعلى رغم من عدم وجود أرقام مؤكدة حول الخسائر بعد سنتين من الحرب، تشير أحدث التقارير إلى مقتل أو جرح أكثر من نصف مليون جندي [أوكراني] خلال العامين الماضيين. ومع أن عدد القتلى والجرحى أكبر في صفوف جنود بوتين، لكن الأوكرانيين يتكبدون خسائر أكبر نسبة إلى عدد سكان البلاد.
وكذلك، يجب أن يستوعب المجندون كماً هائلاً من المعرفة والمعلومات، وأن يتعلموا كيفية استخدام الأسلحة، وأن يكتسبوا مختلف المهارات، بدءاً بتعلم أصول حرب المدن وتقديم المساعدات الأولوية في ميدان القتال، ومروراً بنزع الألغام ومعرفة أصول حرب الخنادق.
وفي العادة، يستغرق التدريب النظامي لجنود المشاة في الجيش البريطاني ما بين 12 و18 أسبوعاً. أما في سياق "عملية إنترفلكس"، فيجري تحويل رجال ونساء إلى جنود بأقل من نصف هذه الفترة بكثير.
ومع أن بعض المعترضين شككوا في إمكانية تحقيق نتائج [في البرنامج]، يكفي الالتفات إلى ما أكد عليه أحد كبار الضباط الأوكرانيين لدحض هواجس من هذا القبيل، حيث قال "إن أفضل المجندين يأتون من ’إنترفلكس‘".
وبدوره، قال الضابط الذي يترأس وحدة التدريب في "عملية إنرفليكس"، المقدم ويلسون، إنه يرى فرقاً واضحاً في سلوك المجندين عند انتهاء الدورة، مشيراً إلى أنهم "يخرجون منها أكثر ثقة وعزة بالنفس". وأضاف "نبرع فعلاً في تدريبهم على الأساسات، كوننا نقوم بذلك منذ وقت طويل فعلاً، علماً أننا نحصل على تعليقات إيجابية للغاية من الأوكرانيين [حول نتائج التدريب]".
النظام المتبع صارم، ويجب أن يكون كذلك، لأنه بعد أيام قليلة من انتهاء التدريبات، سيكون كثيرون بينهم على الجبهة الأمامية في مواجهة الروس
في سياق متصل، يلحظ أن الجنود الذي خضعوا لتدريبات "عملية إنترفلكس" قد يتفوقون على الجنود الذين خضعوا لتدريب "المعتاد". وفي هذا الإطار، لا بد من التشديد على أن تطوير البرنامج وإدارته يجري بالتعاون مع نحو 12 دولة، من بينها أستراليا ورومانيا، وفي الآونة الأخيرة كوسوفو.
في إطار مواز، ينظر إلى ما تشهده مواقع مختلفة في أرجاء المملكة المتحدة، من جوانب عدة، على أنه اختبار عسكري عملاق، يمكن استعماله كمخطط أولي للخدمة العسكرية الوطنية التطوعية، التي تلقى اهتماماً متزايداً من أصحاب أعلى المراتب في [قيادة] الجيش.
وبالفعل، فإن النموذج الأكثر تداولاً لجيش "المدنيين" البريطاني يتمثل بدورة ممتدة على خمسة أسابيع، تكاد تكون مطابقة لـ"عملية إنترفلكس"، إنما يرافقها إعطاء [كل مجند] مبلغ مالي مقطوع خال من الضرائب، إلى جانب تحفيزات وظيفية مختلفة أخرى.
استطراداً، قام قائد الأركان العامة الذي يتقاعد قريباً، الجنرال السير باتريك ساندرز، خلال الشهر الماضي، بتسليط الضوء على التهديد الناجم عن روسيا، وقام بتعداد الخطوات التي تتخذها دول أوروبية أخرى لجعل شعوبها "متأهبة للحرب". ومع أنه أكد أنه لا يعطي أي مسوغات لجعل التجنيد إلزامياً، حيث يطلب من الأشخاص في سن القتال الانضمام إلى صفوف الجيش، قال إنه يعطي المسوغات اللازمة لإرساء أسس للتجنيد الطوعي، في حال نشوب حرب.
ولفت في هذا الصدد: "لن نكون محصنين، وكما هي الحال بالنسبة إلى جيل ما قبل الحرب، لا بد أن نستعد بطريقة مماثلة، مع العلم أنها مبادرة تشمل الأمة بكاملها"، مضيفاً "تمثل أوكرانيا دليلاً قاسياً على أن الجيوش النظامية تشن حروباً، وعلى أن جيوش المدنيين تنتصر عليها".
ويشير المنحى الفكري السائد إلى أنه يفضل مثلاً أن يكون بضعة آلاف من المدنيين قد خضعوا لتدريبات استمرت خمسة أسابيع، على ألا يكونوا مدربين على الإطلاق. وبالكلام على المجندين الأوكرانيين، لوحظ أن 35 يوماً من التدريبات العسكرية المكثفة من شأنها أن تعزز الثقة، وحتى إن تولد حساً بالتماسك الاجتماعي.
ومن جهتهم، لاحظ ضباط الصف الأقدم، الذين يقومون بتدريب الأوكرانيين، أن هؤلاء المجندين أكثر تنبهاً وتركيزاً بكثير من نظرائهم في الجيش البريطاني، وهو أمر لا مفر منه، بالنظر إلى أنهم يعرفون تماماً أنهم سيكونون في حاجة ماسة إلى ما يتعلمونه، وفي وقت قريب من الآن.
لكن حتى في هذا السياق، قيل لي إنه حتى في بعض صفوف التدريب الأكثر تعقيداً ضمن "عملية إنترفلكس"، يلاحظ ضباط الصف فرقاً بين المجندين الذين سبق أن شاركوا في القتال، والذين لم يفعلوا، لأن من شارك في القتال يظهر تركيزاً كبيراً ويصغي إلى جميع التفاصيل، من دون أن يشتت اهتمامه عبر النظر إلى هاتفه الجوال.
على صعيد آخر، وعندما انضممت إليهم خلال الدورة في وقت سابق من هذا الأسبوع، لاحظت بوضوح أن متدربين كثيرين شاركوا في أعمال قتالية على الجبهة الأمامية. من ثم لم يظهر عليهم أي سلوك مشاكس أو تردد يذكر، متى كان عليهم الخضوع لتمرين التأكد من خلو المنزل، وتكراره مرة بعد مرة حتى الشعور بالغثيان.
[خلال التدريبات]، يرافق الجنود مترجمون فوريون، تعتبر قدرتهم على ترجمة كلام بلهجة غلاسكو، صادر عن عناصر من الفوج الملكي الاستكلندي، من ضروب البراعة الخارقة في مجال اللغات. فتصوروا مثلاً ما ستكون عليه الترجمة الأوكرانية لعبارة: "متى غلبك شعور ملح بوجود خطر، اغتنم الفرصة اللعينة واهجم" When you get that squeeze, you f****** attack that crack؟
ولا شك في أن المجندين الأوكرانيين الذين اختبروا تجربة القتال المحتدم على امتداد سنتين، لا يجدون سهولة في الكلام عن تجاربهم، أقله لأن هؤلاء الشبان يافعون وقليلو الكلام، ولا ينتمون إلى خلفية اعتاد فيها الناس على الكلام بطلاقة مع وسائل الإعلام.
فلاد مثلاً، البالغ من العمر 23 سنة، هو شاب قادم من وسط أوكرانيا، وكان يعمل حتى أسابيع قليلة من الآن كخبير في تكنولوجيا المعلومات. لكنه سينهي عما قريب تدريبه ضمن "عملية إنترفلكس"، مما يعني أنه بعد أسبوعين تقريباً، سيذهب وينضم إلى جبهة القتال الأمامية. ومن ثم فإن هذا الشاب الطويل والنحيل والوسيم أخبرني بأنه تطوع لسبب بسيط، وهو أنه يريد القتال دفاعاً عن وطنه، مضيفاً أنه فهم ما يعنيه ذلك بأكثر الطرق قسوة، كونه خسر عدداً من أصدقائه خلال الحرب.
أما فيتالي، البالغ من العمر 25 عاماً، وهو سائق حفار، قوامه أكبر بقليل من قوام فلاد، ويشارك في "عملية إنترفلكس" منذ أربعة أسابيع. وقد تطوع هذا الأخير، شأنه شأن فلاد، لجميع الأسباب المنطقية الصحيحة، لكنه لم يخسر أي شخص قريب له [في الحرب]. وهو أيضاً عليه أن يتعلم الكثير، وقد اعتبر أن الدورة التدريبية صعبة.
إن أكثر ما يلفت النظر لدى هذين الشابين هو نظرتهما الغائرة، حتى تخال أنهما ينظران دوماً إلى الأفق، وهي نظرة غالباً ما نراها لدى الجنود الذين اختبروا معارك عنيفة. ولعلنا نبالغ هنا في قراءة المعاني الخفية في نظراتهما، لأن المسألة قد تقتصر على أنهما يشعران بالخجل أو التعب.
لكن مجدداً، قد لا يكون الأمر كذلك. فحياة هذين الشابين، في النهاية، مجبولة بويلات حرب طال مداها ضد نظام خسيس، ومعارك مستمرة منذ سنتين طويلتين وداميتين. وبعكس المدربين والمترجمين الفوريين، لا شك في أن الاحتمال كبير ومخيف وقاس، بألا يعيش هذان الشابان للصيف المقبل، لأن الاحتمال أن يخسرا حياتهما هو واقع معروف، ولو امتنع الجميع عن الكلام عنه.
على صعيد آخر، تسببت مطالبة الجيش [الأوكراني] بانضمام ما بين 450 ألفاً و500 ألف عنصر إضافي إلى صفوفه، بتوتر كبير وتناحر بين الرئيس فولوديمير زيلينسكي من جهة، وقائد الجيش المحبوب، فاليري زالوجني، من جهة أخرى. فالحال أن الجبهة الأمامية بالكاد شهدت أي تحركات، في حين تواجه أوكرانيا نقصاً في عديد والذخائر، وتتصدى، في موازاة ذلك، لهجوم روسي متجدد عليها.
وليس معروفاً إذا كانت أوكرانيا قادرة على استقطاب جنود إضافيين، لكن البلاد تدرك أن الجنود الذين التقيتهم اليوم على يقين تام بأن التدريب الذي يخضعون له هنا هو الأفضل على الإطلاق، وبأنه سيعزز فرصهم باجتياز محنتهم.
ختاماً، لا يمكننا إلا أن نأمل بألا تعود "عملية إنترفلكس" ضرورية بعد عامين من الآن. أما اليوم، فيبدو أن أوكرانيا ليست الدولة الوحيدة التي يلزمها جيش جديد من المدنيين، بل إن دولاً أخرى معنية أيضاً بالموضوع - بما فيها دولتنا نحن.
© The Independent