تغوص رواية "كاتانجا: الخمر والبارود" (الهيئة المصرية العامة للكتاب) للروائي المصري علي حسن في عمق القارة الأفريقية في فترة التحرر الوطني خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، مسلطة الضوء على الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاستعمار البلجيكي في الكونغو وراح ضحيتها أكثر من 10 ملايين كونغولي في أقل التقديرات، ويصل في بعضها إلى ضعف هذا الرقم، منذ أن أعلن الملك ليوبولد الثاني عام 1885 أن أرض الكونغو ملكية خاصة له اشتراها بعقد بيع من القبائل التي تسكنها ونصب نفسه حاكماً عليها.
وينص عقد البيع المزعوم على "أن تضمن جمعية رابطة أرض المطاط الدولية، وتلتزم بتوفير قطعة واحدة من الملابس كل شهر تقدم إلى كل زعيم من زعماء القبائل الموقعين أدناه، على أن يتخلوا طوعاً، وورثتهم وخلفاؤهم للأبد عن جميع حقوقهم في جميع أراضيهم إلى ملك البلجيكيين جلالة الملك ليوبولد الثاني، وأن يوفروا ما يطلب منهم من عمالة على أي جزء من هذه الأرض، ولجلالة ملك البلجيك جميع حقوق صيد الحيوانات والأسماك وكذلك التعدين والغابات، يملكها ملكية مطلقة".
وهكذا شرعن هذا العقد استعباد الشعب الكونغولي، بل وانتزاع صفة الإنسانية عنهم، "وارتكاب مجازر أشد قسوة من محارق النازية وتتخطى ما تعرض له الهنود الحمر في أميركا من المستعمر الأبيض"، وأقام ملك بلجيكا وقتها في ساحة قصره "حديقة حيوانات بشرية" تضم 267 كونغولياً.
لومومبا وموليلي
تركز الرواية على اثنين من أهم المناضلين في حركة تحرير الكونغو، وهما باتريس إيمري لومومبا (1925- 1961) صاحب الميول الاشتراكية وأول رئيس وزراء منتخب في الكونغو والذي جرى الانقلاب عليه واغتياله بمساعدة من المخابرات الأميركية والبلجيكية بسبب سعيه إلى تحرير بلاده بصورة كاملة من التبعية الغربية، والشخصية الثانية التي حملت شعلة النضال من بعده بيير موليلي (1929-1968) الملقب بالأسد الماوي أو أسد أفريقيا، بعدما حققت ثورته المسلحة نجاحات كبيرة كادت تقضي على الحكومة المحلية التابعة للقوى الاستعمارية الغربية، إلا أنه سقط في النهاية بيد أعدائه وأعدم بطريقة وحشية عبر تقطيع أطرافه حياً ونزع عينيه من محجريهما وجدع أنفه وصلم أذنيه، قبل إلقاء أشلائه في نهر الكونغو.
وتمضي أحداث الرواية عبر سرد مونولوغي أقرب إلى الطابع الرسائلي من خلال شخصياتها التي تحكي بضمير المتكلم، لكن المؤلف أفسح المجال لها لتعبر عن تصوراته هو مما أفقد الرواية تعددية الأصوات على رغم تعددية شخوصها.
وتتعدد الأماكن التي تجري فيها الأحداث ما بين إنكلترا والكونغو ومصر وكوت ديفوار، لتعكس الصراع بين خير تمثله المقاومة الكونغولية والحركات المناضلة ضد الاستعمار في أفريقيا، وشر تمثله القوى الاستعمارية، بلجيكا وأميركا ومنظمة الأمم المتحدة، وما يدور في أفلاكها ممن ساعدتهم في الانقلاب على الشرعية ليكونوا أذرعاً لها في استنزاف مقدرات الدول الإفريقية، فالبطل الضد في هذه الرواية حجته ضعيفة لا تستطيع مقارعة الحجج التي يتبنى موقفها المؤلف، على رغم أنه يجعل الحديث يجري على لسان هذه الشخصيات نفسها لكنه يستنطقها في الغالب بما يدينها، ويعبر عن قسوتها المفرطة وخيانتها لأبناء أمتها ويكشف عن انتهازيتهم وعمالتهم للغرب.
ومن النماذج على ذلك حديث يأتي على لسان مويس تشومبي (1919-1969) الذي انفصل بإقليم كاتانجا الغني بالموارد الطبيعية النادرة عن الكونغو بدعم من الدول الغربية، فيقول بأنه سيضع أموال تصدير هذه الموارد في حسابه البنكي الشخصي لا حساب الإقليم الذي أعلن أنه دولة مستقلة تحت رئاسته، كما أنه يستنطق الأشجار والغيوم لتسرد بعض المشاهد بما يريده المؤلف الذي تطغى رؤيته للعالم على أية رؤية في أحداث الراوية، مثلما هو الحال مع حديث شجرة الهيڤيا التي تحكي مشهد مقتل لومومبا، وحديث الغيمة الحزينة في سماء كينشاسا التي تروي مقتل موليلي.
البعد الوثائقي
وتحمل الرواية بعداً وثائقياً لكثير من الأحداث التاريخية التي جرت بين 1959 و 1968 في الكونغو فترة بحثها عن الاستقلال من الاحتلال الاستيطاني البلجيكي المدعوم من أميركا التي تستولي على مادة اليورانيوم من مناجم كاتانجا البكر وتحولها إلى أسلحة نووية.
ويتخلل ذلك رصد للتناقض بين ثراء الكونغو بمواردها الطبيعية والفقر الشديد الذي يعانيه السكان الأصليون، "كيف يملك الأفارقة كل هذا الخير، ومع هذا يعانون الجوع والفقر والمرض".
كما تحتفي "كاتانجا" في بعدها الوثائقي بالدور المصري في دعم الحركات التحررية في دول أفريقيا في ظل قيادة جمال عبدالناصر، مما خلق له شعبية كبيرة في هذه الدول "منبعه الاتفاق التام في المبادئ وتقديس الحرية والعداء الشديد للاستعمار الغربي ورفض الخضوع للإمبريالية العالمية" (ص 53) عبر استضافته مجموعة من زعماء هذه الدول مع أسرهم في القاهرة حماية لهم من المتربصين بهم.
ويورد المؤلف في نهاية الرواية عناوين مجموعة من الكتب والمصادر التي استقى منها المادة الرئيسة لروايته التي جاء اسمها نسبة إلى الإقليم الكونغولي، وإلى حادثة اغتيال باتريس لومومبا في إحدى الغابات، واصفاً قاتليه بأنهم "خرجوا من مملكة أشجار الهيڤيا وغابة السافانا بعد أن أشاعوا فيها رائحة الخمر والبارود".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بشرة سوداء
ومن اللافت في رواية تُدافع عن أصحاب البشرة السوداء وتُدين عنصرية الغرب الذي وضع بعضهم عراة مقيدين بالأغلال داخل أقفاص لتسلية الرجل الأبيض في أوروبا، ومنع دخولهم الأماكن العامة، أن ينقل المؤلف على لسان الأب جان فليكس دي هامبتن أسقف كاتانجا قوله في قداس، "إن العرق الأسود لا يملك شيئًا خلفه، بل هم قطيع بلا كتابة ولا تاريخ وبلا فلسفة، إنهم بلا أي مبدأ".
وتكتظ الرواية بأمثال هذه الجرائم العرقية، فيما يقوم الراوي بجعل دلالات اللون الأسود تتساوق مع الحزن والموت والخبث والفساد والقسوة والغلظة وكل الشرور وما هو مكروه، على لسان شخصيات أفريقية تدافع عن نفسها ضد مستعبديهم بهم بسبب عرقهم، فدلالة اللون الأسود لدى الشعوب الأفريقية حاضرة في كثير من القيم التي يعتز بها هؤلاء مثلما هو الحال مع الحركة القومية في غانا التي تعتز بزنوجيتها، كما ويظهر هذا اللون في غالب أعلام الدول الأفريقية باعتباره يمثل هويتها القومية.
وعلى جانب آخر عملت الرواية على إبراز الهوية الأفريقية والاحتفاء بها ضد الرجل الأبيض، تتغنى بالرقص الأفريقي مثل رقصة الـ "سوكوس" وسرد أسماء الأطعمة الأفريقية مثل الـ "كيلاويلي" مع الفل الأسود، وطبق الـ "جامبايالا" مع عجينة الرز، والبانكو مع عجينة الـ "كاسافا" والـ "أوجالي" وبطاطس الـ "باجياس" الكينية وطبق الـ "نياماتشوما"، كما أنها تنقل مقولات لومومبا التي يطالب فيها بالمحافظة على الهوية الأفريقية وعدم مسخها بثقافة الرجل الأبيض، "لا تحطموا الروح الأفريقية بمحاولة جعل الأفريقيين مثل الأوروبيين غربيين في جلود سوداء"، فيمكن اعتبار الرواية ككل هي دفاع عن الهوية الأفريقية بكل ثقافاتها وعاداتها وتقاليدها في وجه أميركا والغرب، باستثناء الهنات التي أشارت إليها هذه المقالة.