ملخص
بعد حادثة مقتل رئيس دير أبو مقار الأنبا إبيفانيوس، قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وقف قبول رهبان جدد لمدة عام، ضمن عدد من القيود فرضتها على الرهبان داخل الأديرة.
وكأن بعضاً من أديرة مصر التاريخية التي تعود إلى ما قبل دخول المسيحية مصر، قد تحولت إلى مسرح يذكر المتابع للأحداث الجارية داخلها، برواية "اسم الوردة"، للمفكر الإيطالي الراحل إمبرتو إيكو، الذي يتحدث عن سلسلة من جرائم القتل تحدث داخل أحد أديرة أوروبا عام 1327، حيث يقوم قاتل مجهول باستهداف عدد من الرهبان النساك الذين يعيشون في أحد أديرة الآباء البندكتيين، وهم جماعة رهبانية تتبع الكنيسة الكاثوليكية الغربية.
منذ عام 2018، وهناك روح غريب، غير مسبوق، يتمثل في بعض الحوادث الخطرة من قتل وانتحار وتسمم، وخلافات عميقة تظهر داخل الأديرة القبطية الأرثوذكسية المصرية، مما طرح تساؤلات قريبة الشبه جداً مما جاء في رواية الأميركي دان براون المعروفة باسم "ملائكة وشياطين"، عن أحداث القتل وعن نسق هذه الحياة الديرية التي تختلف عن نظيرتها في المسيحية الغربية، وصولاً إلى الشروط المحتم توافرها في طالب الرهبنة، وهل بات الأمر يحتاج إلى تدقيق كبير قبل قبول عضو جديد، قد يكون في باطنه نوازع لا تتسق وهذا النمط من الحياة.
ما الذي يستدعي فتح هذا الملف في الوقت الراهن، وعلى هذا النحو من العجالة والأهمية؟
قتل من أبو مقار إلى جوهانسبورغ
في منتصف أغسطس (آب) من عام 2018 استيقظ المصريون عن بكرة أبيهم مسلمين ومسيحيين على خبر مزعج، بل مخيف، فقد حدثت جريمة قتل داخل أحد الأديرة ويدعى دير "أبو مقار"، أحد كبار النساك المصريين (300-391م)، في منطقة وادي النطرون، التي تبعد 110 كيلومترات شمال غربي القاهرة.
المأساة المحزنة تمثلت في أن القتيل هو الأنبا إبيفانيوس، رئيس الدير نفسه، الذي يعرف عنه محبته للجميع وتواضعه وعلمه الفائق، لا سيما في مجال عمل المخطوطات القديمة، إذ كان يجيد عدداً من اللغات الأجنبية ومنها اللغات القديمة كاليونانية والقبطية، وقبل الرهبنة كان يعمل طبيباً في عدد من مستشفيات مصر.
ارتفعت علامة الاستفهام عالية في تلك الأجواء: كيف يمكن أن يقتل رئيس هذا الدير تحديداً وعلى هذا النحو المخيف، فقد ضرب بآلة حادة على رأسه، مما تسبب في وفاته على الفور؟
منطلق السؤال هو أن دير أبو مقار يمكن أن نسميه دير النخبة المصرية بوجه خاص، بمعنى أنه لا يقبل أنصاف المتعلمين، بل الحاصلين على مؤهلات علمية عالية، عطفاً على توافر شروط روحانية وعقلانية ومجتمعية معينة فيهم.
بدأت التساؤلات تدور حول القاتل، وهل هناك شبهة في أن يكون من خارج الدير، لا سيما أن هناك من يسكنون الصحاري قرب حدود المكان؟
المفاجأة أن القاتل وبحسب التحقيقات الجنائية وباعترافه كان أحد رهبان الدير ويدعى وائل سعد تواضروس، الذي تم تنفيذ حكم الإعدام فيه بالفعل بعد المحاكمة عام 2021، وعلى رغم اعترافاته بأنه القاتل لا يزال هناك شقاق وفراق داخل الدير نفسه حول ما إذا كان هو القاتل بالفعل أم لا.
أعقب هذه الحادثة نقل بعض الرهبان إلى أديرة أخرى في جنوب مصر، راهبان منهما حاولا الانتحار في دير المحرق جنوب مصر، أحدهما لقي مصرعه على الفور والآخر تم إنقاذه.
من جديد وقبل أيام قليلة تواترت الأنباء من مدينة جوهانسبورغ في جنوب أفريقيا، بحدوث جريمة داخل دير مارمرقس التابع للكنيسة القبطية الأرثوذكسية، أي الكنيسة المصرية، أشد بشاعة مما جرى قبل ست سنوات.
ما جرى ليس واضحاً حتى الساعة في أبعاده المختلفة، غير أنه من الواضح، وبحسب التحقيقات الأولية، أن الجريمة التي قتل فيها ثلاثة من الرهبان تقول الإشاعات إنه تم فصل رؤوسهم عن أجسادهم جريمة داخلية، أي جرت من جانب أفراد في الدير نفسه، وترجح التحقيقات الأولية أن يكون الجاني هو "طالب رهبنة"، أي شخص مصري كان يعيش معهم استعداداً لأن يكون راهباً، وعليه المرور بفترة اختبار.
غير أن الأكثر إثارة في المشهد هو وقوف راهب آخر كبير السن إلى جانبه أمام قاضي التحقيقات في جوهانسبورغ، مما يعني أنه متهم بدوره.
والثابت أن الأمر في حاجة إلى مزيد من الوقت، حتى يتم الكشف عن الأبعاد الكافية للجريمة المروعة، لكن سيظل التساؤل كيف يمكن للمقدس أن يداني المدنس، أو كيف يمكن للذين يزهدون العالم أن يتحولوا إلى جناة وقتلة، مما عرفه أيضاً دير البندكتيين في رواية إيكو، والمستمد غالباً من أحداث أوروبا المسيحية في القرون الوسطى؟
لمحة تاريخية عن الرهبنة القبطية
تعتبر الحياة الرهبانية القبطية مرحلة من مراحل مصر الحضارية المتتالية الحلقات، من عند الفرعونية أو المصرية القديمة، مروراً بالقبطية التي امتدت منذ 42 ميلادية أي بداية دخول المسيحية مصر، حتى القرن السابع الميلادي ودخول الإسلام مصر.
وتعد الأديرة شواهد معمارية تاريخية على الحضارة القبطية في التاريخ المصري البعيد، وذكر المؤرخون في العصر الوسيط معالم هذه الظاهرة العمرانية والمعمارية والدينية، والأديرة المعروفة من كتب الرحالة والمؤرخين والعلماء المتخصصين التي ما زالت موجودة وتركت أطلالاً تدل على وجودها في أنحاء البلاد، تصل إلى نحو 200 دير على أقل تقدير بخلاف تلك التي اندثرت ولم نعرف عنها كثيراً، وبعض تلك الأديرة مسجلة ضمن مواقع التراث العالمي.
على أن إحدى علامات الاستفهام التي يجب الوقوف أمامها ونحن في سياق تجذير تاريخ هذا النسق الحياتي الرهباني هو: هل من جذور تراثية للرهبنة في الحياة المصرية الفرعونية القديمة؟
الشاهد أن مصر القديمة كانت قد امتلأت عن بكرة أبيها بالمعابد التي تقام فيها الصلوات وتقدم من خلالها القرابين للآلهة المصرية القديمة، وبينما كان كهنة آمون وأتون يقومون على العبادات، يعرف الجميع أنه كانت هناك عذارى مخصصات لخدمة المعابد يمتنع عليهن التزاوج، في حين لا تبدو مساحة التكريس لكهنة الفراعنة واضحة، أي تكريس حياتهم بالمطلق للعبادات أم لا.
وفي كل الأحوال فإن الأديرة المصرية الأولى لعبت دوراً مهماً للغاية كحاضنة لكثير من التراث المصري القديم، بمعنى أنها استطاعت هضم الطقوس والصلوات الفرعونية، وتحويلها إلى صلوات وعبادات مسيحية.
خذ إليك على سبيل المثال لحنين من أهم الألحان التي ترتل داخل تلك الأديرة:
اللحن الأول ويسمى لحن "أبؤور" أو يا ملك السلام، ويقال في استقبال عظيم الكهنة الأقباط في الاحتفالات الدينية. هذا اللحن هو عينه الذي كان ينشده المرتلون الفراعنة في معبد الكرنك، حين يقوم رمسيس الثاني بزيارة طقسية ليؤدي الصلوات هناك.
اللحن الثاني ويسمى "لحن كي إبيرتو"، وهو لحن جنائزي لا يزال يستخدم حتى الساعة في صلوات الراحلين والمنتقلين، وهو نفسه الذي كان المصريون القدماء ينشدونه في جنازات الفراعين العظام عند وفاتهم.
لكن كيف تغير المشهد من مصر القديمة إلى الرهبنة المصرية الحديثة، وما المراحل التي مر بها المشهد عبر التاريخ.
بولا وأنطونيوس الآباء المؤسسون
في طريق المسافر من القاهرة إلى ساحل البحر الأحمر، وبالتحديد عند 334 كم جنوب شرقي العاصمة المصرية القاهرة، تبدو هناك نقطتان لامعتان من الأديرة المصرية التي أسست للنظام الرهباني في مصر قبل نحو 1700 سنة، ففي عام 250 م، سيولد في مدينة "قمن العرس" في محافظة بني سويف، جنوب القاهرة، شاب من عائلة ثرية يدعى أنطونيوس.
ذات نهار أحد سيستمع أثناء عظة من العظات الإنجيلية إلى قول السيد المسيح: "إن أردت أن تكون كاملاً، اذهب فبع كل ما تملك ووزعه على الفقراء والمساكين، فتربح كنزاً عظيماً في السماء وتعال اتبعني".
نفذ أنطونيوس النص بحرفيته، فترك مدينته عامرة بالسكان ومضى إلى عمق الصحراء، وهناك عاش حياة الزهد والتوحد... هل كان أنطونيوس أول الرهبان الأقباط في مصر؟
في الديباجة التي كتبها البابا تواضروس بابا الأقباط الأرثوذكس لقانون الرهبنة القبطية الجديد الصادر عام 2013، نجد أن أنطونيوس لم يكن هو الأول في هذا المجال، وإنما سبقه آخرون في حياة الرهبنة وعاشوا على حدود قرى مصر، ومنهم أخذ أنطونيوس إرشاده، ولكن هؤلاء الرهبان لم يعرفوا البرية البعيدة أو عمق الصحراء، أما أنطونيوس فقد دخل البرية وعاش 20 عاماً من حياة التوحد، ليخرج بعد ذلك ويقوم بإرشاد الرهبان الذين عاشوا متتلمذين عليه ملتفين من حوله، فنشأت الأديرة حتى في الجبال، وصارت البراري المصرية مليئة بالرهبان الذين تركوا مدنهم.
على أن أنطونيوس، وبحسب التقليد الكنسي القبطي، قد خيل إليه أنه الأول في طريقه، فأتاه صوت من السماء يخبره أنه هناك وفي عمق البرية أكثر وأكثر، من هو أقدم منه في هذا النسق الرهباني، إنه بولا الرجل الذي نشأ في مدينة الإسكندرية عام 220 ميلادية، أي قبل أن يولد أنطونيوس بنحو 30 سنة، ولا يزال ديره على بعد نحو 155 كيلومتراً جنوب شرقي القاهرة قائماً وعامراً ممتلئاً بالرهبان.
كان أنطونيوس وبولا الآباء المؤسسين للرهبنة القبطية التي ستمر بمراحل تطور مختلفة عبر القرون الماضية.
المراحل الثلاث لنسق الرهبنة القبطية
لم تصل الرهبنة القبطية إلى صورتها المعاصرة هذه دفعة واحدة، بل مرت عبر ثلاث مراحل تاريخية مهمة يمكن الإشارة إليها على النحو التالي من دون اختصار مخل أو تطويل ممل.
** مرحلة العزلة أو التوحد: وامتدت هذه المرحلة من أواخر القرن الأول الميلادي إلى أواخر القرن الثاني، وربما كان اضطهاد الولاة الرومان للمسيحيين الأوائل في مصر السبب الرئيس وراء هذا النمط من العزلة على أطراف المدن والقرى المصرية، مثل محاولة راهب يدعى فرنتونيوس ومعه 70 مسيحياً في زمن الإمبراطور أنطونيوس بيوس (138 - 161) ولكنها تفرقت بسبب نقص الغذاء والمؤن.
ثم كان من بعدهم الأنبا أنطونيوس والأنبا بولا، اللذان سكنا بمفرديهما الصحراء الشرقية المصرية في القرن الثالث الميلادي.
** مرحلة نظام الجماعات الرهبانية: وهي المرحلة التي شهدتها براري مصر وصحاريها منذ أن أسسها الأنبا أنطونيوس عام 305 ميلادية، حيث ترك عزلته ليقود أول جماعة من أحبائه الذين جاءوا إليه، حيث درجوا على العيش من حوله في قلالي في الصحراء منفردة، ولذلك دعي بأبي الرهبان ويعتبر هذا إيذاناً ببدء عصر الأديرة في مصر.
ثم جاءت تجمعات في منطقة وداي النطرون، حيث دير أبو مقار حالياً، التي أسسها الأنبا مقاريوس الكبير (290-200)، نحو عام 355 ميلادية بعد ذيوع صيته والتفاف كثر حوله، وقد بلغ عدد الرهبان عنده في بدايات أيامه نحو 5 آلاف راهب.
** مرحلة نظام الشركة: يرجع تاريخ هذه المرحلة إلى الأنبا باخوميوس أبو الشركة (292-346)، وتعتبر آخر مراحل تطور الرهبنة القبطية حيث شيدت الأديرة بالمعنى المتعارف عليه ليعيش الرهبان معاً داخل الدير ويخضعون لأنظمة وقوانين ثابتة، فيما يمارس الرهبان كثيراً من الأعمال والحرف والصناعات إلى جانب الحياة النسكية، وقد بنى في زمنه تسعة أديرة للرهبان الذين بلغ عددهم 7 آلاف راهب، وأيضاً للراهبات اللاتي بلغ عددهن نحو 400 راهبة.
شروط الرهبنة وملامحها المعاصرة
من القديم إلى الحديث يتساءل المرء لا سيما غير المتخصص: ما الشروط التي يجب على الراهب التزامها أول الأمر، وتالياً ما ملامح حياة الراهب اليومية في منتصف العقد الثالث من القرن الـ21؟
في كتابه المعنون "الدير المحرق"، يحدثنا الراحل الأنبا غريغوريوس، أسقف الدراسات والبحث العلمي في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عن عناصر الرهبنة الثلاثة التي يجب على الراهب التزامها وتتمثل في التالي:
أولاً، اعتزال العالم للتعبد: أي إنها عزلة اختيارية عن صخب العالم وضوضائه، من أجل الصلاة والصوم، والانقطاع إلى الأعمال الروحية والعقلية، والانصراف الكامل من أجل التأمل والتصوف في حضور الخالق.
ثانياً، نذر التبتل لله: الراهب ينذر التبتل وعدم الزواج حتى يتفرغ لنهضة حياته الروحية وخلاصها، وينصرف كلية لخدمة الله وعبادته على نحو خدمة الملائكة وعبادتهم.
ثالثاً، اختيار الفقر طواعية: أي إن الراهب لا يمارس أعمالاً دنيوية من بيع وشراء وخلافه، انطلاقاً من أن أي إنسان لا يستطيع أن يعبد اثنين الله والمال مرة واحدة.
على أن الشروط الثلاثة المتقدمة إنما تدور في سياق أمر مهم للغاية وهو الطاعة، بمعنى أن الراهب منذ اليوم الأول لدخوله الدير، يتخلى طوعاً عن إرادته وذاته، ليصبح طوع أمر رئيسه الروحي، وهي طاعة روحية هدفها تطهير الذات من "الأنا العليا"، ليحصل على السكينة الجوانية كما تقول الصوفية.
هنا قد يدهش القارئ، وله الحق في أن يتساءل: كيف يمكن لبشر يعيشون هذه الحياة الروحانية أن تصدر عنهم مثل هذه الأفعال الإجرامية كما جرى الأمر في 2018 ومنذ أيام معدودات؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شنودة ومتى المسكين... زمن الخلافات
يحتاج فهم المشهد إلى نوع من تجذير الرؤية العميقة في صورة الحياة الرهبانية القبطية اليوم، واختلاف الوضع عما كانت عليه قبل منتصف القرن الـ20.
هنا وباختصار غير مخل، يمكن القول إن حياة الرهبان المصريين الأقباط حتى ستينيات القرن الماضي كانت متواضعة إلى حد كبير، سواء على صعيد صورة الحياة اليومية أو العملية وحتى الفكرية العلمية.
كانت النسبة الغالبة من هؤلاء غير متعلمين بصورة كافية أو متخصصين بصورة متقدمة في معارف إدراكية حديثة كما الحال في الدوائر والحواضن الغربية.
كانت معرفتهم قاصرة على بعض من اللغة القبطية يتلون بها الصلوات والتسبيحات بكرة وعشياً، وغالباً ما غابت المكتبات أو سنوات التكوين والتحصيل العلمي.
أما أعمال أيديهم فلم تتجاوز الحرث والزرع في مساحات صغيرة مستصلحة لزراعة ما يأكلون، وإنتاج سلع بدائية من سعف النخل، وعادة ما كانوا يعتمدون اعتماداً كبيراً على هبات ومنح كبار أراخنة الأقباط المصريين.
مع ستينيات القرن الماضي، بدأت نهضة قوية داخل تلك الأديرة يمكن إرجاعها إلى شخصين اثنين، ستقودهما مقدرات الحياة إلى الصدام، وربما هذا ما أنتج جريمة قتل دير أبو مقار.
الشخص الأول هو الأنبا شنودة البطريرك الأرثوذكسي السابق، الذي مر بمراحل مدنية قبل ترهبه، فتخرج في كلية الآداب وعمل صحافياً، وتجند ضابطاً في الجيش المصري، وكان شاعراً وكاتباً مما فتح أمامه وأمام الأجيال التي تليه مسارات تعليمية واسعة.
الشخص الثاني هو الأب متى المسكين، الصيدلي الذي ترك العالم في خمسينيات القرن الماضي وذهب إلى وادي الريان في صحراء مصر الشرقية، قرب منطقة الفيوم الأثرية.
سوف يقدر لهذا الرجل أن يضحى علامة فارقة في تاريخ الرهبنة القبطية، إذ سيلتئم من حوله شباب أقباط من الحاصلين على أعلى الشهادات العلمية، أطباء وصيادلة ومهندسون وغيرهم.
لاحقاً سينتقل الأب المسكين إلى منطقة وادي النطرون، وهناك ينشئ ويجدد ديراً قديماً يعود إلى القرن الرابع الميلادي، سيضحى أحد أهم الأديرة المصرية تنويراً وقدرة مالية.
يمتلك هذا الدير اليوم قرابة 6 آلاف فدان مستصلحة من الصحاري، وقد كانت علاقة الرئيس المصري أنور السادات الجيدة للغاية مع الأب متى المسكين سبباً في توتر العلاقات مع الأنبا شنودة، وبين رهبان هذا الدير وبقية الأديرة المصرية.
كما أن النسق الفكري لرهبان هذا الدير منفتح بصورة كبيرة على كل المصريين، المسلمين قبل المسيحيين، والكاثوليك والبروتستانت قبل الأرثوذكس.
تساءل المحققون في جريمة قتل رئيس دير أبو مقار: هل كانت الخلافات العقائدية هي السبب في ارتكاب ذلك الراهب المشنوق لاحقاً جريمته؟
المؤكد أن الأنبا إبيفانيوس كان يمضي في طريق يعرف بالمسكونية، أي النظر إلى البشر عامة حول الكرة الأرضية بوصفهم إخوة، من كل الأجناس والأعراق، ومن دون التمييز على أساس عرقي أو ديني أو جنسي.
أكثر من ذلك، كان الرجل قريباً جداً من روح البابا تواضروس، الذي تميزت سنوات حبريته حتى وقت قريب برغبة مؤكدة في الانفتاح على الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في روما، وهو أمر يزعج كثيراً جداً الدوائر الأصولية المتشددة في الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، التي تستشعر ربما حالة من الخوف من تقارب البابا تواضروس مع بابا روما البابا فرنسيس.
هل كان دافع جريمة القتل في دير أبو مقار عقائدياً؟
هناك من يرجح ذلك لا سيما أن الأنبا إبيفانيوس كان يمضي في سياق التقارب الكبير مع جميع الطوائف المسيحية، ويرى أن الذين تحصلوا على سر المعمودية، أول الأسرار الطقسية في الحياة المسيحية، لا يمكن بحال من الأحوال إعادة تعميدهم مرة جديدة، وهي نقطة خلافية عميقة الأثر بين الطوائف المسيحية في مصر وتتسبب في خلافات مجتمعية مسيحية كبيرة.
هل هناك حاجة إلى مراجعة الكنيسة القبطية مسألة انضمام رهبان جدد لا سيما بعد حادثة جوهانسبورغ؟
شروط جديدة ووقف موقت للانضمام
بعد حادثة مقتل رئيس دير أبو مقار الأنبا إبيفانيوس، قررت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية وقف قبول رهبان جدد لمدة عام، ضمن عدد من القيود فرضتها على الرهبان داخل الأديرة.
القرار جاء بعد أن عقدت لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة بالمجمع المقدس (البابا تواضروس وأساقفة الكنيسة القبطية)، اجتماعاً عاجلاً اتخذ فيه عدد من القرارات المتعلقة بالأزمات الحالية داخل الأديرة، ومنها على سبيل المثال إعطاء فرصة لمدة شهر كي يقوم الرهبان بإغلاق أي صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، والتخلي الطوعي عن هذه السلوكيات والتصرفات التي وصفها الاجتماع بأنها لا تليق بالحياة الرهبانية، وقبل اتخاذ الإجراءات الكنسية معهم.
هذا القرار يطرح تساؤلاً مثيراً للتفكير: هل باتت صورة الحياة الرهبانية الأولى، المنعزلة انعزالاً كاملاً عن العالم اليوم شبه مستحيلة في النسق الرهباني القبطي، لا سيما في ظل أن غالبية تلك الأديرة باتت منتجة لسلع بعضها يتم تصديره إلى خارج مصر ويدر أموالاً، حتى وإن استخدمت في فعل الخير، فدير أبو مقار على سبيل المثال يساعد 3 آلاف أسرة مصرية فقيرة مسلمين ومسيحيين؟
بلا شك هناك معضلة عصرانية في المواءمة بين الحداثة والمعاصرة، وبين نسق الرهبنة الانعزالية التوحدية.
عطفاً على ذلك هناك مطالبات معمقة باختبارات نفسية وعقلية مكثفة درءاً لمثل هذه الجرائم التي تحدث بين الفينة والأخرى.
فيما البعض الآخر يتساءل: هل يحتاج هؤلاء الرهبان في الداخل إلى متابعة صحية عقلية وليس جسمانية فقط؟
تبدو عمليات القتل داخل بعض الأديرة مثيرة من جديد للتساؤل: هل هؤلاء ملائكة أم شياطين؟
ويبقى الجواب المؤكد في كل الأحوال: إنهم بشر.