ملخص
هل سيضع الجينوم والتكنولوجيا الحيوية وعلم الأعصاب مفاتيح التحكم في التطور بيد الإنسان؟
تساءل عالم الفيزياء، الفيلسوف البلجيكي الجنسية الروسي الأصل، إيليا بريغوجين ذات مرة، "ما هو أفضل طريق للتنبؤ بصناعة المستقبل؟"، وقدم الرجل مثل الطبيب النطاسي الجواب في كلمتين "عبر صناعته".
لكن السؤال الأهم كيف يمكننا صناعة هذا المستقبل لكي نستطيع التنبؤ به؟
المؤكد في هذا السياق هو أن هناك مولدات تصنع المستقبل ومحركات تحدد شكله، وما علينا سوى التوقف بروية وتؤدة أمامها، وقراءة أعماقها ومحاولة تخليصها من الشوائب في حال أرادت البشرية تجنب الوجه السلبي الثاني لكل مخترع ومكتشف.
ولعل الفضل في طرح قصة محركات أو مولدات التغيير العالمي تعود لنائب الرئيس الأميركي السابق أالبرت غور (أو آل غور كما يُعرف) الذي أصدر عام 2013 كتاباً تحت عنوان "ستة محركات للتغيير العالمي في المستقبل" The Future: Six Drivers of Global Change، واعتبر أن زمننا هو "زمن التغيير الثوري الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ".
لكن قراءة معمقة لما كتبه نائب الرئيس الأميركي المتميز آل غور قبل عقد ونيف من الزمن تقودنا إلى القول إن هناك متغيرات أخرى طفت على سطح الأحداث لم يأخذها في الحسبان، إذ طرح ستة مغيرات هي العولمة الاقتصادية المتزايدة والاتصالات الرقمية وميزان القوى السياسية والاقتصادية والنمو غير المستدام والجينوم والتكنولوجيا الحيوية والبشر والنظم الإيكولوجية.
وواقع الحال اليوم يخبرنا عن متغيرات أخرى لا تقل أهمية تشارك في تشكيل عالمنا المعاصر، وفي مقدماها الذكاء الاصطناعي ووسائل التواصل الاجتماعي والجيوش غير النظامية، ناهيك عن مخاوف نشوء وارتقاء الحرب النووية التي يمكنها أن تلغي عالمنا بصورته المعاصرة، وتصنع عوضاً عنه عالماً من الخراب والدمار.
من أين للمرء أن يبدأ ولو بصورة تقريبية للحديث عن تلك المتغيرات التي تشكل عالمنا المعاصر؟، ربما من أهم نقطة باتت تؤثر في حياة البشر والحجر في الحال والاستقبال.
التغيرات الإيكولوجية... موت أم حياة؟
لعل أهم متغير في طريق المستقبل هو علاقة البشرية بكوكب الأرض، لا سيما في ضوء المتغيرات الإيكولوجية الخطرة القائمة من حولنا، وانتقال العالم من مرحلة الاحتباس الحراري إلى مرحلة الغليان، بحسب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في تصريحات أخيرة له.
كيف يمكن أن ترسم التغيرات الإيكولوجية شكل العالم؟
باختصار غير مخل، فإن مزيداً من حرارة الكوكب يعني مزيداً أيضاً من الجفاف والتصحر، مما يدفع البشر في طريق هجرات غير نظامية وعشوائية، لا سيما من الجنوب الحار إلى الشمال البارد بحثاً عن فرصة حياة، ويمكن أن يخل بالتوازنات الديموغرافية بين الأمم والشعوب وينتج حروباً غير تقليدية دفاعاً من بعضهم عن أراضيه وحدوده المستقلة.
ولعله من الطبيعي القطع بأن الشمال بدوره لن ينجو ببراعة من الأزمة الإيكولوجية، إذ يكفي النظر إلى حال الأقطاب الجليدية وما يجري من حولها لإدراك مدى التهديد الذي تتعرض له قارة مثل أوروبا من أزمة ذوبان الثلوج القطبية المتوقعة.
ولعل أخطر محرك في تاريخ البشرية هو الجوع، تلك الغريزة الأساسية في النوع البشري والمهددة بقوة من جانب التغيرات المناخية، لا سيما في ضوء نقصان الرقعة الزراعية وتراجع المحاصيل، مما يعني أن الصراع البدائي للبشرية من أجل الغذاء سيعود مرة جديدة، ولمست الإنسانية ملمحاً عابراً لهذه الأزمة خلال فترة تفشي جائحة "كوفيد – 19"، عندما تعطلت سلاسل الإمداد الغذائي العالمي.
يعنّ للباحثين في علوم المستقبليات التساؤل "كيف يمكن أن تكون حال العالم، خصوصاً في ظل ما هو متوقع من وصول تعداد سكان الأرض إلى 10.4 مليار نسمة عام 2100 أي خلال نحو ستة عقود؟ وكيف يمكن إطعام هذه الأفواه؟.
هنا البحث عن الجواب يبقى قضية عميقة وفاعلة ومؤثرة، ذلك أنه من غير محركات أو مولدات حديثة لمزيد من مكافحة التغيرات المناخية، سيكون الجوع هو المصير الذي ينتظر عالمنا المعاصر، مع تبعاته كافة في الحال والاستقبال، وفي مقدمتها انعدام الأمن الغذائي، مما سيولّد اضطرابات اجتماعية وعدم استقرار، خصوصاً في المناطق الريفية، حيث تشكل الزراعة المصدر الرئيس للدخل وسبل العيش.
ولعله من نافلة القول إن علماء المناخ يتوقعون تصاعداً مطّرداً في درجات حرارة الكرة الأرضية مع زيادة الترجيحات بأوقات صيفية ساخنة مخيفة، تقود إلى ارتفاعات هائلة في مستويات استهلاك الطاقة، مما يعني بالضروة تأثيرات اقتصادية غير خلاقة وتدهور مستويات المعيشة حول الكوكب الأزرق.
من عالم الأحادية إلى التعددية القطبية
في مؤلفه الذي سبقت الإشارة إليه، يلفت آل غور إلى ما يطلق عليه "ميزان القوى السياسية والاقتصادية والعسكرية العالمية"، ذاك الذي يتحول بعمق أكثر من أي وقت مضى خلال الأعوام الـ500 الأخيرة، إذ يقفز الكاتب دفعة واحدة من القرن الـ15 إلى أواخر القرن الـ20، فالتحول مما يسميه "النظام المركزي" في الولايات المتحدة إلى نظام يمتلك مراكز ناشئة متعددة للسلطة ومن الحكومات الوطنية إلى الجهات الفاعلة في القطاع الخاص، ومن النظم السياسية إلى الأسواق.
هنا يمكننا تقسيم هذه الرؤية إلى قسمين، الأول يتعلق بنهاية زمن القطب الأميركي المنفرد بمقدرات العالم، لا سيما منذ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي، وبالقدر نفسه نهاية فكرة الثانئية القطبية، والثاني بدور الجماعات الفاعلة في التاريخ المعاصر من غير الحكومات.
كتب آل غور كتابه عام 2013 بمعنى أن سطوره جاءت سابقة على نشوء وارتقاء تجمعات دولية مثل "بريكس" و"بريكس بلس"، فترتسم ملامح حلف سياسي جديد وليد ينمو ويزدهر يوماً تلو الآخر.
في الوقت عينه، تطفو على السطح تفاعلات لتحالفات عسكرية مغايرة لـ"ناتو"، من عينة "أوكوس" الذي يجمع الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا وهو ذو طابع عسكري مجرد، ويهدف بالدرجة الأولى إلى حصار الصين في منطقة الإندوباسيفيك.
عطفاً على ذلك تتبلور رؤى لتحالفات أخرى من نوعية "الحوار الأمني الرباعي" أو "كواد" بين الولايات المتحدة وأستراليا واليابان والهند، وكما هو ملاحظ فإنه يجمع ما بين أميركا ودول آسيوية مع أستراليا البعيدة، وبهدف آخر هو قطع الطريق على القطبية الروسية العائدة والصينية الصاعدة ومنعهما من تشكيل تحالفات تنتج في النهاية حلفاً وريثاً لـ"حلف وارسو" وإن بصورة آسيوية محضة.
هل يمكن اعتبار القوى غير الدولية محركاً فاعلاً ومولداً جديداً لتغيرات عولمية مثيرة وربما خطرة معاً؟
المؤكد أنه لا مفر لأي دولة من التعرض لأمواج التغير العاتية، لا سيما في ظل تراجع مقدرات الدولة القومية لمصلحة القوى العولمية الاقتصادية من شركات عابرة للقارات وكارتلات اقتصادية مخيفة، وفي الوسط من هذا كله تتراجع المقدرات الإنسانية، لتبقى حسابات السوق هي السائدة من غير أخلاقيات أو مبادئ الكرامة الإنسانية.
هل يعني ذلك أن مصير البشرية يكاد ينفلت أو يتسرب من بين أصابع البشر؟
المؤكد أن الطريقة العملية الوحيدة لاستعادة السيطرة على مصير البشرية هي السعي إلى إجماع عالمي ضمن المجتمع الدولي لضمان تنفيذ السياسات التي تصون القيم الإنسانية.
ولعله ليس من قبيل السر أن العالم ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الآونة الأخيرة في الأقل، كان يتطلع بصورة أساسية إلى الولايات المتحدة لإدارة دفة القيادة عندما تدعو الحاجة، غير أن واقع حال الولايات المتحدة اليوم يقطع بأن روحها في أزمة وأن فكرة "الحلم الأميركي" فقدت بريقها وزمن الانحدار آتٍ لا محالة.
مصفوفة "ماتريكس" وما بعد الإنسان
من بين محددات ومولدات التغيير في العقود المقبلة تأتي حكماً قضية الجينوم والتكنولوجيا الحيوية وعلم الأعصاب وثورات علوم الحياة التي تتحول بصورة جذرية في مجالات الطب والزراعة والعلوم التجريبية، وتضع مفاتيح التحكم في التطور بأيدي الإنسان.
لم يعُد خافياً على أحد أن هناك تداخلاً طبياً في عملية الحياة البشرية، وربما عما قريب ستشهد الإنسانية أجيالاً من البشر المصنَّعين مختبرياً ومن غير تناسل بشيء تقليدي كما جرت الحياة منذ بداياتها وحتى الساعة.
عطفاً على ذلك، فإن عالم الأعضاء البشرية والخلايا الجذعية ماضٍ قدماً ليفتتح ثورة غير متوقعة في حياة سكان هذا الكوكب، غير أن الوجه الآخر من هذا التغير مخيف إلى حد الرعب، لا سيما أنه موصول بفكرة "عالم ما بعد الإنسان" ومحاولة القضاء على الكائن البشري العاقل الذي استخلفه الله تعالى في عمارة الأرض... كيف ذلك؟
من المؤكد أن هناك من يؤمن بوجود مؤامرة على النوع البشري تظهر جلياً في مواضيع الهندسة الوراثية وتكنولوجيا زراعة الأجسام الإلكترونية في الإنسان، عطفاً على الذكاء الاصطناعي، ثم الفائق منه، وتكنولوجيا النانو وعلم التحكم الذاتي.
كل هذه المسائل يرى فريق من العلماء أنها تدخل في مشروع ما بعد الإنسان، ويعتقد هولاء بأن هناك فارقاً كبيراً بين التكنولوجيا التي تساعد الإنسان ذو الاحتياجات الخاصة لعيش حياة طبيعية، والتكنولوجيا التي تهدف إلى تحويل الإنسانية كلية.
يبدو لبعضهم أن هذا هو مشروع "ما بعد الإنسان" الذي يعملون عليه والذي كان كات راتسول أحد رواده، وما سماه "التفرد" في كتابه "التفرد قريباً"، وفيه أن الإنسان سيتجاوز البيولوجيا، فكتب فيه أنه بعد الوصول إلى مرحلة التفرد لن يكون هناك أي فرق بين الإنسان الآلة أو الواقع، والواقع الافتراضي.
هنا من المهم أن نفهم أن مشروع ما بعد الإنسان هو فقط مرحلة إنتقالية ما بين الإنسانية وما بعد الإنسانية، أما الهدف النهائي فهو التخلص تماماً من الإنسان كما نعرفه اليوم.
والثابت أنه حين نعرف الهدف النهائي لهولاء، نفهم السبب وراء ما يجعل اليوم من التكييف النفسي والعبث البيولوجي والانحراف الاجتماعي والإعداد التربوي التي تعرضنا لها لعشرات السنين، تحضيراً للبشرية لتتقبل مستقبل ما بعد الإنسان.
ما يجري على صعيد هذا المتغير يستدعي كثيراً من الإساءة الجسدية والنفسية لإرغام كائنات ذكية مثلنا على أن تقبل الانقراض، فبات من المؤكد أن غالبية، إن لم تكن كل الأحداث التي جرت بها المقادير خلال العقود الستة الماضية، كانت مصممة من أجل دفع البشرية إلى القبول بهذا الواقع الفاسد.
ولعله من نافلة القول إننا نعيش في ما بات يعرف بـ"مصفوفة ماتريكس"، إذ إن آليات المجتمع الماورائي التي تم التخطيط لها ويبدو العالم يمضي في إثرها بعناية تامة، حتى لو من غير وعي كامل تشير إلى أن هناك من يتحكم فينا.
ولتعزيز هذا الغرض، كان عليهم أولاً زعزعة الإنسان وتجريده من إنسانيته وإفشاء اليأس في نفسه عبر كل الوسائل الممكنة وأولاها تحطيم نواة العائلة والأطفال الذين تربيهم الدولة في مدارسها وتشجيع الإجهاض والقضاء على الإيمان بالله وسحق حضور الروحانيات في المنظومة التعليمية.
لكن السؤال كيف لهم فعل ذلك؟ وعن طريق آي آليات يمكنهم إدارك أهدافهم؟.
الذكاء الاصطناعي وتغيير العالم
بات في حكم المؤكد أن عالماً مغايراً ستتحكم فيه مولدات جديدة في مقدمتها الذكاء الإصطناعي، وما يمكن أن يستجد في سعيه، من نوعية الذكاء الفائق الاصطناعي.
هنا وعلى رغم الإيجابيات كافة التي يوفرها عالم الذكاء الاصطناعي وبما ييسر حياة البشر، فإن ما يخيف العلماء هو أن يصبحوا في يوم من الأيام أمام حقيقة خطرة وهي قيام الآلة بالتفكير عوضاً عن البشر، فيما الأكثر هولاً أن تحل بالإنسانية لحظة تقرر فيها الآلة مصير الإنسان، كما شاهد الجميع في أفلام الخيال العلمي لهوليوود.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يبدو متغير الذكاء الاصطناعي مقلقاً يوماً تلو الآخر، بعدما بات يزاحم البشر في مناحي الحياة كافة، ويُخشى من أن يأتي يوم تستغني فيه الآلة عن صانعها.
هناك اليوم ما يشبه علاقة حب بين الذكاء الاصطناعي وعلم الطب، فأصبحت مجالات عدة تستخدم التقنيات الحديثة في عصر المعلومات، واستعمل الذكاء الاصطناعي في إدارة السجلات الطبية للمرضى ومعرفة التاريخ المرضي لهم لأنها الخطوة الأولى في الرعاية الطبية، فضلاً عن اللجوء إليه لتحليل نتيجة الفحوصات المختلفة بسرعة فائقة ودقة أدق، كما بإمكانه تحليل الملاحظات الموجودة في التقارير الطبية التي على أساسها يصار إلى اختيار المجرى الأصح للعلاج.
هنا يمكننا التساؤل، "هل هي لحظة قريبة، تلك التي سيجد فيها البشر أوضاعهم الصحية مرتبطة بمتغير الذكاء الاصطناعي؟"، لتطفو على السطح تحديات من نوعيات مغايرة، من عينة المخاوف التي تنجم عن احتلال الآلات مكان البشر وبذلك فقدان الوظائف، إذ إن الدراسات الحديثة تظهر أن الأتمتة والأنظمة الذكية ربما تحل محل العمال في كثير من الوظائف التي تتطلب تأدية مهمات روتينية، ويشير تقرير صادر عن منتدى الاقتصاد العالمي أن آلاف الوظائف ربما ستختفي بحلول عام 2030 نتيجة تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي، مما يطرح تحديات جمة على الحكومات والمؤسسات في كيفية التعامل مع تحول سوق العمل وإعادة التأهيل المهني للعمالة.
هذا المتغير يتناقض جوهرياً مع الثورة التكنولوجية التي يمكن للذكاء الاصطناعي أن يزخم بها الإنتاج العالمي ويعزز النمو الاقتصادي حول العالم ويرفع مستويات المداخيل.
هذه الثنائية المثيرة للجدل لا تحتاج إلى موازنات السياسيين فحسب، بل إلى أفكار الفلاسفة والحكماء، لإحداث توازنات بين متغيرات ومولدات مستقبلية آتية لا محالة من جهة، وكرامة العنصر البشري من جهة أخرى، وحتى لا يحدث اختلال تكتوني في العلاقة ما بين القوتين البشرية والتكنولوجية يقود إلى الضرر بالنوع البشري، عوضاً عن تحسين مستوى حياته.
من بين هذه الأصوات التي يجب احترامها، صوت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (يونيسكو) أودري أزولاي التي اعتبرت أنه يجب على العالم أن يضمن استخدام التكنولوجيات الجديدة، بخاصة تلك القائمة على الذكاء الاصطناعي لمصلحة مجتمعاتنا البشرية وتنميتها المستدامة، من خلال تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي على نحو يتوافق مع الحقوق الأساسية الإنسانية التي تشكل أفقاً ديمقراطياً.
ما الذي يتبقى في سياق هذه المولدات والمغيرات الدولية في السياق العالمي؟
وسائل التواصل الاجتماعي قوة مغيرة
في زمن الإمبراطورية الرومانية قيل إن من يعطي القمح يعطي الشريعة، أما في حاضرات أيامنا، فإن من يتحكم في شبكات التواصل الاجتماعي هو من يمكنه وعن حق، تغيير شكل العالم الحاضر عبر صناعة الرأي العام العالمي.
بدأ المشهد مع ظهور شبكة الإنترنت، تلك التي اعتبرت أداة من أدوات الحرب الأميركية، فنشأت وراء جدران وزارة الدفاع الأميركية، (البنتاغون) لتبادل المعلومات بين أفرع الجيوش الأميركية، وفي إطار من السرية الفائقة التي تليق بالقوة العسكرية رقم واحد حول العالم.
غير أنه خلال بضعة عقود باتت هذه الشبكة المعلوماتية تربط العالم من أدناه إلى أقصاه، فمن أرجاء أميركا الواسعة، مروراً بالهند وأفريقيا وصولاً إلى العالم العربي أثبتت شبكة الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي خصوصاً، قدرتها الفريدة على جلب الانتباه، أول الأمر، ثم صناعة هذا الانتباه تالياً، وفرض محتواه في مرحلة لاحقة.
باتت شبكة الاتصالات الإلكترونية الممتدة على نطاق الكوكب ذراعاً مهمة من أذرع المتغيرات الأممية، تربط بين أفكار ومشاعر مليارات البشر وتوصلهم إلى كم هائل من البيانات التي تتنامى وتتوسع على نحو سريع، وإلى شبكة سريعة النمو من أجهزة الاستشعار المزروعة بكثرة في جميع أنحاء العالم، وإلى أجهزة ذكية متطورة وروبوتات وآلات تفكير يفوق ذكاءها بالفعل قدرات البشر في أداء قائمة متنامية من المهمات العقلية المنفصلة، وربما تتفوق علينا قريباً في مظاهر وتجليات الذكاء الاتصالي البشري التقليدي.
هل يعني ذلك أن هناك تداخلاً ما بين عالم الذكاء الاصطناعي السابق الحديث عنه، ومعالم بل "ثورة" وسائل الاتصال الاجتماعي المشار إليها في هذه الفقرة؟.
غالب الظن أن الأمر بالفعل يمضي على هذا النحو، مما يعني أن ثورة الاتصالات البشرية سيتم التحكم بها عما قريب من قبل العقول الصناعية الذكية التي تراقب وترصد ما نكتب ونقول، وربما ستتداخل مع تفكير البشر.
غير أن هذه الجزئية من الخطورة بمكان، لا سيما في ظل ما بات يعرف بعالم الأخبار المزيفة، وهل يمكن لهذه الوسائط المحدثة من إنترنت و"فيسبوك" و"إنستغرام" و"إكس"، عطفاً على غيرها مما لم يظهر بعد، أن تعمد إلى تحريف الحقائق ثم تجريفها إذا أرادت؟.
من المؤكد ساعتها أن البشرية ستجد ذاتها ممتهنة الكرامة، فعوضاً عن أن تيسّر هذه الآليات حياة الكائن البشري وترقّي مستويات الأمم والشعوب على الأصعدة كافة، ستقودها في دائرة مهلكة من الخدع والأكاذيب، مما يتسق وفكرة أن هناك من يعدّ العالم عبر تلك المتغيرات لـ"ما بعد الإنسان"، وهو حديث ذو شجون وقائم بذاته.
ومع توسع الفضاء التواصلي ووسائله وانفتاحه على آفاق وجماعات بشرية جديدة، تذوب الحدود والفواصل الثقافية بين الجماعات البشرية بصورة أكبر، مما يأخذنا بدوره إلى فكرة العالم الواحد الذي يتم توجيهه من خلال الحكومة العالمية الموحدة.
حروب الجيوش غير النظامية
ولعل أحد أهم المولدات لعالم جديد مغاير عما عرفته البشرية في سابق عهودها، هو ذاك الموصول بفكرة الجيوش غير النظامية التي باتت عاملاً فاعلاً في المنظومة الدولية اليوم على الأرض وفي البحر، وربما غداً نراها في الجو، وليس بعيداً كذلك عملها في الفضاء الخارجي، لا سيما بعد تجارب الفتى العبقري إيلون ماسك... ما هي تلك الجيوش أول الأمر؟.
باختصار غير مخل، إنها القوات العسكرية غير النظامية التي لا تخضع لقوانين الأنظمة العسكرية الدولية، أي إنها جيوش وقوات جاهزة لخوض المعارك لحساب من يطلب، فهي لا عقيدة قتالية عسكرية وطنية لديها ولا توجهها ولاءات أخلاقية مثل الذود والدفاع عن الأرض والعرض، بل هي نوع من المافيا العسكرية المستترة إن جاز التعبير.
والقوات غير النظامية شائعة في الحرب غير النظامية التي توظف التكتيكات المستخدمة عادة من قبل المنظمات العسكرية غير النظامية والتي تشمل الصراعات الأهلية، الثورية أو المقاومة لغزو دولة أجنبية.
يعنّ لنا هنا التساؤل، "هل الأجواء الدولية من عولمة تتيح الانفتاح غير المحدود على الآخر وحال السيولة الجيوستراتيجية والتواصل المعلوماتي المتدفق، ناهيك عن برامج الذكاء الاصطناعي المخيفة، هل هذه جميعها تيسر من مهمات تلك القوات؟.
الجواب نعم، ومرد الأمر أن هذه الجماعات المسلحة يسهل عليها أن تجد ما تتطلع إليه من موارد لصناعة أدوات الموت بسهولة ويسر.
أما الكارثة الأكبر والأخطر، فتتمثل في أدواتها المستحدثة، فهي ليست في حاجة إلى دبابات وطائرات وصواريخ عابرة للقارات، ففي بعض الأوقات تكفيها قنبلة كهرومغناطيسية مخبأة في سيارة صغيرة، لإحداث شلل تام في مدينة بحجم نيويورك أو باريس أو موسكو.
وتكفي كذلك مجموعة من القراصنة غير النظاميين، تجمعهم وحدة عسكرية في ركن قصي من أركان الكرة الأرضية، للسيطرة على مطارات ومراكز تحكم، أو محطات كهرباء ومياه.
ولا يعني ذلك انعدام فكرة القتال على الأرض، إذ تابع العالم أخيراً جماعة "فاغنر" العسكرية الروسية وما تسببت فيه بالداخل الروسي من قلاقل، والآن تمارس الدور نفسه في أفريقيا.
هل هذه السطور تعبّر فعلاً عن مولدات التغيير كافة في العقود المقبل؟
بالقطع يبقى الحديث متصلاً، لا سيما في ظل طرح النوازل في عالم يتغير ساعة بعد أخرى، وليس يوماً بعد آخر.