Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ظلال الـ"مانيفستو"... حين تفرض السياسة أجندتها على الشاشة

كثير من التجارب التي وضعت الأيديولوجيا على عاتقها كانت هشة من الناحية الفنية ولا تقدم جديداً لسحر السينما

في إمكان الفن أحياناً أن يلعب الفن دوراً أيديولوجياً من دون أن يفقد بريقه الفني وأصالته الجمالية (مواقع التواصل)

ملخص

مهما ادعى أي مخرج سينمائي استقلالية عمله الفني فإن ذلك يبقى غير ممكن لأن العمل السينمائي قادر على احتواء أيديولوجية السيناريست والمخرج معاً، وعلى مدار تاريخ هذا الفن لعبت السينما دوراً في خدمة الأيديولوجيات القومية والوطنية.

في كل الفنون المعاصرة تحضر الأيديولوجيا، لا باعتبارها خطاباً مضمراً في ثنايا العمل الفني، بل لا يجد المخرج أو الفنان أو الموسيقي أي حرج في الإعلان عن أيديولوجيته تجاه موقف أو قضية. مرد ذلك إلى كونهم يعدون الفن ليس مجرد أداة لخلق الترفيه والمتعة، بل عبارة عن كتلة فنية قادرة على قول ما لا يمكن قوله في السياسة. مع العلم أنه لا توجد أي نظرية استطاعت أن تفكك علاقة الفن بالأيديولوجيا وتعتبر أن هذه الأخيرة تؤثر سلباً في العمل الفني. إذ إن هناك أعمالاً على رغم ما تضمره من أيديولوجيا فإنها تبقى ناجحة على مستوى النص والصناعة.

ففي السبعينيات ظلت معظم الأفلام العربية كأنها عبارة عن بيانات سياسية أكثر منها أعمالاً فنية، لكن مع ذلك فالناس كانت تشاهدها وتعدها أمراً عادياً، كون الفن يمتلك هذه الخاصية التي تؤهله أن يكون مؤثراً في الحياة العامة وسياساتها، وعبر العصور عمل الفنان الغربي على أن تكون لوحاته وموسيقاه خدمة للأيديولوجيا التي يؤمن بها.

 

 

ففي عصر النهضة الذي يعد أهم العصور في تاريخ أوروبا خلال المرحلة الحديثة، عمل الفنان على الثورة على النظام الكنسي بما كان يمثله من أفكار ومواقف وقوانين، وكانت هذه الثورة أيديولوجية في عمقها، لأنها بقيت مبنية على مفهوم العودة إلى الحضارتين اليونانية والرومانية من خلال عنصر الإنسان، وقد كانت أعمال فنانين من قبيل بوتشيلي ولوناردو دافينشي عبارة عن أعمال فنية تطلق العنان للجسد بجميع حمولاته الأيديولوجية، فحين يتحدث المرء عن علاقة الفن بالأيديولوجيا إبان الحقبة الحديثة، فإن أول شيء يتبادر إلى ذهنه هو عمل "غارنيكا" لبابلو بيكاسو وقدرته على الصراخ في وجه الحرب الأهلية وأنظمتها الفاشية، ذلك أن هذا العمل الكبير والمعروض في مركز الملكة صوفيا الوطني للفنون بمدريد، يعد مثالاً حقيقياً على إمكان أن يلعب الفن دوراً أيديولوجياً، لكن من دون أن يفقد بريقه الفني وأصالته الجمالية.

السينما والأيديولوجيا

على رغم الأثر الذي تركته الأيديولوجيا في بنية العمل التشكيلي، فإن السينما تبقى الأكثر تأثيراً وشهرة، لأن ميلاد السينما رافق صعود كثير من التيارات الأيديولوجية التي لم تسلم من عملية التأثير والتأثر، ذلك لأن السينما وبحكم موقعها في العالم كسلطة بصرية وما تتميز به من شعبية غدت الفن الأكثر تأثيراً في المجتمعات والأنظمة والسياسات. لذلك عملت بعض المؤسسات الرسمية على استمالة قطاع الفن السابع وتدجين مخرجين، وهذا الأمر ما دفع لاحقاً عديداً من النقاد والباحثين للحديث عن مسألة الاستقلالية في الفن، لكن مهما ادعى أي مخرج سينمائي استقلالية عمله الفني، فإن ذلك يبقى غير ممكن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ذلك لأن العمل السينمائي قادر على احتواء أيديولوجية السيناريست والمخرج معاً. وعلى مدار تاريخ هذا الفن لعبت السينما دوراً في خدمة الأيديولوجيات القومية والوطنية. وثمة أفلام كثيرة على رغم عظامتها فإنها بمجرد أن تنزع عنها عباءتها الأيديولوجية ستبدو هشة ومرتبكة، إن هناك حدوداً كبيرة بين الأيديولوجي والجمالي، فهذا الأخير يعتبر شرطاً أساسياً للعمل الفني، والعمل السينمائي مهما تضمن أفكاراً عن الثورة والأيديولوجيا، فإنه يظل عملاً فنياً يروم صناعة بعض من الجمال.

حين يكون الفيلم سياسياً أيديولوجياً غالباً ما تكون نبرة النقد حادة ويتم عرضه في مقار الصحف اليسارية ومكاتب الأحزاب الاشتراكية والاحتفال به على أساس أنه بيان سياسي أكثر من كونه عملاً سينمائياً، نظراً إلى الحمولة الأيديولوجية الكبيرة التي تحتويها السينما كخطاب بصري مؤثر في وجدان الناس ومخيلتهم. لذلك تعتمد كثير من الدول العربية على دعم المنتج الفني الوطني مع ضرورة إخضاعه لمجموعة من الشروط التي تتحكم فيها الرقابة السياسية القمعية. هذا الأمر يدفع عديداً من المخرجين العرب إلى البحث عن منافذ أخرى للحصول على الدعم وتصوير أفلامهم.

 

 

هكذا تكون أعمالهم السينمائية مستقلة من ناحية الإنتاج وتمتلك وعياً دقيقاً بحرية الإبداع والابتكار والنقد، لا ترتبط الأيديولوجيا أحياناً بحرص الدولة على تمرير أيديولوجيتها، بل إن تكوين المخرج الفكري وموقعه الاجتماعي يفرضان عليه أن يكوِّن أيديولوجيا. ففيلم "المدرعة بوتمكين" للمخرج سيرغي أيزنشتاين ينتصر فيه للتجربة الشيوعية ويتفاعل معها بشكل خفي في صوره. وكانت الأحزاب الشيوعية في روسيا منذ ثورة 1917 تعتمد على السينما في نشر أفكارها ومواقفها من العالم الرأسمالي. إن غالب النقاد اليوم حين يتحدثون عن إيزنشتاين غالباً ما يتم التطرق إلى ثورته في المونتاج، لكنهم ينسون هذا البعد الأيديولوجي الذي ظل يطبع أفلامه السينمائية على أهميتها.

من الجمالي إلى الأيديولوجي

إن معضلة الأفلام الأيديولوجية أنها على رغم حمولاتها الفكرية يبقى الهاجس الجمالي مغيباً داخلها. فمعظمها يتم فيها التعامل مع الأفكار وفق طريقة ميكانيكية على نقل الأفكار ومحاكتها وفق آلية أيديولوجية من دون التفكير في أبعادها الجمالية، فما يهم المخرج في هذه العملية الجانب الأيديولوجي الذي يحول الفيلم إلى بيان سياسي. الأمر نفسه تكرر في البلاد العربية خلال السبعينيات، فهناك كانت ناجحة بقوة، لا لأنها تمتلك وعياً أصيلاً بالصناعة السينمائية، بل فقط بما احتوته من صراخ ونقد. في السينما المصرية نعثر على كثير من التجارب التي وضعت النقد السياسي في مقدمها، فكانت أعمالها هشة من الناحية الفنية، ولا تقدم أي جديد من الناحية السينمائية.

 

 

نشير هنا إلى فيلم "الإرهاب والكباب" (1992) للمخرج شريف عرفة، الذي يبطن عديداً من الإشارات السياسية التي تنتقد السلطة القائمة، بعدما جعل السيناريست وحيد حامد من الكوميديا مطية لنقد السلطة والمجتمع. في هذا الفيلم الذي يعتبره النقاد حدثاً فارقاً في السينما المصرية، ظل الرهان عند المخرج هو الجانب الكوميدي الممزوج بالسخرية السياسية، في حين أن البعد الفني الجمالي كان مغيباً. وإذا استثنينا فيلم "صعيدي في الجامعة الأميركية" (1998) الذي يضمر هو الآخر توجهاً نقدياً حول تواطؤ النخب الثقافية مع أفكار الاحتلال، فإن غالب الأعمال التي حملت هماً أيديولوجياً فشلت بشكل ذريع من الناحية السينمائية.

تعتبر أفلام الحرب الأهلية اللبنانية أهم مرحلة في تاريخ السينما العربية في علاقة بالأيديولوجيا، ذلك أن أفلام برهان علوية وجوسلين صعب ومارون بغدادي وغيرهم فيها هم أيديولوجي كبير، لكن مع ذلك هناك أفلام كثيرة جعلت من الهاجس الجمالي إطاراً تخييلياً لها. ففي فيلم "طيارة من ورق" (2003) للمخرجة اللبنانية رندة الشهال، تعطي المخرجة قيمة أكبر لفعل التخييل على حساب الأيديولوجيا، وتجعل هذه الأخيرة مجرد مختبر لتكثيف القول، في مقابل تصوير سينمائي يلتقط التفاصيل المذهلة ويعيد تخييل الحكاية والقبض عن ملامحها وأيديولوجيتها.

المزيد من سينما