ملخص
تكتنز الأراضي السورية ثروات تعادل عشرات أو مئات أضعاف ما اكتشف فيها، وكل تلك الثروات جعلت الأنظار تتجه إلى مواقع تنقيب سرية جديدة بصورة غير شرعية.
تشهد عموم المناطق السورية الواقعة تحت سيطرة الحكومة السورية أو خارجها، عمليات تنقيب مستمرة بحثاً عن الآثار والعملات الذهبية واللقى النفيسة، وإن كان تنامي تلك الظاهرة مرتبطاً بصورة أساسية بالحرب، فإن كثافتها تختلف من مناطق لأخرى، بل من أزمان اشتدت فيها الحرب لأخرى خفت فيها صوت البنادق.
تكتنز الأراضي السورية ثروات تعادل عشرات أو مئات أضعاف ما اكتشف فيها، بدءاً من موقع "عين الفيل" على مسافة 90 كيلومتراً شمال تدمر بوسط سوريا، ويعود لقرابة مليوني عام، حيث وُجد هناك أقدم استيطان في المنطقة، وصولاً إلى جرار الذهب المدفونة، وكل تلك الثروات جعلت الأنظار تتجه إلى مواقع تنقيب سرية جديدة وبصورة غير شرعية.
ولعل التنقيب عن الآثار واحد من أكثر الجوانب المظلمة في الحرب السورية، ورأينا كيف كانت تنظيمات متطرفة مثل "داعش" تمتهن تجارة الآثار مع غيرها من تنظيمات وشبكات أفضت بمجملها إلى أن يشاهد السوري تاريخ بلده وقد صار في المتاحف الأوروبية.
الآن يعمل منقبون، سواء منفردين أو ضمن مجموعات صغيرة، لحساب أنفسهم، وهم في الغالب أشخاص عاديون ليس لبعضهم خلفيات إجرامية أو جنائية، فلدى اعتقال عدد من أولئك وهم يبحثون عن الآثار، تبين أن كثيراً منهم يواجه قضية جنائية للمرة الأولى.
أرض الدمار والثروات
استغل هؤلاء الحرب والتفلت والدمار وانعدام سيطرة الحكومة السورية على كامل أراضيها، فضلاً عن الروايات المتناقلة عن منقبي الآثار الذين وجدوا مرادهم وصاروا اليوم في مصاف الأغنياء.
تبدو أمور التنقيب أكثر سلاسة بكثير في مناطق الشمال السوري التي تسيطر عليها "جبهة النصرة" (هيئة تحرير الشام)، إذ إن التقارير الصحافية والدولية تؤكد ضلوع الهيئة نفسها بتجارة الآثار بصورة موسعة وعميقة عبر الأراضي التركية ومن ثم نحو تركيا. ولعل الهيئة ورثت الأمر عن "داعش" مستغلة سيطرتها على منطقة جغرافية واسعة بما فيها من كنوز تاريخية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لثلاثة أعوام متواصلة دأب الشاب العشريني علي، وهو اسم مستعار، على الحفر والتنقيب صبح مساء في قرى ريف حمص الشرقي المتاخمة للمدينة، معتمداً في ذلك على صديقيه ليساعداه ومعهم مرشد متعاون قدم نفسه كخبير في نفائس المنطقة، ويحمل عصا برأسين ويسير أمامهم كأولئك الذين يبحثون عن مناهل المياه.
اللافت أن علي ورفيقيه استغرقوا ثلاث سنوات حتى تأكدوا أن مرشدهم الذي يتقاضى منهم المال والذي جعلهم يحفرون مئات الحفر لم يكُن سوى "نصاب" استغل اندفاعهم نحو حلم الثراء. يقول علي، "لم أتمكن من دخول الجامعة بعد أن كنت مسؤولاً عن أسرتي عقب وفاة والدي خلال الحرب، وكانت الهموم تزيد والمسؤوليات تتعاظم، حتى بدأت تتسلل إلى مسامعنا قصص أولئك الذين يعثرون على ذهب كثير ويبيعونه بأرقام فلكية، فقررت ورفاقي خوض تلك التجربة".
ويضيف أنه "كان علينا اختيار المنطقة بعناية، والأرض التي قيل لنا إن فيها ذهباً كثيراً تقع ضمن ملكية عائلية، فاتفقت معهم على أن نحفر في كل المواقع المحتملة داخل أراضيهم مقابل منحهم نصف ما نجده، فوافق رب الأسرة. وتقريباً حفرنا الأرض شمالها وجنوبها مع مرشدنا العبقري، ووصلنا إلى حجارة وأشياء غريبة لكن لم نجد شيئاً يلمع، فغيّرنا الأرض مراراً وتكراراً".
يتابع أنه "بعد ثلاث سنوات وجدت أن حياتي تسير خلف سراب وعائلتي تموت من الجوع، وكان لا بد من أن أتوقف، وهذا لا يعني أن مئات الناس لم يعثروا على ذهب وآثار، لكننا ربما كنا بحاجة لتطوير في أدوات عملنا، فضلاً عن كمية الإرهاق النفسي والبدني التي لحقت بنا على اعتبار أن الحفر يكون حصراً في ساعات متقدمة من الليل، ولربما أفضل ما حدث معنا هو أننا انسحبنا قبل أن نعتقل، وهكذا ضاعت سنين العمر من دون طائل".
حين يبتسم الحظ
ربما لم يحالف الحظ علي ورفيقيه ولكنه حالف آخرين، بينهم ناصر شريباتي الذي يقيم الآن في اليونان منتظراً تأمين طريق آمن للعبور إلى تركيا.
حفر ناصر لمدة عام متواصل منفرداً في أرض زراعية تقع شرق قرية عين النسر شمال شرقي حمص، وفي النهاية عثر على تمثال صغير بحجم نصف قبضة اليد، وفي حفرة أخرى وجد خابية بداخلها 10 ليرات ذهبية عثمانية.
يقول، "عثرت على التمثال أولاً، لم تسعني الفرحة، ما هذا الشيء الغريب؟، رأس ثور وجسم إنسان وحجمه صغير جداً، هل هو أثر أم لعبة؟ لكن حين عثرت على الجرة، يا إلهي، رفعتها فوق رأسي وصرخت كاللاعبين الذين يرفعون الكأس في نهائيات الدوريات الكروية الكبرى".
ويضيف، "وقعت في خطأ كبير للغاية، إذ بعت الليرة الواحدة بأربعة آلاف دولار، والتمثال بـ 22 ألفاً، ولم أتوقع أن ذلك القزم يساوي هذا القدر، فجنيت نحو 62 ألف دولار، أي ما يعادل نحو مليار ليرة سورية اليوم، وهو رقم يجعل السوري سيداً".
يشير ناصر إلى أنه لاحقاً حين سافر إلى تركيا ومنها إلى اليونان اكتشف من خلال معارف هناك أنه وقع ضحية نصب، وأنه كان يمكن أن يبيع ما عثر عليه بأكثر من 100 ألف دولار. ويبدي ندمه على تعجله، وفي الوقت ذاته يؤكد أنه كان مضطراً إلى أن يبيع لوسيط في السوق السوداء ويمضي سريعاً خارج الحدود قبل افتضاح أمره وقضاء بقية عمره سجيناً.
شجاعة بلهاء
من القصص الطريفة التي لا يمكن إيجاد تفسير عقلي أو منطقي لها، قيام مجموعة أصدقاء بالتنقيب عن الآثار في أرض ملاصقة لإحدى الثكنات العسكرية داخل إحدى المدن الرئيسة، إذ استخدموا معاولهم وأدواتهم البسيطة مستعينين بمولد كهرباء صغير يساعدهم على استعمال حفارة بسيطة.
خلال خمس دقائق من بداية الحفر استنفرت الثكنة العسكرية المجاورة على نحو كامل وطوقتهم وأمسكت بهم من دون أية مقاومة منهم، مما جعل العسكر أنفسهم يندهشون مما يحصل. ولم يجد الأمن تفسيراً لما وصفه أحد المصادر بـ"هذا الحمق المتناهي"، فهم ليسوا إرهابيين ولا مخربين، ولكنهم لصوص آثار بالتأكيد، لكن لماذا يفتشون في مكان ملاصق تماماً لسور الثكنة العسكرية؟.
بين كل تلك الفوضى "الفردية" في السعي نحو المال الحرام، يمكن التمييز بين أولئك المنقبين سراً، فبعضهم عثر على مراده واكتفى، هاجر أو أجرى عملية غسيل أموال ولا يزال يعيش بصورة طبيعية. وآخرون ملوا بعد أشهر أو أعوام من البحث، وعرفوا أن لا طائل مما يفعلونه، وأن الحظ لن يحالفهم، وفريق ثالث لا يزال حتى اليوم يبحث من دير الزور شرقاً إلى اللاذقية جنوباً، ومن حلب وإدلب شمالاً إلى درعا والسويداء في الجنوب.
بين أولئك الذين ملّوا وتخلوا عن حلمهم كان الشاب ياسين رضا الذي لا يبالي بذكر اسمه الحقيقي، مستنداً إلى أنه خاض تجربة لم يضبط فيها بالجرم المشهود ولا دلائل على ارتكابها، كما أن سجله الجنائي لا يزال نظيفاً.
يقول ياسين، "وصلت إلى قناعة بأن عمري قد يضيع سعياً خلف ذهب روماني أو عثماني، وربما لا أحصل على شيء في النهاية، لذا عليّ أن أعود لحياتي وأبحث عن شيء أكون منتجاً فيه عوضاً عن هذا العبث الطويل".
الرأي القانوني
يوضح المتخصص القانوني شعلان مفيد لـ"اندبندنت عربية" أن قانون العقوبات السوري المرتبط بالآثار مع تعديلاته يقضي بحبس كل من أقدم على تهريب الآثار أو حاول تهريبها بالسجن من 15 إلى 25 سنة، ومن 10 سنوات إلى 15 سنة لكل من سرق أثراً ثابتاً أو منقولاً أو ألحق ضرراً جسيماً به أو قام بعملية الاتجار به.
ويعاقب بالاعتقال من خمس سنوات إلى 10 سنوات وبالغرامة من 25 ألفاً إلى 500 ألف ليرة كل من خرب أو أتلف أو هدم أثراً أو صنع قطعة أو قطعاً تشوه الحقائق التاريخية أو أسبغ عليها الصفة الأثرية.
ويشرح مفيد أن قانون الآثار المعدل بمرسوم تشريعي عام 1999 اتخذ أشد العقوبات بحق من يمتهن التعامل أو التنقيب عن الآثار، مضيفاً أن العقوبة تشمل من قام بالتنقيب عن الآثار في أرض تعود ملكيتها له، أو كانت أرضاً لا يملكها، وفي حال عُثِر مصادفة على قطعة أثرية فعلى من يجدها تسليمها ضمن مدة لا تتجاوز بأي شكل 24 ساعة إلى السلطات المختصة وإلا أصبح شريكاً في الجريمة.