ملخص
تتوالى المختارات الشعرية السورية، وتسعى كل "أنطولوجيا" إلى تقديم مشهد من الشعر الذي يكتب الآن، في المنفى والداخل. الشاعرة رولا حسن ارتأت أن تقدم مختارات لـ26 شاعرة سورية، تمثل أبرز الإبداعات الجديدة في حقل الشعر النسائي.
لا يمكن بعد الآن تحديد مستوى من مستويات الشعرية السورية الجديدة، فعشرات النصوص التي تكتب وتنشر يومياً لشعراء وشاعرات سوريين على مواقع التواصل الاجتماعي، أو تطبع في دور نشر محلية وعربية، تجعل من الصعب- إن لم نقل من المستحيل- وضع إطار نقدي محدد لها. ولكن في المقابل يسعى العديد من النقاد والشعراء بين فترةٍ وأُخرى داخل سوريا أو خارجها، إلى تحقيق ما يشبه أنطولوجيات شعرية، تؤرخ في غالبيتها زمنياً، لأجيال شعرية، وتحاول عبثاً وضع سياق لما يكتب وينشر منذ 15مارس (آذار) من عام 2011 زمن اندلاع الأحداث الدامية في البلاد.
في هذا المجال جاء العديد من تلك الأنطولوجيات التي حاولت رصد تحولات النص الشعري الجديد، واتهم القائمون عليها بأنهم يعتمدون في اختياراتهم تلك النصوص على "أصدقاء المقعد الدراسي" أو رفاق "الشلة الثقافية أو الحزبية" التي جمعتهم، فيما ذهب البعض إلى تصنيف هذا النوع من الإصدارات كنوع من مجابهة خفية ومستمرة بين شعراء الداخل وشعراء الخارج، وإنهاء عداوات سياسية مستترة عبر ممارسات ثقافية. ولعل أولى هذه الأنطولوجيات تمثلت في المختارات الصادرة عن منشورات "دمشق عاصمة للثقافة العربية" عام 2008، وقد أسهم في إعدادها والإشراف عليها كل من سعد الدين كليب وشوقي بغدادي ومنذر مصري ورشا عمران وخضر الآغا، وقد اتهم هؤلاء وقتها بأنهم اختاروا 63 شاعراً وشاعرة وفق معايير تعود إلى ذائقتهم الشخصية.
ثم جاء كتاب "الشعر السوري المعاصر" الصادر عام 2018 باللغتين العربية والفرنسية عن دار لوكاستور الفرنسية، للشاعر والباحث السوري صالح دياب، كواحد من تلك المختارات التي حاولت الابتعاد عن الاستقطاب السياسي الحاد بحسب القائمين عليها، ومثلها صدر عام 2015 عن لقاء "ثلاثاء شعر" أنطولوجيا باللغتين الألمانية والعربية، بعنوان "بورتريه للموت" وترجمها كل من سرجون كرم وسيباستيان هاينه، وضمت هذه الأنطولوجيا تسعة أسماء من شعراء وشاعرات سوريين شباب شكّلوا ما يشبه محترفاً شعرياً مغلقاً وبلا جمهور، على مدى سنوات الحرب السبع الأولى. ووضع خليل صويلح عام 2019 أنطولوجيا بعنوان "متحف الأنقاض- نصوص الحرب والعزلة" (دار نينوى - دمشق). وفيه حاول الكاتب السوري الإطلالة على نص مغاير وبعيد من التبعية الفنية، والخروج من تحت وصاية المؤسسات الرسمية وسطوة الرقابة المسبقة على النصوص.
الشاعرة مرام مصري حققت هي الأُخرى عام 2017 كتابها "الحب في زمن الحرب- أنطولوجيا الشعراء السوريين بين الأمس واليوم" (دار الفراشة)، وتوخت الشاعرة السورية المقيمة في باريس منذ ثلاثين عاماً، أن تلتقط ثنائية الحب والحرب في بلادها عبر نصوص كتبت للتو على حواف المقابر الجماعية. وكانت مصري قدمت عام 2012 أنطولوجيا مترجمة إلى الفرنسية بعنوان "شاعرات من العالم العربي" واختارت نصوصاً لـ 56 شاعرة من مختلف البلدان العربية، وحاولت أن تجري مقاربات بين أجيال مختلفة لشاعرات غير مكرّسات في المشهد الشعري العربي المعاصر.
زحام وتنافس في عالم الأنطولوجيات الشعرية السورية لم يهدأا ولا يمكن إحصاء كل الإصدارت في هذه العجالة، إلا أن ما يسوق هذا الحديث الآن هو تحقيق الشاعرة والناقدة رولا حسن حديثاً أنطولوجيا مختلفة، تضم قصائد لـ26 شاعرة سورية، وجاءت بعنوان "الموجة الجديدة في الشعر السوري- نص طازج وحساسية مختلفة" (دار كنعان - دمشق). وفي هذه المختارات تحاول الشاعرة حسن أن تقتفي حساسية جديدة للشعر النسوي في بلادها، وقدمت لذلك بقولها: "نحن هنا أمام شعرية جديدة أخذت تتبلور، ولم يعد بالإمكان أن ندير ظهرنا لها. شعرية من أهم مميزاتها إعادة الاعتبار لشعرية السرد، واعتماد ظواهر سردية جديدة في القصيدة. لعل أهمها الصورة التي تعتمد على حكائية السرد، مما يجعل القصيدة الجديدة مناوئة لاستقرار الأجناس، وثباتها ووضوح حدودها، فنحن هنا أمام الانتقال من شعرية الجملة إلى شعرية النص، فلم تعد اللغة شعرية في ذاتها، بل أصبحت الشعرية مبنية في جسد النص كله".
أسماء جديدة
جاء كتاب "الموجة الجديدة في الشعر السوري" بالتعاون مع صفحة "أيقونات سورية" التي يشرف عليها ويديرها الشاعر أحمد اسكندر سليمان، الذي واكب بدوره تجارب شاعرات هذه الموجة على موقعه الإلكتروني، وشارك في مرات كثيرة في اختيار نصوصهن. حاول الشاعر والفنان المقيم في ألمانيا جاهداً أن يرسخ المنجز الثقافي والفني السوري في مستوياته العالية والتجريبية، من دون الانجرار إلى الانفعال الذي يمكن أن تحدثه ظروف الحرب عموماً. واقترح الكتاب أسماء جديدة على المستوى الشعري يقول عنها اسكندر سليمان: "أرى أنها الأكثر ألقاً في المشهد السوري اليوم، وصفحة "أيقونات سورية" كانت ولا تزال مفتوحة على التجارب الجديدة من دون الالتفات إلى نكران بعض أصحاب التجارب غالباً، بنزعات جهوية تنتجها الحروب الأهلية دوماً وترى فيها نزوعاً شعرياً لا نراه".
تبرز في نصوص الشاعرات السوريات في هذا الكتاب، محاولاتهن لتوظيف عناصر الحداثة الشعرية، كالتورية والتضمين والتناصّ، إضافةً إلى استخدامهن عناصر أُخرى من مثل الاقتباس والسخرية، والأقنعة، والأصوات، والمونولوغ، والحوار، والحبكة، وسوى ذلك، لإنتاج نص موشوري مركّب ومتعدّد الدلالات. تخبرنا رولا حسن أننا في هذه المختارات "أمام شعرية جديدة لا تتحقق إلا في ممارسة التجربة الحية نفسها، وتنطلق من رفض السطوة المرجعية السابقة الوجود على النص، وإخضاعه لحساسية شعرية مختلفة، تفرض في النتيجة نصاً طازجاً وبرياً".
يأتي الجسد هنا كنص مفتوح على الأسئلة عند أريج حسن، وبشرى البشوات، وبسمة شيخو، كما هو لدى خلود شرف، وأفين حمو، وديمة حسون، إذ يمتزج لديهن اليومي بالأسطوري من دون الانزلاق إلى الفجائعي والدرامي، ومن دون أن يذيب خصائصهن كشاعرات في بوتقة واحدة. لكن في الوقت ذاته تشترك كل شاعرة منهن في إعلان قطيعتها مع الذاكرة القديمة، والخلاص من التركة الثقيلة لقصيدة النثر العربية، وذلك لمصلحة تعزيز القدرة لدى كل واحدة منهن على رؤية العالم واستبطانه ضمن شعر يواجه الوجود بصوت خافت ونبرة هامسة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تتخلى معظم نصوص "الموجة الجديدة" عن سادية تعذيب النفس ونوستالجيا المرض بالرجل الغائب والتهجد له، فتتيح راما وهبة، ورشا حبال، ورماح بوبو، وصبا قاسم، وعبير سليمان المساحة الأكثر خطورة لتجليات النص في المعيش اليومي، والابتعاد عن قصيدة العويل وصياغة شعر يقترب من صيغ الشعر المرسل والإنشادي من دون الوقوع في مطب النص التراجيدي الغنائي، بل بالتعويل على مناخات نفسية مركبة ترسمها القصيدة عبر "حفيف لغوي"، ووفق مقطوعات تقارب سونيتات تأتي على هيئة مناجاة شعرية ساخرة من الموت والقتل العبثي والخراب الذي تركته الحرب في النفوس.
تعكس نصوص عبير نصر، وليزا خضر، ومنار شلهوب، ومناهل السهوي، وميس الريم قرفول، شعرية أنيقة ومحايدة تقتفي الشاعرات من خلالها قيمة الأثر الذي يبقى من تنويعه اللافت على الحياة بوصفها المادة الأصلية لتزاوج الكلمات والأشياء، وتعزز التجربة كنبع للإلهام، ولقراءة العالم عبر سراديب الذات. قراءة تعتبر الشعر مادة جوهرية لصياغة العالم من جديد، فتتخلص عبرها من تكرار محفوظات عيشها الواقعي، نحو تخييلٍ يرفعها من قيعان العادي إلى براح المخيلة، ومن صلادة المرايا وأحاديتها إلى غابات من رموز ودلالات. هكذا تزدهر مناجياتٌ شفافة أمام الشاعرة السورية، فتؤلف بين أسئلتها الوجودية واحتجاجها الخافت على البشاعة اليومية.
تقتبس الأنا الشعرية معجمها الخاص عند راما عرفات، وشروق حمود، ونورا علي، وشذا خليل، ونصيرة عيسى، من متاهات العولمة الرقمية، فتضع كل واحدة منهن القصيدة كمعادل موضوعي للوجود، فيما لا يعود الشعر كتقنية للتفكير بالصور، بقدر محاولة كل شاعرة منهن الوصول إلى لذة النص وجسديته. وهذا لا يتحقق عبر الاستنساخ اللفظي لمفردات تم حرثها واجترارها في قصيدة النثر، بل عبر تخطي التجريب الشكلي والابتعاد عن الأصوات المستعارة.
من هنا يمكن ملاحظة الجرأة الفنية في أشعار كل من نور نصرة، ومريم الأحمد، وفاطما خضر، وسوسن الغزالي ونسرين الخوري، والجرأة هنا ليست جرأة اجتماعية على العادات والتقاليد والمسكوت عنه، ولا هي من باب الاستعراض والافتعال وتكلف الصدق الفني، بل هي جرأة تهدف إلى تهديم الراسخ في العقل العربي إزاء شعر النساء، وما يمكن إلحاقه بهذا الشعر من اتهامات وانتقاص يطاول النوع الاجتماعي. بل هي جرأة في خلخلة السائد والموروث والمتعارف عليه في الكتابة الشعرية العربية، وما كرسته هذه الكتابة من تقاليد إيقاعية وتفاعيل وأوزان وموسيقى، نحو الانتصار للشعر بعيداً من سلطة المفاهيم، ووصولاً لما أسماه شاعر المكسيك أوكتافيو باث (1914-1998): "قصيدة الصمت" أو "القصيدة كبنية شفهية منتجة للصمت".