Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدين والديمقراطية وجهان لعملتين مختلفتين

العلاقة بينهما تعد الأكثر التباساً على وجه الأرض وتتأثر بأحوال الشعوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية

مؤشرات الديمقراطية كثيرة وسبل قياسها عديدة وخرائط تصنيفها لا أول لها أو آخر  (رويترز)

ملخص

 تقف دول، بحسب درجة تبنيها لدين رسمي أو غالبية، أمام الديمقراطية موقف المضطر إلى تعديلها و"قصقصة ريشها" لتوائم منظومتهما، وهو ما تعمل عليها أيضاً جماعات الإسلام السياسي.

بين الدين والديمقراطية بضع سنتيمترات قليلة وربما هما متلاصقان، وفي قول آخر بينهما هوة عميقة حيث لا يلتقيان ولو حتى مصادفة، فهل تتعارض الديمقراطية مع الدين؟

على رغم من أنه يبدو سؤالاً فلسفياً لا علاقة له بأرض الواقع، لكنه في حقيقة الأمر يتعلق بكثير من تفاصيل الحياة، ولا سيما في الدول التي  لا تزال تصارع من أجل الإمساك بعصا الديمقراطية والدين من المنتصف.

دول عدة أعلنت نفسها "ديمقراطية" أو تعتبر نفسها كذلك من دون شرط الإشهار، أو تكتفي بمادة أو اثنتين في دستورها أو نص أو نصين في قوانينها، أو تضع كلمة "الديمقراطية" ضمن اسمها، وأخرى تنبذها من ألفها إلى يائها.

مؤشرات الديمقراطية

مؤشرات الديمقراطية كثيرة وسبل قياسها عدة وخرائط تصنيفها لا أول لها أو آخر، وبحسب استطلاع مؤسسة "بيو" للبحوث (2019) فإنه وعلى رغم القلق المتزايد حول مستقبل الديمقراطية وتصاعد عدم الرضا في كثير من الدول حول كيفية عملها في الممارسة العملية، إلا أن القياسات أكدت أن الدعم الشعبي لها يظل قوياً وأن الدول المصنفة بها كثيرة.

اعتباراً من نهاية عام 2017 كانت 96 دولة من بين 167 دولة شملها القياس ديمقراطية بشكل ما، و21 دولة فقط "استبدادية"، وجمعت 46 دولة بين عناصر من الديمقراطية والاستبدادية، وظلت الدول الأربع الباقية "غير مصنفة".

اتبع التصنيف نظام "بوليتي" المستخدم لقياس الديمقراطية والذي يعتمد على تحليل وقياس عدد من العوامل، مثل سبل الوصول إلى السلطة وطريقة استخدامها ومدى الشفافية في المشاركة السياسية وحجم القيود المفروضة عليها وغيرها من عوامل القياس.

وبحسب مؤشر آخر تنجزه وحدة الاستخبارات الاقتصادية في مجموعة "إيكونوميست" البريطانية، فقد طرأ تراجع مثير للقلق في حال الديمقراطية العالمية (2024)، وكان التراجع الأكبر من نصيب دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي سجلت تراجعاً غير مسبوق، وجاءت غالبية الدول العربية في ذيل القائمة إذ لم يصنف المؤشر أية دولة عربية "ديمقراطية".

الدين غائب

وسواء ازدهرت الديمقراطية بحسب المؤشر الأول أو اندثرت وفق الأخير، يظل عامل الدين كقوة محركة أو مناهضة أو داعمة أو محاربة للديمقراطية غائباً عن عوامل وأدوات القياس، وإن ظل عامل ضلوع الدين أداة من أدوات الحكم أو مصدراً للتشريع أو فقرة في الدستور غائباً عن قياسات الديمقراطية وسبل تقييمها.

ولسبب ما تدور غالبية محاولات الإجابة عن سؤال "هل تتعارض الديمقراطية مع الدين؟" حول الإسلام بشكل طاغ، وهو ما يفسره الدبلوماسي والمفكر الأردني حسن أبو نعمة في ورقة عنوانها "معضلة التعارض بين الدين والديمقراطية" بالقول، "عند الحديث عن التعارض بين الدين والديمقراطية يقفز إلى الذهن أن هذا التعارض يتجلى بصورة أبرز بين الإسلام والديمقراطية، والحقيقة أن المسألة لا تتعلق بالدين الإسلامي فقط بل إن لها أبعاداً أشمل من ذلك، ولعل من أهم أسباب التركيز على الإسلام بصورة محددة هو أن الفصل بين الدين والدولة لم يتقدم في المجتمعات الإسلامية بالقدر الذي وصل إليه كثير من بلدان العالم الأخرى".

دول اختارت الديمقراطية

وبمعنى آخر فإن نسبة كبيرة من الدول التي فصلت بين الدين والدولة عرفت طريقها أو اختارت الديمقراطية، وبحسب مسح أجرته مؤسسة "بيو" للبحوث (2017) حول علاقة الدول بالدين فقد وجدت أن 106 دول من بين 199 ليس لديها دين رسمي أو مفضل، بنسبة 53 في المئة من دول العالم، و43 دولة لها دين رسمي بنسبة 22 في المئة من الدول، و40 دولة لها دين مفضل بنسبة 20 في المئة، و10 دول تتخذ مواقف معادية من الدين بنسبة خمسة في المئة من دول العالم.

ويظل الإسلام دين الدولة الأكثر شيوعاً، ومبدأ "الدين الرسمي" للدولة أكثر انتشاراً في منطقة الشرق الأوسط، وهناك أسئلة كثيرة توجه إلى رجال الدين حول موقف الإسلام من الديمقراطية وهل هي حرام أم حلال؟ لتأتي الإجابات متفاوتة وأيضاً متناقضة.

 

يقول رأي ديني منتشر على نطاق واسع إن الديمقراطية نظام مخالف للإسلام لأنه يجعل سلطة التشريع للشعب أو من ينوب عنه، مثل أعضاء البرلمان، وهذا يعني أن الحكم يكون لغير الله تعالى.

وبحسب هذا الرأي يكون الحكم للشعب ونوابه، والعبرة ليست بإجماعهم بالأكثرية، ويصبح اتفاق الغالبية قوانين ملزمة للأمة ولو كانت مخالفة للدين، ويذهب هذا الرأي إلى القول إن نظام الديمقراطية يحارب الإسلام والمتمسكين به.

الحرية المرفوضة

وينفي هذا الرأي الظن بأن الديمقراطية تعني الحرية بالمعنى الإيجابي للكلمة، إذ هي "أحد إفرازات الديمقراطية التي تعني حرية الاعتقاد والتفسخ في الأخلاق وحرية إبداء الرأي، وهذه أيضاً لها مفاسد كثيرة على المجتمعات الإسلامية، ووصل الأمر إلى الطعن في الرسل والقرآن والصحابة بحجة حرية الرأي، وسمح بالتبرج والسفور ونشر الصور والأفلام الهابطة، وكلها تسهم في إفساد الأمة خلقياً ودينياً".

وهناك رأي إسلامي ينظر إليه بأنه الأكثر وسطية، إذ إنه صادر عن الأزهر، فبحسب ما صدر عن "مرصد الأزهر" تحت عنوان "حكم الديمقراطية في الإسلام" فإن الديمقراطية بمعنى حكم الأكثرية من طريق صناديق الاقتراع، وهو ما يسمى بالتصويت الانتخابي، تتفق مع الشريعة الإسلامية، أما إذا ارتضت الغالبية سن قوانين تخالف الشريعة الإسلامية مثل إباحة الزنا وشرب الخمور وزواج المثليين وإجهاض الفتيات وغيرها من الأشياء التي حرمها وجرمها الإسلام، كما يحدث في الدول الغربية باسم الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان، فهو أمر يرفضه الإسلام ولا يمكن أن يقبله المجتمع الإسلامي.

وأشار المرصد إلى أن لفظ الديمقراطية مصطلح دخيل على الثقافة الإسلامية، وعلى رغم أنه يعني وصول الأكثرية إلى الحكم من طريق التصويت الانتخابي إلا أنه يعني اختيار الحاكم وسن القوانين والتشريعات التي ترضاها الغالبية من دون اعتبار لدين أو أخلاق، فهي نظام سياسي اجتماعي يقوم بفصل الدين عن الدولة.

ذعر "فصل الدين عن الدولة"

وتثير عبارة "فصل الدين عن الدولة" ذعر بعضهم وحفيظة الآخر، وتدفع فئة ثالثة إلى الهجوم على سبيل الدفاع عن الدين، على اعتبار أن هذا الفصل يعني القضاء على الدين ومحاربة المتدينين، وغالبية الدول ذات الدين الرسمي أو التي تشير نصوص في دساتيرها أو بنود في قوانينها إلى أن الدين مصدر لتشريعاتها أو قواعدها أو نهجها، تقول إن الديمقراطية لا تتعارض مع الدين طالما لا يسمح لها بالتغول على قواعد الدين وأساساته وما ينص عليه.

 وبمعنى آخر فإن الديمقراطية في الأنظمة السياسية التي تقوم كلية أو يشتق جزء من أسسها من الدين، أي دين، تقوم بتعديل الديمقراطية لتوائم نظامها الخالط بين الدين والدولة أو بين الدين من جهة، والسياسة والسياسات العامة من جهة أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في دراسة عنوانها "حقيقة الديمقراطية والموقف منها" (2012) يشير الأستاذ في كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود إبراهيم طلبة حسين عبدالنبي إلى أن "الجاذبية الشديدة المرتبطة بمصطلح الديمقراطية لمن ارتبط به من جوانب العدل والحرية وضمان الحقوق ومنع الظلم، ولما حققته المجتمعات الغربية من فوائد في ظله".

 ويرى عبدالنبي أنه "مع تأكيد إمكان الاستفادة من بعض الوسائل العلمية الموجودة في الديمقراطية إلا أن ذلك لا يعني القبول بهذا المصطلح وما يحمله من مفاهيم مخالف للدين الإسلامي، وأن الأسلوب الأمثل للتعامل معه، ولا سيما في الحوارات العامة، ألا يرفض كلياً كما لا يقبل كلياً، لكن يستفصل في أمره".

موقف المضطر من الديمقراطية

تقف دول، بحسب درجة تبنيها لدين رسمي أو دين "مفضل" أو دين الغالبية، أمام الديمقراطية موقف المضطر إلى تعديلها و"قصقصة ريشها" لتوائم الدين أو مع مفهومها للدين، وهذه الدول في وقفتها تلك ليست وحدها، بل تقف في الخانة نفسها وليس بالضرورة معها، الجماعات الإسلامية التي تتعاطي السياسة، سواء في مرحلة الطموح للوصول إلى السلطة أو في مرحلة الوصول الفعلي لها، وكثير من هذه الجماعات تجد نفسها بين ثلاثة نيران، نار "الديمقراطية حرام"، ونار الاضطرار إلى مسايرة العصر ومغازلة غير الإسلاميين، ولا سيما في مرحلة ما قبل السلطة، ونار تحريم الخروج على الحاكم أو تحريم التصويت لغير الحاكم أو تحريم محاسبة الحاكم، وذلك في مرحلة ما بعد السلطة.

وبعضهم يصف ذلك بالتعارض بين الإسلام والديمقراطية، لكن أستاذة علم الاجتماع ووزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن آمال موسى تقول في مقالة عنوانها "التوظيف الماكر لفكرة لا تعارض بين الإسلام والديمقراطية" (2014) أن "الإشكال ليس في علاقة الإسلام بالديمقراطية لأنه في نهاية المطاف لا توجد نسخة ديمقراطية واحدة بل هناك ديمقراطيات عدة، ومن ثم يمكن لبلد مسلم أن ينتج ديمقراطيته أيضاً، أي أن المشكل الرئيس الذي تحاول جماعات الإسلام السياسي إخفاءه والقفز عليه يتمثل في منهاج فهم الحركات الإسلامية للإسلام، باعتبار أن منهاج الفهم هو قراءة تأويلية للإسلام، ولا شيء يضمن في الإسلام السياسي التماثل بين منهاج الفهم والإسلام مقاصد وقيماً، وليس من مبالغة القول إن الأزمة تكمن في كيفية تأويل النص الديني الإسلامي، أي أنها أزمة تثار خارج النص وتعمل على إثقال كاهله بتأويل مخصوص جداً، وتحول الدعوة إليه وكأنه تتمة له أو جوهره، ويبدو أن الطابع السلفي الأصولي لمنهاج فهم الإسلام هو الذي يجعل من إسلام تلك الحركات في تعارض مع الديمقراطية".

إسلام المذاهب 

وبين إسلام بعض الحركات المتعارض مع الديمقراطية وإسلام بعضها المتوافق معها وجهة نظر تشير إلى أن كل الحركات الدينية السياسية،  من إسلامية وغيرها، تتناقض بالضرورة مع مبادئ الديمقراطية، فمبادئ الديمقراطية المعترف بها في إعلان وبرنامج عمل فيينا المعتمد أممياً في يونيو (حزيران) عام 1993 تقوم على إرادة الشعب المعبر عنها بحرية لتقرير نظمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ومشاركته التامة في جميع جوانب حياته، أما مبادئ أي من الجماعات الدينية فلا تقوم على ذلك، بل بعضها، إن لم تكن غالبيتها، تقوم على النقيض التام حتى لو كانت ترفع راية "الحكم الديمقراطي".

 

وكتب أستاذ الشريعة إبراهيم طلبة حسين أن "الحكم الديمقراطي يعزل الدين عزلاً كلياً عن شؤون السياسة والحكم، ويستبعد شرائعه عن الدولة استبعاداً تاماً، وهو ما يجعل الديمقراطية فرع العلمانية اللادينية".

ويتساءل، "هل يرضى الديمقراطيون أن ننفذ أحكام الله المتعلقة بالردة عن الدين والزنا وشرب الخمر والسرقة؟ وهل يوافقون على أن نلزم المرأة بالحجاب ونمنع التبرج والتعري على الشواطئ وفي الشوارع والطرقات، وفي الوقت نفسه نكون ديمقراطيين؟"

لكن هذا بالفعل ما جرى، فقد أظهر كثير من الأنظمة الغربية الديمقراطية قدراً وفيراً من القبول والتأييد والدعم لحركات وجماعات الإسلام السياسي إبان هبوب رياح ما يسمى بـ "الربيع العربي"، باعتبارها فصائل سياسية وطنية ينبغي أن تكون جزءاً لا يتجزأ من عمليات التحول الديمقراطي.

تمكين الإسلاميين

مستشار "مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية" جمال عبدالجواد رأى تساهلاً كبيراً أبداه الغربيون في ما يتعلق بشروط تمكين الإسلاميين، وتسامحاً مع كثير من الخصائص التي وصفها بـ "العنصرية والاستبدادية والفاشية في أفكارهم وتنظيمهم".

وتطرق عبدالجواد في دراسته "الإخوان والغرب: سقوط المراهنة على الإسلام الديمقراطي" إلى أن الغربيين لم يطلبوا كثيراً ممن اعتبروهم "إسلاميين معتدلين" (جماعة الإخوان المسلمين)، وكان يكفيهم أن يروا هؤلاء وقد قبلوا بالمكون الإجرائي في الديمقراطية، أي في الانتخابات.

وأضاف أنه لم يكن خافياً على الغربيين المعنيين بشؤون المنطقة العربية أن أيديولوجيات "الإخوان" تتعارض مع الديمقراطية ومبادئ الحرية، وأن أي إصلاح مهم لن يتم إدخاله على العقيدة الإخوانية، وأن كل ما تم لا يزيد على القبول بقواعد الأقلية والغالبية التي تعمل وفقاً لها النظم الانتخابية.

الاعتدال يغري بمزيد منه

ويقول إنه مع هذا فقد قبل الغربيون بالدفع في اتجاه تمكين الإسلاميين سياسياً، ممنين أنفسهم بأن الاعتدال يغري بمزيد من الاعتدال، وطور أكاديميون ومثقفون غربيون نظرية مفادها أن دمج الإسلاميين في السياسة يشجعهم على الاعتدال فيم استبعادهم منها يدفعهم نحو التطرف، وشجع الغربيون، بحسب ما يشير عبدالجواد، على القبول بهذه المخاطرة، كما لعب كتاب ومثقفون ونشطاء سياسيون وحقوقيون من أبناء الشرق الأوسط دوراً في الترويج لفرضية الأثر الاعتدالي للديمقراطية على الإخوان.

ويرصد الباحث في الأهرام أنه "بدا هؤلاء (الإخوان) وكأنهم قوى تسعى إلى تحقيق إصلاح ديمقراطي في بلاد المسلمين، وبدا الأمر كما لو كان التشجيع الغربي للبديل الإخواني هو في الوقت نفسه تشجيعاً للبديل الديمقراطي في بلاد المسلمين، في ظل رواج لنظرية تقول بأنه لا مكان لنظام ديمقراطي حقيقي في بلاد المسلمين، من دون أن يكون الإسلاميون جزءاً منه".

 

واعتمد هذا الاتجاه على نظرية مفادها أن الإخوان وجماعات الإسلام السياسي ليست جماعات جامدة غير قابلة للتغير وأن دمجها في نظم سياسية ديمقراطية سيساعدها في الأخذ بمزيد من الاعتدال، والتركيز على السياسة بدلاً من الدين".

يتابع، "وضعت تطورات حقبة ثورات 2011 العربية الأفكار الغربية في شأن ’الإخوان‘ موضع الاختبار الذي أسفر عن فشل الفكرة والاعتقاد، كما لم ينجح ’الإخوان‘ في تخطي اعتبار أنفسهم جزءاً من الشعوب، وليس فصيلاً منفصلاً عنها، والتي هي من أبجديات الديمقراطية".

تماثل وتمايز

أما الكاتب والباحث في علم الاجتماعي السياسي عمار علي حسن فيشير إلى مبدأ التماثل أو التمايز الذي تتبعه هذه الجماعات، وعلى رأسها جماعة "الإخوان المسلمين"، ويتحدث حسن في مقالة عنوانها "الجماعات السياسية الدينية والمجتمع: قضية التماثل والتمايز" عن فكرة "العزلة الشعورية التي نادى به سيد قطب، أهم المنظرين في تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" و"السلفية الجهادية"، وتقوم على أن يخالط عضو الجماعة كل من حوله جسداً ويحاورهم ويناورهم ويداورهم ويشاطرهم الغنم والغرم ويبش في وجوههم، لكنه يحرص على أن تبقى مشاعره مجافية لهم قانطة منهم غير راضية عما يعتقدون فيه ويفعلون، لأنهم في نظره يعيشون في "جاهلية جديدة". كما اعتبر قطب ومن آمنوا بأفكاره أن مثل هذا "الانفصال" ضروري كي تبقى نفس "الإخواني" مخلصة للجماعة وتصوراتها التي يزعم أنها تمثل الإسلام الحقيقي.

ويظل "الإسلام الحقيقي" محل نزاع بين غالبية جماعات الإسلام السياسي وبعضها بعضاً من جهة، وكذلك بينها وبين غير التابعين لهذه الجماعات من جهة أخرى، وهي في خضم كل هذه النزاعات تضطر إلى التعامل وتواجه الديمقراطية، سواء بقبول أجزاء منها لحين إشعار آخر أو بنبذها كلية، ولكن من دون إعلان ذلك، ولا سيما لو كانت قد وصلت إلى سدة الحكم في دولة ما، كما يتعين عليها مراعاة قواعد التعامل مع مجتمع دولي تهيمن عليه دول "ديموقراطية" تعتقد بوجوب نشر الديمقراطية في جميع أنحاء العالم.

الدين أم الديمقراطية؟

يلوح بعض الخبثاء إلى صلة ما تجمع بين الأديان، أو بالأحرى تفسيرات بعضهم للأديان، ولا سيما حين يكون هذا الـ "بعض" جماعة دين سياسي ذات شأن أو نظاماً سياسياً دينياً وصل إلى الحكم، وبين الأنظمة المناهضة للديمقراطية، وهؤلاء يرون أن تفسيرات الأديان تعتنق التعصب والرفض تجاه أية وجهات نظر أو أفكار بديلة، كما تعمل على إبقاء أتباعها في قبضتها فيكونون نماذج للطاعة والامتثال للسلطة، وفي ذلك تناقض كبير مع الديمقراطية.

أستاذتا علم الاجتماع في "جامعة بوسطن" الأميركية و"جامعة إكستر" البريطانية نانسي أمرمان وغاريس دافي أشارتا في مقالة منشوةر في "ذو كونفرسيشين" (2018) بعنوان "هل الدين سيء للديمقراطية؟" إلى عالم الاجتماع السياسي الأميركي سيمور مارتن ليبست الذي قال إن الديمقراطية تتطلب نظاماً سياسياً يستوعب التنافس بين الأفكار، بينما الكنسية الكاثوليكية تدعي أنها وحدها من يملك الحقيقة.

وعلى رغم ذلك تشير المؤلفتان إلى أن تضمين الدين في سبل حكم الدول يعني الاهتمام بما يفعله المتدينون وكيفية تنظيم أنفسهم وليس فقط أفكارهم وعقائدهم، كما تركزان على أهمية الانتباه إلى الدور الذي تلعبه الجماعات الدينية في تمكين أو منع ظهور الأنظمة السياسية الديموقراطية، منوهتين إلى أنه حيثما يوجد حضور حيوي للمنظمات الدينية فيتوقع أن تكون مهمة في أي جهد لتحقيق الديموقراطية، وأي جهد لتحقيق الديمقراطية سيصطدم على الأرجح بتأويلات جماعات الإسلام السياسي والأنظمة التي تعتنق الدستور وديناً بعينه، باعتباره عقيدة الدولة والحكم. وتقول آمال موسى في مقالتها إنه "من المهم تحويل الوجهة وتجاوز ما يريد الإسلام السياسي جرّنا إليه من جدل فضفاض وماكر حول علاقة الإسلام بالديمقراطية، وإلى جانب التعارض الأيديولوجي للإسلام السياسي مع الديمقراطية فإن هناك معطى تاريخياً مهماً يتمثل في عداء هذه الجماعات في بداياتها العفوية غير المسيسة الأولى للديمقراطية واعتبارها كفراً".

إنها أكثر علاقات الأرض التباساً وأكثرها تأثراً بأحوال الشعوب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، حيث الدين عقيدة مقدسة قائمة على التسليم والطاعة ومهرب وملاذ آمن، أما الديمقراطية فابتكار من صنع الإنسان وقائم على المساءلة والمحاسبة، ومهرب من الجمود وملاذ آمن من الديكتاتورية، فهل يختلط هذا بذاك؟

وهناك شكل من أشكال الاختلاط وإن كان يثير قدراً من الانتقاد والتشكيك وهو "الديمقراطية الدينية"، إذ تنعكس قواعد دين معين على شكل الحكومة، وينطبق مسمى "الديمقراطية الدينية" على كل الدول التي أُدمج فيها الدين مع نظام الحكم.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات