ملخص
استبدلت الدول الأفريقية القوات الفرنسية بالقوات الروسية فيما يدور حديث عن "فيلق روسي - أفريقي" تقوم موسكو الآن بتأسيسه على أنقاض "فاغنر"
بعد إجبارها على سحب قواتها من دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهي دول شهدت انقلابات عسكرية أفرزت حكاماً معادين لباريس، تجد فرنسا نفسها أمام معركة بقاء في القارة الأفريقية بعد عقود من التدخل العسكري الذي لم يفلح في كبح الجماعات المسلحة سواء المتمردة أم المتطرفة.
راهناً ثارت التساؤلات حول مستقبل الحضور الفرنسي العسكري وخريطة هذا الحضور، إثر تلميح رئيس الوزراء السنغالي عثمان سونكو إلى إمكان غلق بلاده لقواعد عسكرية يوجد فيها الفرنسيون، فماذا بقي للفرنسيين في القارة السمراء؟
وما أجج التساؤلات تعهد الرئيس إيمانويل ماكرون بتقليص القوات الفرنسية الموجودة في القارة إلى النصف تقريباً، ودعوته الفرنسيين في وقت سابق إلى "التواضع" تجاه أفريقيا.
10 آلاف جندي
وتدفع مشاعر المعاداة التي تبديها الشعوب الأفريقية والحكام الجدد إلى التساؤل بالفعل عما يخفيه المستقبل لفرنسا، خصوصاً أن الخطاب السيادي هو الذي يسود هذه البلدان على غرار النيجر التي قررت طرد القوات الفرنسية في مرحلة أولى ثم الأميركية، مما يؤشر إلى حقبة قد تكون خالية من النفوذ الغربي في القارة.
وأطلقت فرنسا في العقود الأخيرة عدداً من العمليات العسكرية على غرار عملية "برخان" عام 2014، التي كان الهدف منها تقليم أظافر الجماعات المسلحة سواء تلك المتمردة أم الإرهابية، لكن الإخفاقات المتتالية لهذه العمليات زادت من غضب الأفارقة تجاه باريس.
وتقدر السلطات الفرنسية عدد قواتها المنتشرة في أفريقيا بنحو 9 آلاف معظمهم يتمركزون في تشاد التي تفتح أبوابها لـ3 آلاف جندي منذ أعوام، وآخرين نقلوا من النيجر إليها في أعقاب انقلاب الـ26 من يوليو (تموز) 2023 الذي أطاح بالرئيس النيجري محمد بازوم الذي كان حليفاً موثوقاً به لدى فرنسا.
وتضم كوت ديفوار نحو ألف جندي فرنسي يدعمون الرئيس الحسن واتارا منذ عام 2015 باستشارات وصور بالأقمار الاصطناعية وغيرهما، أما الغابون فينتشر فيها منذ استقلالها عام 1960 تقريباً 350 جندياً.
في المقابل تستضيف السنغال، البلد الواقع في غرب أفريقيا، نحو 500 جندي فرنسي، وتحتفظ باريس هناك بقاعدة لوجستية كانت تستغلها بشكل رئيس لجمع معلومات استخبارية عن الأنشطة المعادية لمصالحها في المنطقة.
أما جيبوتي فتستضيف هي الأخرى على أراضيها نحو 1500 جندي فرنسي منذ عام 2011، إذ يحاول هؤلاء تأمين الممرات البحرية ودعم العمليات التي تقودها بلادهم في المنطقة، مستفيدين من تركيز أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في القارة.
وتنشر فرنسا جنوداً يقدرون بالعشرات في قاعدة بوانت نوار في جمهورية الكونغو الديمقراطية، والهدف من وجودهم دعم العمليات التي تقودها بلادهم في منطقة أفريقيا الوسطى.
7 عمليات عسكرية
وعلى مستوى العمليات العسكرية فإن فرنسا اضطرت إلى إطلاق سبع عمليات في الأقل منذ عام 1986، نشرت خلالها هذه القوات في مسعى إلى تأمين مصالحها في مستعمراتها السابقة.
وتبقى أبرز عملية أطلقتها فرنسا هي "برخان" التي شملت خمس دول في الساحل الأفريقي هي: مالي وبوركينافاسو والنيجر وتشاد وموريتانيا، وارتكزت هذه العملية على منطق "الشراكة"، غير أن كثيرين باتوا يرون فيها وجهاً آخر من أوجه الاستغلال الذي تقوم به باريس تجاه القارة التي تسبح فوق ثروات هائلة.
ووزعت فرنسا قواتها التي تقدر بـ4500 في هذه العملية على ثلاث قواعد متقدمة وموقتة، وثلاث نقاط دعم دائمة ومواقع أخرى، كما دفعت بنحو 20 طائرة هليكوبتر و200 مركبة لوجستية و200 مدرعة وست طائرات مقاتلة وثلاث طائرات مسيرة.
وعلى رغم هذا الثقل العسكري القوي لم تنجح فرنسا في تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة يمكن الترويج من خلالها لفعالية حضورها في منطقة باتت ملاذاً للجماعات الإرهابية مثل تنظيم "القاعدة فرع غرب أفريقيا" وتنظيم "داعش"، وهي من بين تنظيمات تلقت ضربات قاسية في مناطق أخرى مثل العراق وسوريا وغيرهما.
ومن أبرز العمليات الأخرى التي أطلقتها فرنسا نجد عملية "سانغاريس" التي أعلنها الرئيس فرنسوا هولاند، بعد اندلاع أزمة طائفية وضعت جمهورية أفريقيا الوسطى أمام شبح الانهيار.
وأطلقت هذه العملية لاستبدال عملية بوالي التي أطلقتها الأمم المتحدة وتضم قوات دولية لحفظ السلام، مما يعني أن القوات الفرنسية كان موكلاً لها حماية المدنيين من أعمال العنف التي هزت البلاد في 2013.
وبحسب القرار الأممي الذي أقر التدخل العسكري الفرنسي في جمهورية أفريقيا الوسطى، فإن القوات الفرنسية ستسعى من خلال عملياتها إلى استعادة الأمن والنظام وتحقيق الاستقرار في البلاد واستعادة سلطة الدولة على كامل أراضيها، علاوة على تهيئة الظروف الملائمة لتقديم المساعدات الإنسانية للمحتاجين.
ونجحت فرنسا بالفعل في القضاء على بعض القيادات الوازنة في التنظيمات الإرهابية على غرار عدنان أبو وليد الصحراوي، زعيم "داعش" في الصحراء الكبرى الذي قتلته باريس في ضربة نوعية في الـ15 من سبتمبر (أيلول) 2021.
ومع ذلك يبقى هذا نجاحاً نادراً للقوات الفرنسية، إذ حافظ عدد من الجماعات المتطرفة على قوتها، بل زادت من تقوية شوكتها على غرار جماعة "نصرة الإسلام والمسلمين" في مالي، التي لا تزال تشن هجمات ضارية على الجيش، شأنها شأن جماعة "بوكو حرام" التي لا تزال تملك قوة ضاربة تمكنها من القيام بهجمات دموية في بحيرة تشاد وغيرها من المواقع، متحدية القوات الدولية سواء فرنسية أم غيرها في المنطقة.
مسألة وقت واستراتيجية
ومع تعهد ماكرون بخفض الحضور العسكري الفرنسي، تطرح تساؤلات حول الآلية والمخرج الذي ستجده باريس لإتمام ذلك، أم إنها ستجبر عليه في استنساخ لسيناريو مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى؟
وفتحت دول أفريقية عدة أحضانها للدب الروسي الذي نجح في تثبيت أقدامه في منطقة الساحل الأفريقي، إذ استعانت مالي وبوركينا فاسو بعناصر من مجموعة "فاغنر" شبه العسكرية، فيما ذهبت النيجر إلى أبعد من ذلك من خلال استقدام مستشارين ومدربين عسكريين روس، في وقت تواجه فيه المنطقة فوضى أمنية غير مسبوقة.
وقال الخبير العسكري إيريك توبونا إنه "مع مرور الوقت أعتقد أن كل الدول الأفريقية التي توجد على أراضيها قوات فرنسية ستطالب بمغادرتها، إنها مسألة وقت وأسلوب واستراتيجية".
وأوضح توبونا في تصريح لـ"اندبندنت عربية" أن "الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا يتعرض للخطر بشكل متزايد لأن عدداً من البلدان الأفريقية لم تعد ترغب في هذا الوجود العسكري، لقد تأكدت هذه الدول أن الوجود العسكري الفرنسي الذي كان بناء على اتفاقات التعاون الدفاعي والعسكري الموقعة منذ الستينيات بعد الاستقلال غير مجد لها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ورأى أنه "لكي يختفي هذا الوجود تماماً سيكون من الضروري تعديل كل هذه النصوص القانونية التي تحكم وجود الجنود الفرنسيين في أفريقيا، وشاهدنا ذلك في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، إذ طالب زعماء هذه الدول علناً برحيل الجنود الفرنسيين".
واستنتج توبونا "لقد غادروا تماماً كما طلب من الأميركيين مغادرة النيجر، وتكافح دول أخرى من أجل إعادة التفاوض في شأن اتفاقات التعاون العسكري هذه، وأبرزها تشاد التي تدرس كيفية تعديل الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا".
وتصاعدت مشاعر العداء في الأعوام الماضية للحضور العسكري الفرنسي مع تعثر باريس في تحقيق نتائج ملموسة في مواجهة الجماعات المسلحة، التي ظلت تشن هجمات دموية في دول مثل مالي والنيجر وتشاد.
وشكل مقتل الرئيس التشادي إدريس ديبي في أبريل (نيسان) 2021 على الجبهة عندما كان يقاتل المتمردين الذين كانوا يحاصرون العاصمة إنجامينا تطوراً حاسماً بالفعل، إذ كان ديبي رجل فرنسا في المنطقة، ومع ذلك كانت نهايته غامضة على جبهة القتال.
طرحت تلك النهاية المأسوية كثيراً من التساؤلات حول جدوى وجود القوات الفرنسية.
ومع تراجع شعبية فرنسا في المنطقة لا يتردد الرئيس إيمانويل ماكرون في إرسال إشارات عن ترتيبات في شأن سياسة باريس في المرحلة المقبلة في القارة السمراء، التي تئن ليس فقط تحت وطأة الأزمات الأمنية بل أيضاً تحت الفقر والمجاعات.
وفي وقت سابق قال ماكرون إن "عصر أفريقيا الفرنسية انتهى"، لافتاً إلى أن "فرنسا أصبحت محاوراً محايداً في القارة الأفريقية تتحدث مع الجميع"، مما يعني تحولاً مهماً في السياسة الرسمية لباريس، ويسود الترقب الآن حول ما سيفرزه ذلك.
دور روسي
واستبدلت الدول الأفريقية القوات الفرنسية بالقوات الروسية سواء مجموعة "فاغنر" شبه العسكرية أم الخاصة، فيما يدور حديث عن "فيلق روسي - أفريقي" تقوم موسكو الآن بتأسيسه على أنقاض "فاغنر".
ومن غير الواضح ما إذا كانت ستنجح روسيا في إخلاء القارة السمراء من أي حضور فرنسي، خصوصاً أن باريس تستخدم أدوات أخرى مثل "الفرنكفونية" التي تعد سلاحاً ثقافياً بيدها على رغم تراجعه هو الآخر.
وتكمن أهمية أفريقيا لدى باريس وموسكو كونها ورقة يمكن الضغط بها في مواقع أخرى مثل أوكرانيا، حيث تشن روسيا حرباً منذ الـ24 من فبراير (شباط) 2022.
وقال الخبير العسكري عادل عبدالكافي إن "الوجود الفرنسي في أفريقيا يتقلص باستمرار بعد طرد دول مالي والنيجر وبوركينا فاسو وجمهورية أفريقيا الوسطى للقوات الفرنسية عن أراضيها، بعد ما تحرك الشارع داخل هذه الدول مطالباً برحيل المستعمر الذي كان ينظر إليه على أنه بصدد نهب ثروات تلك الشعوب".
واعتبر عبدالكافي في تصريحه أن "الوجود الروسي المكثف وتدخله عبر فاغنر في النيجر ومالي وبوركينافاسو وأفريقيا الوسطى والسودان أثر في الوجود الفرنسي وقلص دورهم، وطرد عدد كبير من القوات الفرنسية والأميركية من هذه الدول".
ويطرح تمدد الغضب الشعبي والرسمي من الحضور العسكري في دول أفريقية علامات استفهام حول ما إذا كان سيطاول دولاً أخرى كانت بالأمس القريبة حليفة لباريس مثل تشاد.
وقال عادل عبدالكافي إن "القاعدة العسكرية 101 التي كانت في النيجر تتمركز فيها القوات الأميركية وهي القريبة والمحاذية لأغاديز، دخلتها عناصر الفيلق الروسي - الأفريقي، لذلك فإن الوجود الكثيف لموسكو وحجم المعدات التي يدفع بها من الحكومة الروسية زادا من تحجيم النفوذ الفرنسي والأميركي".
وشدد المتحدث على أن "الاستراتيجية الروسية للسيطرة في أفريقيا ما زالت حاضرة والدور القادم أعتقد سيكون على تشاد والسودان، ومع ذلك ما زالت تسعى الولايات المتحدة الأميركية والأوروبيون إلى استعادة نفوذهم، لكن كثافة الحضور الروسي وحجم الأسلحة التي يدفع بها من دول محيطة يصعبان ذلك".
وفي ظل ترتيبات وتحركات تقوم بها واشنطن وحلفاء آخرون لها في أفريقيا، فإنه من غير الواضح ما إذا كانت القارة بالفعل بصدد طي صفحة الحضور العسكري الفرنسي فيها، وتدشين حقبة جديدة قد تكون لروسيا فيها اليد الطولى.