Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الحرب تعيد سكان دارفور لعصر التجارة "البكماء"

تآكل القدرة على الصمود مع كل يوم من العنف بسبب الشح المتنامي في السلع الغذائية والارتفاع الجنوني لأسعارها

انعدام السيولة يضاعف مواجع المدنيين في دارفور ويدفعهم إلى مقايضة السلع (اندبندنت عربية – حسن حامد)

 

ملخص

يلجأ المواطنون إلى مبادلة البضائع والسلع ومقايضتها بأخرى، أو ما عرف في عصور غابرة بالتجارة "البكماء" أو "الصامتة" التي سبقت اختراع العملة

في كل يوم جديد تطبق الحرب في السودان خناقها أكثر على المدنيين في دارفور، فإضافة إلى التهديد الخطر لحياة المدنيين نتيجة المعارك اليومية المتواصلة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" في صراعهم على مدينة الفاشر عاصمة دارفور التاريخية، تعيش كثير من مناطق الإقليم كابوساً جديداً بسبب الشح المتنامي في السلع الغذائية والارتفاع الجنوني في أسعارها إلى جانب شح السيولة النقدية وانحسار المتداول منها ليزيد الطين بلة، مما دفع المواطنين للجوء إلى مبادلة السلع والبضائع ومقايضتها بسلع أخرى، أو ما عرف في عصور غابرة بالتجارة "البكماء" أو "الصامتة" التي سبقت اختراع العملة.

مقايضة وإسقاط جوي

وعلى إثر تخلي القوات المشتركة للحركات المسلحة عن الحياد وانضمامها إلى القتال بجانب الجيش، ومنذ العاشر من مايو (أيار) الماضي تفجرت بينها وقوات "الدعم السريع" معارك ضارية في محيط مدينة الفاشر، عاصمة الإقليم، وولاية شمال دارفور المدينة الوحيدة التي لا يزال يسيطر عليها الجيش بعد سقوط أربع من عواصم ولايات الإقليم الخمس في يد "الدعم السريع".

واضطرت السلطات السودانية أمس الإثنين إلى إسقاط 20 طناً من الأدوية جواً إلى مدينة الفاشر وفرها الصندوق القومي للإمدادات الطبية، تشمل محاليل وريدية ومستهلكات طبية وأدوية منقذة للحياة.

وكشف وزير الصحة الاتحادي المكلف هيثم محمد إبراهيم عن جهود لتوفير 30 طناً أخرى من أدوية الملاريا والدرن والإيدز والكلى والسرطان، بالتنسيق بين صندوق الإمدادات ووزارة الصحة في شمال دارفور والجيش.

اختفاء السيولة؟

ونتيجة تواصل القتال والحصار المفروض على المدينة التي تمثل محور الإمداد الغذائي والمركز المالي والاقتصادي لولايات دارفور الأخرى، يعاني مواطنو الإقليم بشدة شحاً كبيراً في السيولة إلى جانب الندرة والارتفاع الجنوني المطرد في أسعار السلع الغذائية، بسبب عدم وصول أي قوافل إنسانية وتجارية إلى المدينة منذ أشهر.

ودفع شح السيولة وضمور الكتلة النقدية في كثير من أسواق ولايات دارفور، ولا سيما تلك التي تقع تحت سيطرة "الدعم السريع"، كثيراً من السكان إلى اللجوء لمقايضة منتجات وسلع زراعية يملكونها ومبادلتها بسلع أخرى، بخاصة المصنعة والمستوردة مثل الزيوت والسكر والشاي وغيرها، بغرض تأمين حاجاتهم منها.

وأفادت مصادر أهلية بأن القيود المصرفية وتحفظات التجار على التعامل مع التحويلات الإلكترونية فاقمت شح السيولة والنقد المتداول، فضلاً عن تحول الكتلة النقدية إلى أيدى التجار في المناطق الحدودية مع دون عودتها مرة أخرى نتيجة توقف الصادرات، إلى جانب تتابع انهيار قيمة العملة الوطنية وانخفاض قيمة الجنيه السوداني وإغلاق سوق المواشي أبوابه، وهو أحد مصادر السيولة، وزاد الارتفاع الجنوني للأسعار الأمر سوءاً بتضاعف حجم السيولة المطلوب لعمليات الشراء.

مقايضة وتبادل

وأوضحت المصادر أن المواطنين يعرضون لدى التجار مبادلة سلع بحوزتهم بأخرى يحتاجونها، ولا سيما المنتجات الزراعية الخام، لعدم توافر النقد اللازم للبيع والشراء وانعدام السيولة النقدية، مما ضاعف العبء على المواطنين وبات من الصعب عليهم الحصول على حاجاتهم الضرورية.

وأعربت منسقة الشؤون الإنسانية بمكتب الأمم المتحدة في السودان كليمنتاين نكويتا سلامي عن حزنها العميق للوضع الإنساني المتفاقم في المدينة واستنفاد العائلات مواردها الشحيحة، وتآكل قدرتها على الصمود مع كل يوم من العنف، إلى جانب الانتهاكات المروعة بحق المدنيين هناك.

ومجدداً تبددت منتصف الأسبوع الماضي لحظات الهدوء الحذر العابر التي عاشتها مدينة الفاشر ليومين متتاليين، وتواصلت دوامة العنف والمعارك الضارية من جديد، إذ دوت وفق شهود عيان انفجارات عنيفة وتصاعدت سحب وأعمدة الدخان وسط قصف ونيران متبادل بين الطرفين جنوب المدينة وشرقها.

وفيما بثت قوات "الدعم السريع" مقاطع فيديو عبر منصة "إكس" تؤكد فيها بسط سيطرتها على أجزاء من أحياء جنوب الفاشر، أكدت مصادر عسكرية تصدي الجيش والقوة المشتركة والمقاومة الشعبية للهجوم وإجبار المهاجمين على التراجع إلى شرق المدينة.

خارج السيطرة

وفي السياق أرجع أستاذ الاقتصاد في الجامعات السودانية محمد الناير  ظاهرة مقايضة السلع لشح السيولة الناجم عن قلة الكتلة النقدية إلى أن هناك أربع ولايات خارج سيطرة الحكومة ولا يتعامل معها البنك المركزي أو وزارة المالية، وبالتالي فهي حالياً خارج دائرة الاقتصاد إلى حين انجلاء الموقف.

ولفت الناير إلى أن غياب النظام المصرفي وانقطاع فاعلية السياسات النقدية الصادرة عن وزارة المالية وبنك السودان في الإقليم تعد أحد الأسباب الرئيسة في شح وانعدام السيولة، بصورة دفعت الناس نحو اللجوء إلى خيارات أخرى مثل المقايضة.

وعدّ الأكاديمي شح السيولة في دارفور أمراً طبيعياً إلى حين استرداد الجيش تلك الولايات وعودتها مرة أخرى لدائرة الاقتصاد، وكذلك عودة البنوك لدورة الاقتصاد والنشاط المالي والنقدي، وتنفيذ سياسات المالية والنقدية من قبل الحكومة المركزية لكل بقاع البلاد، وانتهاء مشكلة وأسباب انعدام السيولة في ولايات دارفور الأربع.

تحذير أممي جماعي

وحذرت 19 منظمة إنسانية دولية، 12 منها أممية، بنهاية الأسبوع الماضي من مجاعة وشيكة الحدوث في السودان في حال استمرار أطراف الصراع في منع الوكالات الإنسانية من تقديم الإغاثة للمحتاجين.

ولفت بيان جماعي للمنظمات إلى أن تراكم العراقيل أمام تقديم المساعدات بصورة عاجلة وعلى نطاق واسع معناه أن هناك مزيداً من الناس سيموتون.

بدوره رجح المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية بالسودان (أوتشا) يانس لاركيه خلال مؤتمر صحافي في جنيف، أن تترسخ المجاعة في أجزاء كبيرة من السودان مما يؤدي إلى فرار مزيد من الناس نحو البلدان المجاورة، بينما يتعرض الأطفال للمرض وسوء التغذية، وتواجه النساء والفتيات مزيداً من المعاناة والأخطار.

وفي منشور عبر منصة "إكس"، حذرت اللجنة الدولية للصليب الأحمر من أن استمرار القتال سيفرض ضغوطاً فعلية هائلة على الموارد الضئيلة في عاصمة دارفور ومئات الآلاف من سكانها.

نهب وإفقار

من جانبه يعزو المحلل الاقتصادي عبدالعظيم المهل شح السيولة إلى عمليات النهب التي طاولت بعض البنوك والوزارات والمؤسسات الحكومية والشركات ولم تستثن حتى الأفراد، إلى جانب المعارك العنيفة التي شملت معظم عواصم ومدن إقليم دارفور، واستيلاء "الدعم السريع" على تلك المدن، بينما تمكن الناجون من السلب والنهب من تهريب أموالهم إلى مناطق سيطرة الجيش.

وإلى جانب عمليات النهب والإفقار التي تعرض لها الأفراد والشركات والوزارات والمؤسسات وغيرها، أشار المحلل إلى عوامل أخرى عدة أسهمت في انعدام السيولة وتوقف حركة تداولها وضخها، وعلى رأسها تعطل المؤسسات الحكومية وتوقف الدعم الحكومي المركزي الذي يمثل التمويل الأساس لتلك الولايات، فضلاً عن توقف صرف رواتب العاملين وفقدان معظم الناس مصادر دخلهم وتوقف معظم الأنشطة الزراعية والصناعية والخدماتية الأخرى وبخاصة التجارية.

ولذلك، بحسب المهل، "لم تستطع ميليشيات التمرد إدارة الولايات التي سيطرت عليها مما دفع المواطنين إلى مغادرتها بما تيسر حمله من ممتلكات في ظل تخبطها في إدارة تلك الولايات، وغياب إدارة مدنية قادرة على إدارة اقتصادها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأسوأ قادم

وعلى نحو متصل أعرب المتحدث باسم المنسقية العامة للنازحين واللاجئين بدارفور، آدم رجال، عن خشيته من تدحرج الأوضاع نحو وضع أكثر سوءاً حيث لا يجد الناس ما يبادلون به السلع التي يحتاجون إليها، بعد أن شارفت معظم مدخراتهم من المحصولات على النفاد ولم يعد لديهم ما يقايضونه في وقت قريب جداً، وهناك فئات من المواطنين لجأوا بالفعل إلى أكل أوراق الشجر ومشاركة الحيوانات علفها.

وأوضح المتحدث باسم منسقية النازحين أن فشل الموسم الزراعي السابق 2023 أسهم في تعميق مأساة الجوع والحاجة، وتعطلت الأعمال الهامشية بسبب الحرب مما أدى إلى انهيار الوضع الإنساني صحياً وغذائياً وتعليمياً.

وأضاف رجال أن "ما يشهده إقليم دارفور، وبخاصة في مدينة الفاشر، يمثل جريمة حرب ومعارضة للقيم الإنسانية وعقاباً جماعياً للمدنيين، وكأن الجميع محكوم عليهم بالموت إما جوعاً أو بالقصف العشوائي والمتعمد من قبل أطراف النزاع، مما يستوجب وقف القتال فوراً وفتح الممرات لدخول المساعدات الإنسانية".

جذور المقايضة

وبعد اندلاع الحرب بين الجيش وقوات "الدعم السريع" منتصف أبريل (نيسان) 2023، تمددت الحرب سريعاً إلى ولايات دارفور، وبعدها بأشهر قليلة تمكنت من الاستيلاء على أربع من عواصم ولايات دارفور الخمس باستثناء مدينة الفاشر.

وتفرض قوات "الدعم السريع" حصاراً على الفاشر في مسعى إلى إخضاعها، وسط تحذيرات دولية وإقليمية من اجتياح المدينة التي تحتضن مئات آلاف النازحين الفارين من الحرب في مدن الإقليم الأخرى.

ويرجع مؤرخون ممارسة نظام المقايضة (تبادل السلع) تاريخياً لعصور ما قبل مرحلة ظهور النقود بسبب الحاجة الملحة إلى تبادل المؤن والسلع بنظام مقايضة ومبادلة سلعة لا يحتاجها في مقابل أخرى لدى طرف أو شخص آخر.

ولم تظهر الحاجة إلى النقود في العصور البدائية، بحسب مؤرخين، إذ كان الإنسان يكتفي ذاتياً خلال تلك الفترة، سواء على مستوى الفرد أو العائلة أو القبيلة، وكان كل فرد يبادل جزءاً من إنتاجه في مقابل السلع التي ينتجها الآخرون، أي أن المبادلة كانت تتم من طريق المقايضة من دون وجود فاصل من أي نوع، أو دخول النقود كوسيط في عملية التبادل.

ويرى المؤرخون أنه وعلى رغم قِدم نظام التبادل والمقايضة لكنه ظل مرتبطاً بالأزمات، إذ تلاحظ عودته للظهور في ثلاثينيات القرن الـ20 مع انهيار الاقتصاد العالمي، حين لجأ الناس إلى المقايضة للحصول على حاجاتهم اليومية وأساسات الحياة.

صماء وبكماء

ويعتقد المؤرخون أن ملوك مملكة أكسوم في القرن الـ16 ميلادي اهتموا بمناطق إنتاج الذهب، وكانوا مع غيرهم من التجار يتحصلون على ذهب جنوب بحيرة تانا، وكان الملح إلى جانب الحديد وبعض السلع الأخرى أهم سلع التبادل التي تحملها قوافل التجارة.

ويرجع أساتذة التاريخ سبب تسمية عمليات التبادل والمقايضة تلك بالتجارة البكماء أو التجارة الصامتة التي كانت معروفة في عمليات التبادل في كثير من مناطق جنوب ال صحراء الكبرى، كونها تتم من دون حديث أو تفاهم مباشر بين الطرفين، إذ يضع كل طرف سلعته ويأتي الطرف الآخر ليأخذ ما يقابلها، وإن لم يأخذه فتلك إشارة إلى عدم رضاه على كمية السلعة المقابلة ومطالبة الطرف الآخر بزيادتها، وهكذا من دون تفاهم بين الجانبين.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير