Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مائدة المصريين... ظهور خافت للحوم الأضاحي

ارتفاع الأسعار أثر في شراء خروف العيد خصوصاً بعد تراجع القوة الشرائية للدخل عقب تعويم الجنيه

شراء خروف العيد بات أمراً شاقاً في مصر بعد تعويم الجنيه (رويترز)

ملخص

التفكير في شراء خروف أو ماعز وبالطبع باقي الأضحية المتعارف عليها من إبل وأبقار وجاموس ولو حتى مشاركة مع عشرات الأشخاص بات ضرباً من الجنون في زمن الأزمات الاقتصادية في عيد الأضحى لدى المصريين.

"البلدي" عنوان الثراء والرخاء و"المجمد" دلالة ضيق الأحوال وعسر الأوضاع وحتى "السقط" من كرشة وفشة ومخ وطحال ولسان ومحتويات الرأس وما يسفر عنه الذيل، الجميع من دون استثناء يراوغ موائد المصريين من قاعدة الهرم مروراً بمنطقة "رمانة الميزان" المعروفة بـ"الوسط" وانتهاء عند ما قبل قمة الهرم بقليل.

قليل من التدبير والتخطيط في أيام ما قبل عيد الأضحى المبارك يؤدي إلى نتيجة حتمية يعرفها المدبرون والمخططون مسبقاً، ولكن لا ضرر من إعادة المحاولة، لعل الله يحدث بعد التدبير أو أثناء التخطيط أمراً.

الخروف والدولار

الأمر هذا العام لا يقف عند حدود ارتفاع قيمة الخراف الحية أو تذبذب أسعار الأضحية (سابقاً) لحوم الاستهلاك حالياً أو التفكه بوداع الخروف أو التندر بمقارنة أسعار زمان بمثيلتها الآن، كما أن ارتباط الخروف بالدولار والبهيمة بالتعويم والصكوك بالارتطام الطبقي ونسبة اللحوم إلى الرز، والخبز في "فتة العيد" كمقياس للمكانة ومعيار للمقدرة أمور جميعها أحيل إلى الأرشيف الاقتصادي والتوثيق الاجتماعي.

وأصبحت هناك منظومة فريدة لوجود اللحوم على الموائد في العيد المعروف شعبياً بـ"عيد اللحمة"، وهذه المنظومة التي بدأت تتشكل قبل أعوام طويلة دأب المصريون خلالها على الشكوى الكلاسيكية من ارتفاع الأسعار والتبرمات المزمنة من ضيق الحال والتطلعات المتوقعة رغبة في القدرة على مزيد من الشراء والاقتناء، اتخذت منحى مختلفاً أخيراً وتحولت المنظومة في أعوام ما بعد بدء التعويم الحاد للجنيه المصري وتواتر المشكلات الداخلية والخارجية على البلاد والعباد إلى تغيرات حقيقية لا كلامية، وتعديلات أساس لا سطحية في مكونات مائدة العيد.

الجنيه وثلث القيمة

مائدة العيد هذا العام تشي بفقدان الجنيه المصري ما يزيد على ثلثي قيمته مقابل الدولار منذ بداية عام 2022، و"منيو" العيد الذي كان يباهي بأنواع اللحوم الحمراء من "محمر ومشو ومسلوق" وصور الفتة باللحم والرقاق باللحم والجلاش باللحم والخضراوات باللحم والمعكرونة باللحم أصبح "منيو" أقرب ما يكون إلى "فيغان"، وهو أقصى درجات نظام الأكل النباتي. وبدأت أعوام التدهور بـ"فلكسيتاريان" أو النظام النباتي المرن الذي يحوي أحياناً مكونات من اللحوم الحمراء أو البيضاء، ثم مرت بتأرجحات "بولوتاريان" تارة والالتزام بالخضراوات مع الدواجن أو "بسكاتاريان" تارة أخرى بدمج الأسماك مع الخضراوات أحياناً، وذلك قبل أن يجن جنون كليهما.

ضرب من الجنون

التفكير في شراء خروف أو حتى ماعز وبالطبع باقي الأضحية المتعارف عليها من إبل وأبقار وجاموس ولو حتى مشاركة مع عشرات الأشخاص بات ضرباً من الجنون، وجرى العرف والتاريخ والعادات أن تظهر أعداد كبيرة من الخراف في شوارع مصر قبل أسابيع من عيد الأضحى المبارك.

 

 

والبعض يسير في طابور بقيادة التاجر بين السيارات والبعض الآخر ينتظر قدره في "شوادر" كان يتم إعدادها خصيصاً لعرض الأضحية عقب انتهاء عيد الفطر المبارك استعداداً لعيد الأضحى، وجزء آخر كان ينتظر في حظائره ومراعيه لحين وصول المشتري المتخصص في اختبار الأضحية وانتقاء أفضلها، وغالباً شراء عدد منها نيابة عن الأهل والأقارب وربما الأصدقاء والمعارف.

التحول التدريجي

والمعروف أن كثيرين تحولوا تدريجاً على مدار العقدين الماضيين من شراء خروف أو غيره بكامله إلى التشارك فيه مع آخرين أو اللجوء إلى شراء الصكوك، وهو التحول الذي يشهد تسارعاً كبيراً في الأعوام القليلة الماضية وتحديداً مع تفاقم الأوضاع الاقتصادية بعد أحداث يناير (كانون الثاني) 2011، وبصورة أكبر وأكثر تسارعاً في أعقاب التعويم الأول في 2016، وهذا التحول التدريجي انقلب إلى تغيير تكتيكي شامل سواء فيما يخص الأضحية أو ما يعرف طريقه إلى مائدة العيد.

الأضحية تظل موجودة والراغبون في التضحية ما زالوا راغبين، لكن القدرة على المضي قدماً فيها سواء بشراء الأضحية بأكملها أو التشارك وإلى حد ما شراء الصكوك هو المتغير.

موائد العيد

تغييرات منظومة الأضحية ليست بعيدة من التغيرات التي طاولت موائد العيد هذا العام، لا تطالع المصريين كالعادة تقارير تلفزيونية ونصائح صحية وتوجيهات طبية حول قواعد الذبح وأصول التقسيم وفتاوى الأولويات، بقدر ما تطاردهم قصص الوحدة الوطنية إذ اشترى قس خروفاً ليوزع لحومه على "أشقائه" المسلمين، أو وثائقيات حول رحلة الخروف في مصر زمان من المرعى إلى مثواه الأخير في وليمة العيد، أو وصفات تجهيز لحوم العيد بين المشوي والمحمر والمسلوق ودس الخضراوات ذات الأولوية الهامشية في الأطباق حتى تخرج المائدة شاملة متنوعة.

 الموائد لم تتحول بعد إلى "الفيغان" الكامل كما أن الأسماك والدواجن – إضافة لأسعارها الملتهبة - لا تتمتع بالحضور الكبير أو الترحاب الوفير على مائدة "الأضحى" التي يجب أن تكون بروتينية حمراء بلا منازع.

واللافت أن حتى نزاعات أسبوع ما قبل العيد بين الزوجة التي تصر على شراء خروف العيد أسوة بابنة الخال والعمات والجارات، أو "لمياء" التي طلبت الخلع لأن الزوج رفض أن ينشر الفرحة في البيت ويشتري خروف العيد، أو الزوج الذي قتل زوجته لأنها سخرت منه لعدم قدرته على شراء خروف العيد اختفت هذا العام، والخلافات إن توفر الجهد اللازم لها تدور حول شراء كيلو لحمة أو أي من مشتقاتها ولو كانت "أكسسوارات البهائم"، وذلك حسب موقع المتعاركين في الهرم الطبقي.

طبقية اللحوم

وتعد اللحوم أحد أهم سبل القياس المحددة لمكانة الشخص الاقتصادية والاجتماعية، وعلى رغم أن هذا القياس تغير بظهور أنظمة غذائية تنأى بنفسها عن اللحوم خصوصاً الحمراء وبخاصة بين الطبقات الأكثر ثراء واطلاعاً على الثقافات المختلفة، فإن "طبق اللحمة" لم ولن يفقد بريقه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

بريق الماس في منطقة "ميدان الجامع" في حي مصر الجديدة (شرق القاهرة) لدى أباطرة الحلي والمشغولات الذهبية لا ينافسه إلا بريق شوادر اللحم التي أقامتها جهات رسمية عدة، بعضها ينتمي إلى وزارات مثل الداخلية والتموين، والبعض الآخر بمبادرات من أحزاب سياسية على وفاق وصلة وثيقة بالنظام السياسي، وأسعار اللحوم معقولة مقارنة بـ"الجزارين" وتتطابق مع أسعارها في منافذ المجمعات الاستهلاكية، ومشهد الذبائح المعلق يدغدغ مشاعر كثيرين ليس حباً للحوم بالضرورة أو اشتياقاً لأطباق الفتة وغيرها المرتبطة بعيد الأضحى فحسب، ولكن لأن المشاعر باتت مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالجيوب.

اصرف ما في الجيب

ولت ودبرت أيام "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب" وحالياً بات الغيب سباقاً ومفاجئاً الجميع بزيادات مهولة في فواتير وخدمات هنا وأسعار مجنونة لسلع خصوصاً الغذائية هناك، وعلى رأس قائمة الجنون تتربع اللحوم.

التقرير السنوي للإنتاج الزراعي الصادر عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء العام الماضي يشير إلى أن إجمال إنتاج مصر من اللحوم الحمراء عام 2022 بلغ 554 ألف طن، مقابل 512 ألف طن عام 2021، أما متوسط نصيب الفرد من اللحوم الحمراء فيبلغ 7.4 كيلوغرام سنوياً مما يعني أن متوسط تناول الفرد يومياً من اللحم يبلغ نحو 21 غراماً، وإن كانت أرقام أخرى صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة تشير إلى أن متوسط نصيب المواطن من اللحم يومياً يبلغ 60 غراماً، مما يضع مصر في المرتبة الـ147 بين 192 دولة.

وبعيداً من المرتبة تحتفظ اللحوم بعلاقة غريبة مع المصريين. إنها علاقة حب لا يخلو من حسرة وكراهية من منطلق "العين بصيرة واليد قصيرة" في دلالة على ضيق ذات اليد، ولا يكاد يخلو محفل اجتماعي في مقهى شعبي أو تجمع جماهيري في باص عام أو نقاش أقارب أو معارف من "الدكتور الذي منعني من أكل اللحم" أو "قريبي الذي تكالبت عليه الأمراض بسبب الإفراط في اللحم" أو "النظام الصحي الجديد الذي يخلو من اللحم".

أسافين التباعد

تقارير إعلامية عديدة تسهم هي الأخرى في دق أسافين التباعد باتت تحرص في أيام ما قبل العيد على سرد وشرح أضرار تناول اللحوم والإسهاب في محاسن الابتعاد منها، خصوصاً أنها تزيد من خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية وتحوي كميات كبيرة من الدهون المشبعة، ومن عوامل ارتفاع نسبة الكوليسترول وقائمة أضرار اللحوم في مناسبة العيد تطول.

وفي الوقت نفسه تطول تصريحات المسؤولين المؤكدة زيادة ضخ اللحوم في منافذ البيع التابعة للدولة استعداداً لعيد الأضحى، وهي عادة حكومية قديمة لها تفسيرات عدة وهناك من يقول إنها وسيلة لتعديل دفة الاهتمام بعيداً من الحروب والصراعات ورغبة في التخفيف عن كاهل المتعبين والمضغوطين طوال أيام العام، وهناك من يؤكد أن توفير اللحوم واجب ومسؤولية الدولة وليست منة أو هبة أو منحة، ويظل هناك فريق ثالث يرى أن الإفراط في تأكيد توافر لحوم العيد في ظل ارتفاع الأسعار وفقدان بوصلة الاستقرار الاقتصادي يعكس رغبة أكيدة لكسب الشارع واتقاء شرور الغضب الشعبي.

التحايل على الأوضاع

شعبياً، التحايل على الأوضاع لا يفتر والتفكير خارج الصندوق لا يتوقف وحركة الانتقال من الأحياء الراقية والثرية صوب الشعبية لا تخطئها عين. ربما تكون اللحوم نفسها لكن فارق الأسعار يستدعي الرحلة من أقصى شرق القاهرة إلى غربها.

 

 

ويتحدث "جزارون" (قصابون) في أماكن شعبية عن ظهور نوعية غريبة من الزبائن يصلون بسياراتهم أو بسيارات تابعة لتطبيقات النقل، ويرتدون ملابس تشي بعدم انتمائهم إلى منطقة شعبية يتحدثون بلهجة تؤكد أنهم ينتمون لـ"الناس اللي فوق" أو "اللي كانوا فوق" ويطلبون كيلوغرامين أو ثلاثة، والأهم من كل ذلك أنهم "لا يفاصلون" أي أنهم يدفعون المبلغ الذي يحدده الجزار أو القصاب من دون جدال في السعر أو مطالبة بالتخفيض أو شكوى من ارتفاع السعر، وجاءوا من أحياء ومناطق تبيع كيلوغرام اللحم بـ400 جنيه (8.4 دولار) كحد أدنى، وهو نفسه الذي يباع في المناطق الشعبية بنحو 300 جنيه مصري (6.3 دولار).

والمعلومات الواردة من شعبة الجزارين (القصابين) جميعها تشير إلى ارتفاع أسعار اللحوم في مصر بـ40 في المئة على مدار عام واحد فحسب. 

والمشكلة ليست في الارتفاع ولكن في التذبذب والجنون كأن تنخفض قليلاً يوماً ثم ترتفع كثيراً في اليوم التالي. أما الجنون فهو كسر حاجز الـ500 جنيه (10.5 دولار) للكيلوغرام في سابقة لم تحدث في تاريخ المصريين.

ملوك التحايل

المصريون ملوك التحايل على المعضلات، صرعة إعداد اللحوم الكاذبة لم تظهر أمس بل أول من أمس، ترتفع أسعار الأضاحي فيقسمونها فيما بينهم وتمعن في ارتفاعها فيلجأون إلى الصكوك، وترتفع الصكوك فيبحث البعض عن فتوى للتضحية بطائر أو ما شابه. وتلقى فتوى التضحية بدجاجة سخرية ورفضاً فيقررون الاكتفاء بما تنضح به المائدة من مبتكرات.

 اللحوم الكاذبة المصنوعة من الطحين أو المغشوشة بعش الغراب أو الكوسة أو البروكلي أو خليط من كل ما سبق تسللت إلى بعض موائد العيد، سواء من باب معلن هو "الريجيم ومتطلباته" أو مستتر كضربات الاقتصاد المتوالية التي لم تعد تترك فرصة لأحد ليلتقط أنفاسه بين الخبطة والأخرى.

وعلى رغم كل ما سبق فإنه جار إعداد موائد العيد وولائمه "بتصرف"، وسيتم إبراز الكيلوغرام أو الكيلوغرامين في مكان بارز في منتصف المائدة أو سيتم توزيعها في أطباق عدة مصحوبة بشرائح بطاطا مقلية أو مرتكزة على جبل من المعكرونة حتى تبدو أكثر من الحقيقة.

والحقيقة أن الجزارين (القصابين) يشكون ضعف الإقبال والمواطنين يشكون ضيق الحال والحكومة "المستقيلة" تعمل جاهدة لتوفير مزيد من اللحوم بأسعار "مفاجأة" لجموع المصريين، لكن جموع المصريين باتوا يفكرون مرتين قبل إنفاق مبلغ كبير من المال في سلعة أو خدمة ليست أولوية أو مطلباً طالما يحتمل الانتظار.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات