ملخص
إن رؤية المسافر هذه وهو يحمل آلامه وخيباته ويتجول بها، هارباً من كل شيء غير عاثر على ملجأ يقيه أحزانه، هي الرؤية نفسها التي تهيمن على المسافر مرة أخرى في هذه "الفانتازيا" الغريبة التي أهم ما نلاحظه فيها هو أنها تترجم تلك المشاعر بصدق وحساسية
كثيراً ما قيل في عالم الموسيقى إن الفرنسي هكتور برليوز ما كان ليبدع سيمفونيته الغرائبية لو لم يكتشف باكراً قطعة سلفه الكبير فرانز شوبرت المعنونة "فانتازيا الجوال". ولم يخف برليوز أبداً انتماء تحفته إلى فانتازيا شوبرت. كما أن شوبرت نفسه لم ينكر أبداً انتساب قطعته هذه إلى عوالم صباه الوجودية بينما من المعروف أن سيمفونية برليوز تنطلق من الحب الرومانطيقي وتعود إليه.
وكأن برليوز يكمل هنا ما كتبه شوبرت يوماً: "لو أنني أردت أن أغني الحب، سيتحول هذا الحب في غنائي إلى ألم، أما إذا أردت بعد ذلك ألا أغني سوى الألم، فإن هذا الألم سيتحول بالنسبة إليَّ حباً". ونعرف أن هذه العبارات كتبها فرانز شوبرت في إحدى أجمل صفحات كتابه "حلمي"، الذي صاغه في صيف عام 1822، جاعلاً منه نصاً تنبؤياً في مجال الإبداع الموسيقي، هو الذي كان في ذلك الحين لا يزال في الـ25 من عمره، وبالكاد بدأ إصدار أعماله الكبرى.
في ذلك النص حدد شوبرت مسبقاً معظم موضوعات أعماله المقبلة: الحنين إلى عصر ذهبي، الانبهار بالموت، وحب التجوال والسفر مع أنه في حقيقة أمره، لم يبتعد مسافة إلى أبعد من مدينة سالزبورغ. وهذه الموضوعات إذا كنا نجدها في هذا النص الأدبي، فإن في وسعنا أن نعثر عليها أيضاً في معظم أعمال شوبرت الموسيقية، وخصوصاً في مقطوعته "فانتازيا الجوال" التي ألفها في العام نفسه الذي وضع فيه كتابه "حلمي".
حين تدخل فرانز ليست
إذا كان شوبرت ألف "فانتازيا الجوال" لتعزف بواسطة آلة البيانو وحدها، فإن ما لا بد من الإشارة إليه، هو أن هذا العمل كان من الغنى اللحني والتنوع، بحيث إن فرانز ليست، الذي سيتبدى واحداً من أكبر المعجبين بشوبرت، قدمه مرتين خلال حياته في الأقل، مرة حين حوله إلى قصيدة سيمفونية تقدم بواسطة عدد لا بأس به من آلات وزعت الألحان عليها، ومرة حين أعاد الاشتغال عليه، بحيث يقدم من طريق آلتي بيانو، لا من طريق آلة واحدة، بل إن ليست لم يكتف بهذا، بل نراه أيضاً متأثراً إلى حد كبير بهذا العمل الشوبرتي في واحدة من أشهر مقطوعاته الخاصة: "كونشرتو للبيانو". فما هو جوهر هذا العمل المبكر لشوبرت، والذي أثار فرانز ليست إلى هذا الحد؟ ببساطة هو عمل للبيانو، كما أشرنا، يحمل الرقم 15 بين إنتاجات شوبرت. ولحنه هذا الأخير بعد عام من تلحينه قصيدة "المسافر"... ومن هنا كان طبيعياً أن يستخدم موضوعة المسافر - الجوال، من جديد، ما دام العناصر هي واحدة في العملين، وتتركز من حول رؤية تؤاتي مسافر القصيدة الأولى، إذ يقول: "إن شمس هذا المكان تبدو لي باردة، وزهرتي شاحبة، حياتي اكتهلت، ويخيل إليَّ أنني غريب حيثما حللت وارتحلت".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن رؤية المسافر هذه وهو يحمل آلامه وخيباته ويتجول بها، هارباً من كل شيء غير عاثر على ملجأ يقيه أحزانه، هي الرؤية نفسها التي تهيمن على المسافر مرة أخرى في هذه "الفانتازيا" الغريبة التي أهم ما نلاحظه فيها هو أنها تترجم تلك المشاعر بصدق وحساسية عبر حركاتها الأربع التي تقود، شعورياً، في نهاية الأمر إلى كآبة من الصعب على أية حال أن تبدو لنا هنا، أكثر قوة مما كانت عليه في القصيدة الأولى.
آليغرو لاندفاعة شابة
تبدأ الحركة الأولى في "فانتازيا الجوال" بـ"آليغرو" همه أن يركز على ما يمكننا اعتباره اندفاعة شابة تبدو للوهلة الأولى مليئة بحيوية خادعة، ذلك أن هذه الحيوية سرعان ما تبدأ بالانحسار بعد الجمل اللحنية الأولى تاركة المجال واسعاً أمام كآبة سرعان ما تملأ الحيز عبر انزياح في اتجاه تباطؤ في الحركة الموسيقية يترجم ذلك التحول إلى شفافية الحزن. غير أن هذا الحزن لا يبدو غامراً المناخ تماماً، إذ ها نحن نستمع بين ثانية وأخرى إلى قفزات لحنية مندفعة ومتتالية، تفيدنا بأنه ليس ثمة إذعان نهائياً أمام الحزن. وهذه القفزات تهيئنا على الفور لولوج الحركة الثانية في هذه "الفانتازيا" وهي حركة يغلب عليها طابع "السكيرزو" المتخذ هنا شكل فالس معتدل لا يخلو من اندفاعة "برستو".
سرعان ما تذكر بمقطوعة موسيقية شعبية كانت مشهورة في النمسا في ذلك الحين بفضل كونها جزءاً من عمل كوميدي موسيقي عنوانه "أغنية براتر" من تأليف فنزل مدلر. وتقول الحكاية إن شوبرت كان شاهد ذلك العمل قبل أيام قليلة من كتابته الحركة الثانية لـ"الفانتازيا"، وظلت منطبعة في ذهنه، تلك المقطوعة الشعبية الراقصة منها وقد قرر أن في إمكانه استخدامها، كتحية، في سياق عمله الجديد. وهكذا خلدت القطعة عبر عمل شوبرت في وقت كانت فيه اندثرت ذكراها تماماً في العمل الأصلي الذي تنتمي إليه.
ولسوف يرى النقاد والباحثون لاحقاً، في هذه الاستعارة غير الخفية، دليلاً على الأسلوب الخلاق الذي كان يعتمده شوبرت في مجال استلهامه الحساسية الفولكلورية من الأجواء الموسيقية التي كانت تحيط به، لجعلها جزءاً من عمله. والحقيقة أن شوبرت قد وزع ذلك الاستلهام على الحركتين الثانية والثالثة، قبل أن يصل إلى الحركة الرابعة والأخيرة، عائداً فيها إلى "الآليغرو" الذي بدأ به هادئاً حزيناً، وكأن الحزن قد أضحى جزءاً عضوياً من عمل كان - مع هذا - قد وعد منذ حركته الثانية بالتخفيف من حدة ذلك الحزن، مما أضفى على العمل كله طابع القصيدة السيمفونية، وقد صارت في عهدة آلة البيانو وحدها، بحسب تعبير فرانز ليست لاحقاً.
تحرر من القيود
والحقيقة أن استخدام شوبرت لآلة البيانو وحدها في تقديم هذا العمل، كان هو ما حرره من أية قيود تقنية أو توزيعية كان يمكن لشكل السوناتا، لو أنه اتبعه في توزيع العمل - وكان شكل السوناتا، الذي سيحوله ليست إلى قصيدة سيمفونية، أجدر بـ"فانتازيا الجوال" على أي حال - كان يمكنه أن يكبله بها. وهو ما مكن شوبرت من أن يعزز ميله الدائم إلى ترجيح كفة الشكل على المضمون، جاعلاً من الشكل، بالأحاسيس الغنية التي يخلقها، جوهر العمل. وهكذا، في وقت تمكن فيه الفنان من إثراء الشكل، تمكن أيضاً من تنويع الأسلوب مع توحيد الفكرة الأساس في العمل، عبر اللجوء إلى وحدة موضوعية سرعان ما حازت مكانتها تحت اسم "الشكل الدائري"، وهي وحدة موضوعية تميزت دائماً بقوة تعبيرية لا لبس فيها.
والحال أن هذا كله كان هو ما أدهش فرانز ليست، وجعله- كما أشرنا - يختار هذه القطعة المبكرة بالذات، من بين أعمال فرانز شوبرت، لكي يعطيها ذلك التوزيع الأوركسترالي، هو الذي لفرط ما استمع إلى هذا العمل واداه وحيداً على البيانو، أدرك أن فيه من الغنى والإمكانات ما يظهره، في نهاية الأمر، فقيراً وناقصاً إن قدم بواسطة البيانو وحدها. بالنسبة إليَّ ليست الذي سيطلق على تنويعته اسم "فانتازيا شوبرت من مقام أوت"، كان التوزيع الأوركسترالي ضرورياً ولو فقط لإبراز الطابع الرومانطيقي لعمل قد لا يبدو رومانطيقياً للوهلة الأولى.
تواكب الحلم مع الفانتازيا
كان فرانز شوبرت (1797-1828(، كما قلنا، لا يزال في مقتبل العمر (25 سنة) حين وضع كتابه "حلمي" وحين لحن هذه "الفانتازيا". مع هذا كان يبدو في تلك الأثناء "عجوزاً" مجهداً، إذ نعرف أنه في تلك الفترة نفسها كان يعاني عدم قدرته على استكمال أوراتوريو "لازار"، كما كان يحاول جاهداً البدء في كتابة سيمفونيته الثامنة. وكان شوبرت قد بدأ العزف والتأليف باكراً، تحت إشراف سالياري (خصم موزارت اللدود في الحياة كما في فيلم "أماديوس" لميلوش فورمان). ومنذ بدايته بدا شوبرت موهوباً عبقرياً، خصب الإنتاج لدرجة أنه حين بلغ الـ18 كان قد أنجز أربعة أوبرات كوميدية وسيمفونيتين وقداسين وسوناتاتين للبيانو، ورباعياً و144 أغنية (ليدر)، هو الذي عرف بأن في إمكانه أن يلحن ست أغنيات في ليلة واحدة. وكان من الطبيعي لشوبرت إزاء ذلك الإنتاج الخصب ألا يعيش طويلاً (مات عن 31 سنة)، وأن يترك بعد موته، أعمالاً ومشاريع كثيرة غير منجزة، منها سيمفونيته "الأشهر": "السيمفونية غير المكتملة" التي لا تزال حتى اليوم تقدم غير مكتملة وبكثير من الدهشة والإعجاب أكثر من أي عمل موسيقي مكتمل.