Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الفن التشكيلي اللبناني شاهد على أهوال الحروب المتوالية

بيروت من فظائع الحرب الأهلية وكوابيسها إلى الخراب الأسطوري

الحرب الأهلية بريشة رفيق شرف (صفحة الفنان - فيسبوك)

ملخص

لا ينفصل تاريخ الفن الحديث والمعاصر في لبنان عن ذاكرة الحروب التي ما برحت تتوالى منذ عقود، انطلاقاً من الجنوب إلى الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 وما بعدها. هذه الذاكرة التي خزن فيها الفن التشكيلي اللبناني مشاهد الحروب ووقائعها هي أحد المراجع الرئيسة لمقاربة أبعاد المأساة اللبنانية الوجودية.

نمشي في متاهات ذاكرة الحروب اللبنانية ونقلب مشاهد الخراب نقارن بين الأمس واليوم ونخاف. وكأن الحرب لا تنتهي أبداً، بل كأنها أزمنة وأعمار وأقدار مؤجلة. نبحث عن مرايا حكاياتها في نتاجات رسامين ونحاتين من جيل الحداثة الذين غابوا عنا وتركوا أحلامهم بالسلام وقيامة لبنان معلقة مثل قناديل في المساءات العاتمة. هؤلاء الذين عاشوا نكبة فلسطين وأهوال الحرب الأهلية اللبنانية على مدى 15 عاماً، وبين خطوط تماس الوطن وانقساماته الطائفية ولد جيل جديد من الفنانين الذين نشأوا وترعرعوا في ظلمة الملاجئ، وعلى فوهة أوقات الهرب والتهجير بين متاريس الإقامة ومتاهات الغربة والارتحال.

هل من مكان للأحلام؟ "الحلم بلا نجوم هو حلم منسي" بحسب قول الشاعر بول إيلوار، ونحن في غمرة الظلمة والألم نقاوم النسيان، نبحث عن آثار تبوح لنا بسر الحياة، نفكر بالماضي بنقاشات فكرية صنعت ثقافة بيروت وسر ديمومتها وحقول مقاومتها المزهرة في عز الحرب والانشطار (بين شرقية وغربية). نفكر بالمواقف التي أحدثت تحولات عميقة في مفاهيم الحداثة العربية التي جاءت من الغرب ولكنها اقترنت بالصراعات على المستوى السياسي والأيديولوجي في علاقات الشرق بالغرب الناتجة من الحروب. نتذكر رسوم كتاب عارف الريس: "طريق السلم رؤى عن الحرب اللبنانية"، التي أضحت بمثابة وثيقة فنية وشهادة عن فظائع الحرب وكوابيسها. هذا الفنان الثوري اليساري العروبي الذي وجد أن حياته كرسام بدأت، بعد أهوال انفجار قنبلة هيروشيما (1945) التي تركت في نفسه وقعاً رهيباً قوله: "إن الإنسان يحمل وجهاً مخيفاً وراء وجهه الجميل.

منذ ذلك الحين ابتدأت محاولاتي في إسقاط الأقنعة بحثاً عن الحقيقة"، انغمس في قضية حرب استقلال الجزائر، كفاحات تحرير "العالم الثالث" وهزيمة الحرب في يونيو (حزيران) 1967 والعمل الفدائي الفلسطيني. كثيراً ما عبر الريس عن خشيته من وقوع تلك الحرب الدامية في لبنان من خلال أعمال انتقادية ساخرة، ظهرت في مرحلة "رؤوس وأقدام" عام 1969 و"رؤى من العالم الثالث" (1974)، فضلاً عن رسوم "الحب والموت والثورة" و"دماء وحرية"، وهي أعمال سبقت الحرب الأهلية التي رأى الفنان بحدسه السياسي إنذاراتها المشؤومة.

الفارس القتيل

نتوقف عند محطة مفصلية في عام 1969 الذي أعقب النكسة العربية، حين أصدر رفيق شرف منشوره السري الأول الذي كان مدوياً في نبرته الرفضية لفن الغرب: "علينا أن نعي مدارنا التاريخي في لحظة تأرجحنا العظيمة لحظة الوقوع في حقيقتنا وزماننا... إنني أمسح الغبار عن وشم ساحر موجود في روح إنساننا الشعبي، الفارس الذي لا يتنازل عن درجته في زمن سمته المجلجلة الانكسار. إن فننا يعاني مأزقه الجمالي وتشرده التعس وهو كإنساننا في حاجة إلى روحه الحقيقية".

أيقن شرف أن الرسوم الشعبية هي مادة غنية لترميم الروح العربية والتواصل مع الأسطورة، التي انبثقت منها تيمة "عنترة وعبلة"، غير أن الحرب الأهلية جعلته أكثر عزلة عن صدمة الواقع ومآسيه، لذا رسم الطير وهو يعبر السماء بأجنحة كاسرة مسننة تصارع الرياح، كصورة رمزية عن الغضب وتحديات العيش والانتصار على المآسي، التي انعكست أيضاً في رسومه عن الفارس القتيل في مدن حصونها متصدعة خيالية لكأنها مدن الغبار المتصاعد من معارك وحرائق وسحب دخان.

نفتح دفاتر الحرب، تطالعنا أناشيد الأرجوان على ثلوج صنين، في فضاءات شفيق عبود التي تلوح إلى لبنان من غربته الباريسية، كما نقلب صفحات كتاب "نوافذ على ما غاب عني" لناديا صيقلي التي تعقبت في مطبوعاتها على الحرير (سيلسكرين)، مناظر دمار الأسواق التجارية في بيروت بشوارعها المقفرة التي يكتنفها العشب البري. ولعل أكثر ما يرسخ في البال اللوحة التذكارية لجان خليفة بعنوان "السلام" وهي تصور قتيلاً مخضباً بالجراح ومن خلفه منظر عن سفر مجهول في بحر بيروت.

بيروت الحرب

ثمة تجارب تعبيرية ظهرت في نتاج جيل الحداثة كانت سباقة في تفاعلها مع إشارات الواقع المقطوف من صلب الحياة اليومية والمعاناة الإنسانية بمعناها العميق، التي تجلت في أروع صورها في أعمال بول غيراغوسيان. فقد تركزت موضوعاته على حياة البؤساء والمشردين الأرمن في منطقة برج حمود، والأمومة والطفولة والعائلة والأزمة الوجودية للشعب الأرمني الذي تعرض للمجازر والإبادة (عام 1915). عرف عنه قوة الضربة اللونية الواحدة بحركتها العمودية في اختصار أشكاله المعذبة. خلال الحرب وبعد حادثة بتر رجله، تغيرت إيقاعات ضرباته اللونية فازدادت توتراً وانفعالاً وتمزقاً. خلال معايشته يوميات الحرب وأحداثها ومتاريسها، جسدت لوحاته مناخات بيروت المتهدمة والمتصدعة من خلال التجمعات الإنسانية، التي تعكس أجسادهم أشباح المدينة وخرائبها. إنها الخرائب التي تتبدى أيضاً في محفورات أسادور، التي تنقب عن آثار مدن مهجورة شبيهة بطبقات الذاكرة، تسعى للكشف عن العواطف المخبأة وصور الطفولة الهاربة، وكأن المكان ليس على الأرض وليس له وجود في الحقيقة ولا في الواقع، بل يشبه المنام حين يغدو ويروح ويترك بصمات عبوره على لحاف السماء.

الحقائق الكبرى موجودة في الشارع، يقيناً بالنسبة إلى حسن جوني، الذي كان أول من سلط الضوء على التقهقر الاجتماعي في بحثه عن هيئات الناس الضائعة بين ركام الأشياء المتداعية ما خلا نظرات عيونهم الحزينة. رسم بأسلوب تعبيري تلميحي رواد المقاهي البيروتية وباعة الصحف والنازحين المهجرين الحاملين أمتعتهم على مناكبهم، كما جسد تصدعات الأبنية المترنحة في الأحياء الشعبية الفقيرة والبوسطات المشحونة بأهل القرى الجنوبية وألوان البساتين ووحول الأرض. ومن وقائع العيش رسم جميل ملاعب مشاهد من الحرب، وجمعها في كتاب "قريباً من الوطن"، عكس الحاضر المأسوي بنبض واقعي يعبر بالمشاعر، عن روح الجماعة، وقوة التجذر والانتماء لأرض الوطن.

أرخت لوحات سيتا مانوكيان، بيروت- الحرب، بأسلوب الواقعية الجديدة، وتميزت في تجسيد مشاهد دمار الأسواق التجارية، بألوان توازي العنف الفاقع والفج لشوارع بيروت المفجوعة. جسدت لحظات الهلع والضياع بأسلوبها التركيبي، كما سعت إلى التقاط الواقع في اللحظة الآنية التي لا تدوم وجمدتها، واستخدمت أسلوب القطع المشهدي والتجزيء والتمزيق وقص الأشكال وإعادة تركيبها قولها "الناس والصحيفة والشارع هي الشاهد والضحية والوثيقة. فالإنسان في لوحاتي جامد وعمارات الحي والشارع من لحم ودم"، في حين أن نوستالجيا الأمكنة الغائبة شكلت محور الواقعية الوجودية التي أسستها ندى عقل في مشهديتها الآسرة، على التذكارات لوجوه العائلة والأصدقاء والبيوت والحدائق، برؤية حلمية تشكك بالوجود نفسه، يكتنفها الغموض والعبث وغصة الفراق.

أحداث وشواهد

التاريخ إن حكى سيروي عن جدارية "الحرب الأهلية" أو غورنيكا عبدالحميد بعلبكي التي تشبه الملحمة بمناخاتها الكابوسية ورموزها الطوطمية ودلالاتها الإنسانية. وهي لا تسرد بصورة تقريرية الحرب كمظهر عسكري بل تعكس التزام قضايا الناس الذين وقع عليهم قدر الحرب فسحقتهم. يقول بعلبكي: "اللوحة الجدارية هي لوحة الناس ولوحة المستقبل". أما العلامة الفارقة الثانية فهي جدارية "الذاكرة المفتوحة" التي علقت في ساحة البرلمان في بيروت (1996) وهي قرابة 20 متراً مربعاً، جاءت كعمل جماعي قام به مجموعة من الفنانين (إلياس ديب وفوزي بعلبكي وسونيا الرضي ومحمد عوالي ويوسف غزاوي وعادل قديح) لمناسبة ذكرى الاجتياح الإسرائيلي للجنوب عام 1978. فقد انبثقت من أحداث الحرب على الجنوب تجارب عدة نحاتين ورسامين (شربل فارس وعزت حمام وعزت مزهر وعماد عيسى حسين ياغي وعبدالله كحيل ومحمد شمس الدين) جسدوا الوجه المقاوم للإنسان في صموده. وكان عماد عيسى سباقاً إلى لغة المعاصرة في اجتراح التعبير الصادم عن الحرب من طريق الدمج بين الرسم والتجهيز والنحت وفن التركيب.

لم يتوقف نبض بيروت عن احتواء المعارض والتظاهرات الجماعية التي شهدتها الصالة الزجاجية التابعة لوزارة السياحة، فضلاً عن موسم صالون الخريف في متحف نقولا إبراهيم سرسق، ولم تتوقف المراكز الثقافية وقاعات الفنادق والصالات البديلة عن عرض نتاجات الفنانين، بعد انحسار أعداد الغاليريات المنتشرة في العاصمة. كان أول صرح ثقافي أطاحته الحرب عام 1975 هو دار الفن والأدب (على طريق الشام) الذي كانت تديره جانين ربيز، وبعد حرب السنتين، كانت أول من بادر مع عارف الريس، إلى إقامة أول معرض جماعي ضخم حمل عنوان "لبنان 1978"، جمع شمل 100 فنان لبناني من أجيال متنوعة، كان أكبرهم سناً رشيد وهبي وأصغرهم إميل منعم. الواقع أن الحرب أودت بمحترفات كثير من الفنانين (من بينهم محترف سعيد أ عقل في الدامور) وكذلك بصالة قصر الأونسكو، ولكن الحدث المأسوي الأقوى تمثل في استشهاد إبراهيم مرزوق (السادسة صباح الأحد في الثامن من أكتوبر "تشرين الأول" 1975)، مع قافلة من الأبرياء بقذيفة عشوائية سقطت على "فرن الوفاء" في محلة الرفاعي في بيروت. كان مرزوق هو الشخصية المحببة التي جمعت شمل أصدقائه المقربين (أمين الباشا وحسين ماضي ومنير عيدو). إثر رحيله أقام تجمع الفنانين العشرة معرض "الأرغفة الساخنة" تكريماً لمرزوق في الرابطة الثقافية في طرابلس.

كان زمن الحرب في بيروت هو زمن الغليان ونقاشات المثقفين في المقاهي ودينامية التفاعلات مع نقاد الصحف، مع نمو حركة النشر والنتاجات الفكرية بحضور شخصيات قوية وراجحة في موازين القوى الثقافية. وكان الفن سلاحاً لمواجهة كوارث الحرب، لعل ذلك كان سبباً من أسباب ظاهرة العودة إلى الطبيعة وانتصار الواقع على التجريد، مع ظهور تيارات تأثرت بأجواء الحرب من سبيل الخيال السوريالي والرمزية (سمير أبي رشاد وموسى طيبا وفضل زياده وريمون شويتي). لئن شهدت سنوات الحرب الطويلة تيارات جديدة وتجارب طليعية فإن تأثيراتها وتداعياتها ظلت مترسبة في الذاكرة ولو بعد حين. هذا ما عرفناه في تجارب جيل ما بعد الحداثة والمعاصرة (محمد الرواس وشوقي شمعون وفيصل سلطان ومارون الحكيم ومحمد عزيزه وعدنان خوجه وغريتا نوفل وسمر مغربل وماريو سابا وهنيبعل سروجي). أما الصرخة المدوية فقد جاءت من الأعمال التركيبية التي أرستها ندى صحناوي في وسط بيروت، لإدانة الحرب وخطاب العنف، والأكثر إيلاماً وتهكماً كان: "ألم تكن 15 سنة من الاختباء في المراحيض كافية؟ (2008)" وهو عرض مشهدي كبير لصفوف من مئات المراحيض.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

فتح تيو منصور عهداً جديداً غير مسبوق بين فناني جيله في التسعينيات، حين قدم أعمالاً ثنائية وثلاثية مرسومة على أحجام كبيرة، تفتح أمام الناظرين مشهديات لديكورات فسيحة، جسد من خلالها مأسوية الحرب اللبنانية بقسوتها ومجازرها وتداعياتها في مشهدية غير اعتيادية منبثقة أحياناً من التيمة الدينية والدراما اللاهوتية أو من العلاقات الأيروسية، في استدعاء للتاريخ الروماني المطبوع بالقوة والعنف والمجازر الدموية. أما وجوه محمود زيباوي فقد حملت في شروخها العميقة شيئاً من قداسة الأيقونة والجراح والآلام التي خلفتها آثار الحروب على إيماءات التعابير الباطنية، التي تكشف الصفات الداخلية للإنسان في وجعه وصمته.

الخرابفي معناه الخرافي

في مدونات نقد التاريخ المعاصر، يحضر سمير خداج الذي جمع شتات الزمن ومخلفات ذاكرة مثقلة بالحروب والمجازر، في تجهيزاته المستمدة من "الفن الفقير"، له لوحة مشتركة مع مارك موراني عن "معبر الرينغ" الذي يفصل بين البيروتين، كمعبر للضياع وليس للتلاقي. أما كاتيا طرابلسي فقد حولت للمرة الأولى عبوات القذائف الحربية من أدوات للقتل إلى تحف للزينة مجملة سطوحها بموتيفات من ثقافات حضارات الشرق الأوسط. وثمة منجزات وعناوين رفضية بالمعنى النقدي حققها أكرم زعتري ووليد رعد ومروان رشماوي (خريطة بيروت كاوتشوك). أما الفن التسجيلي بلغة الرسم السريع والنكتة الحاذقة والعبارة الساخرة فقد تمثل في سرديات الثنائي لور غريب وابنها مازن كرباج بما تحمله من فخاخ وارتجالات فورية انبثقت للمرة الأولى من مستجدات أحداث حرب يوليو (تموز) 2006، واستمرت في أكثر من محطة تواصل، ومن قبلهما تجربة الثنائي سليمى وإبراهيم زود في حوار الذاكرة والمكان رسماً ونحتاً. فنانون كثر هزتهم فاجعة انفجار مرفأ بيروت (الرابع من أغسطس "آب" 2020)، غير أنه من أكثر الأعمال إبهاراً هو العمل التجهيزي الخلاق الذي نفذه الفنان والموسيقي زاد ملتقى في متحف نقولا إبراهيم سرسق في عرض سمعي - بصري، يبعث على الشعور بالهلع والدهشة ويذكر بتساقط الحطام وتناثر الزجاج.

الحرب في عصر العولمة وصراع الحضارات وتفتيت الهوية واستراتيجيات الذكاء الاصطناعي، لها وجوه غير ثابتة بل سائلة ومتحولة. أكثر ما يطفو على السطح المتفجر في الراهن، هي عودة ترددات مشهدية خراب الأبنية في الضاحية الجنوبية لبيروت بعد حرب 2006، التي ظهرت في هيئاتها المأتمية الشرسة في لوحات أيمن بعلبكي. هذا الفنان الذي تمكن بموهبته الفذة من اختراق المحلية إلى المنصات العالمية والمزادات الكبرى، لا سيما أن الرؤية الصادمة للأبنية المهشمة والمتآكلة التي رسمها بفيض من طبقات العجائن اللونية المتلاطمة، تحيل واقع الخراب إلى اللامعقول والخرافة والجنون. جنون العنف والقتل والتدمير الذي وصل إلى ذروته الوحشية في حرب غزة، بعد عام على "طوفان الأقصى" الذي أغرق بالدم ليس أرض فلسطين فحسب بل أغرق بدمه لبنان، لكأنه زمن نهاية الأزمنة.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة