Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أدب "الكلينكس" ونصوص الاستعمال الواحد

مع التقدم التكنولوجي المتوحش غرقت الكتابة في بركة قيم السوق وفقدت عفويتها الفلسفية المتأملة

مصير الأدب الخالد بات نادرا وثمينا  (أ ف ب)

ملخص

 أصبح الأدب يصنف في قائمة استهلاكات "الفاست فود الثقافي"، إذ لم يعد هناك كاتب يؤمن بمقولة لطالما قرأناها في كتب النقد بأن "هذا أديب يكتب للأجيال المقبلة" أو "هذا النص كتب لقارئ مستقبلي"، فمثل هذه العبارة أصبحت نكتة وسذاجة.

أصبحت الرواية العربية، بوصفها أدب المرحلة أو هكذا توصف، تعيش فصلاً واحداً ثم تموت أو تذهب للنسيان، وتحضر في بعض المعارض هنا وهناك، وتقدم لبعض الجوائز، تتوج أو تخفق، ويكتب عنها في بعض ما بقي من الصحف ثم ترحل عن الوجود الثقافي والأدبي والنقدي.

ما نعيشه في العالم العربي هو حال أدبي غريب في بلدان لا تقرأ أصلا أو هي قليلة القراءة وعلاقتها بالأدب علاقة محتشمة أو مناسباتية أو توظيفية سياسية، وحين نلتفت لتاريخ الآداب العالمية، بما فيها العربية القديمة، نجد أن هناك نصوصاً إبداعية خالدة وهناك أخرى تختفي بسرعة كفقاعات الصابون، ولا نزال نقرأ روايات عالمية عمرها بضعة قرون ولم تشخ ولم تحفر الأسارير على وجهها ولم تشوهه، إذ لا تزال شابة وجذابة ومثيرة وتعبر الحقب الأدبية وسلسلة أجيال القرّاء بكل قوة وحضور.

إن مصير الأدب الخالد يشبه إلى حد كبير مصير النبيذ المعتق الذي كلما مر عليه زمن أطول يصبح مفضلاً ونادراً وثميناً، وإذا كان النبيذ الجيد يحفظ ويربى في دنان خاصة مصنوعة من الخشب النبيل أو الفخار المختار المميز، تحت رقابة صارمة ويقظة لخبراء المعاصر المحترفة، فعلى مثل هذا الحال كان الأدب يعامل قديماً، فللكتابة طقوس شبه دينية بأوراقها وتخطيطاتها وتنظيمها وفوضاها الخلاقة.

وإذا كان النبيذ المعتق يُربى في أقبيته حيث يقلب بهدوء وحرفية حتى لا ينزعج أو يقلق في نومه الهادئ، فالأدب الذهبي هو الآخر يطبخ على نار هادئة وناعمة وشرسة في الوقت نفسه، ويطلب من الوقت ما يكفي كي يطلُع على القارئ في شهوته العالية.

في الأدب لا توجد مسابقة ولا متسابقون، كما أن المحترفين لا يستعجلون النبيذ في أقبيته ودنانه، فالأدب أيضاً لا يجب استعجاله ويجب تركه يطبخ في مخبر الإبداع الساحر والمعقد بما يكفيه من الوقت.

ومع التقدم التكنولوجي المتوحش والمنفلت من الرقابة الأخلاقية والفلسفية، أصبح عالم التواصل والاتصال ضحية الطفرة الجنونية في وسائل التواصل الاجتماعي، ومثل ذلك أيضاً يعيشه الأدب، إذ يُدفع دفعاً إلى هاوية سحيقة لا يعرف لها قرار، وقد أصبح عندنا أدب الـ "تيك توك"، وأصبح النجوم المؤثرون أدباء، وأصبح لنا أدب الـ "يوتوبير"، والحبل على الجرار!

لقد أصبح الأدب يصنف في قائمة استهلاكات "الفاست فود الثقافي"، فلم يعد هناك كاتب يؤمن بمقولة لطالما قرأناها في كتب النقد وهي أن "هذا أديب يكتب للأجيال المقبلة" أو "هذا النص كتب لقارئ مستقبلي"، فمثل هذه العبارة أصبحت نكتة وسذاجة.

أشعر وكأن عصرنا الأدبي هذا يهيمن عليه الكسل والتساهل في مفهوم الكتابة ويطبعه الاستعجال في النشر، وأشعر وكأنما هناك ماكينة مرعبة تطحن في طريقها كل القيم التي كانت تشكل تعريف الأدب والأديب، فهناك سهولة بل وميوعة في النشر مع نشر نصوص بغض النظر عن جودتها الجمالية أو بعدها الفكري، وأمام هذا أصبح إيقاع الكتابة الأدبية والنشر الأدبي أقرب كثيراً إلى مفهوم الاستهلاك، وغريق لهفة ثقافية عامة، وشيئاً فشيئاً أصبح الأدب يغرق في بركة قيم السوق ضائعاً وفاقداً لعفوية الكتابة ولفلسفة تأمل العالم، وفاقداً أيضاً للجرأة والمغامرة المؤسسة على القراءة والسؤال والتنقيب والتراكم، ولقد أصبح الأدب سلعة بسيطة على شاكلة السلع الأخرى في الأسواق المختلفة، سلعة خاضعة لمسطرة العرض والطلب.

لقد أصبح الناشر المعاصر يبحث عن عدد السحب وعدد النسخ المسوقة لا عما يمكن أن يخلفه هذا الكتاب أو ذاك، رواية كان أم شعراً، من أثر فلسفي أو جمالي أو سياسي على المجموعة الاجتماعية من القراء، ونلاحظ أكثر فأكثر أن في النصوص التي تعرف رواجاً موسمياً تراجعاً للقيم الفلسفية أمام توحش قيم السوق، ويوماً بعد يوم نلاحظ أيضاً تراجع صورة الكاتب المبدع أمام صورة الكاتب البائع، وأصبح الكاتب يبحث عن صورة "النجم" لا عن صورة المثقف النخبوي المؤثر بطريقته ووسائله الخاصة.

وأمام تغول وسائل التواصل الاجتماعي وتنوعها وتعقدها أصبحت أسماء بعض الكُتاب معروفة ومتداولة أكثر من نصوصهم التي لا أحد يعرفها، فلقد أخلطت وسائل التواصل الاجتماعي مسالك القارئ إلى النصوص الجدية، كما أنها صادرت حرية اختيار القارئ واغتصبتها حتى أصبحت القراءة عبارة عن وصفة للجميع يكتبها طبيب متخصص اسمه "وسائل التواصل".

وفي ظل هذه الفوضى التي ضاع فيها الكاتب والقارئ والناشر يبدو أن الجامعة التي من المفروض أن تلعب دور المنظم الأخلاقي والأكاديمي والفلسفي للحياة الأدبية، ضيعت سلطتها المعنوية على النشر والتوزيع والاستقبال، بل الأدهى والأمَرّ أن كثيراً من الجامعات تساعد في تشجيع وتموقع الأدب الرديء، أو تدافع عن هذه الرداءة الأدبية.

وتحت تأثير أمراض الزمالة والصداقة والجهوية والقبلية والشللية، نشهد مناقشات لمئات رسائل الدكتوراه والماجستير في جامعاتنا من المحيط إلى الخليج وقد اتخذت من موضوع درسها نصوصاً روائية أو شعرية غير ناضجة، مما يسهم في الخلط بين الغث والسمين.

لقد شكلت الرؤية المحافظة التي تحكم الجامعات العربية والمغاربية ثقلاً إضافياً على حرية الإبداع وحركية الأدب الجيد الذي يمثل اختراقاً للنظام السائد جمالياً وسياسياً وفلسفياً، وأصبحت أيام الرواية العربية لا تتجاوز عدد أيام معرض الكتاب، وأيام الإعلان عن القوائم القصيرة أو الطويلة أو ليلة التتويج ببعض الجوائز، وبعدها تذهب لمقبرة النسيان، فمن يتذكر أسماء الروائيين المتوجين بالجوائز العربية أو الروايات المتوجة إلا في استثناءات قليلة جداً تكرس القاعدة.

إننا بالفعل على المستوى الثقافي والإبداعي نعبر مرحلة أضحى فيها الأدب ظاهرة "كلينيكسية" بامتياز، إذ أصبح ينتمي إلى الأشياء ذات الاستعمال الواحد.

المزيد من آراء