ملخص
لم تكن للألماني إرنست توللر قامة برتولد بريخت في الكتابة المسرحية ولم تكن له شاعرية جورج كايزر أو قوة تعبيرية فرانتز فرفل، لكنه في الوقت نفسه كان أشرس منهم جميعاً في التعبير عن أفكاره
تماماً كما كانت حال بيكاسو الذي لشهرته وقوة شخصيته تمكن من أن يبتلع معاصريه من الفنانين بحيث لا يرى الجمهور العريض سواه فناناً كبيراً في ذلك القرن، كانت الحال نفسها مع برتولد بريخت الذي بلغ من الشهرة وقوة الشخصية والانتشار في القرن نفسه ما غطى على معظم الكتاب ليبرز وحده نجماً محلقاً في الزمن نفسه. ولعل الإنصاف يقتضي منا التوقف بين الحين والآخر عند واحد ممن ظلمتهم مكانة بريخت. فنقدم هنا واحداً من كبار ظلموا في هذا المجال وهو إرنست توللر.
لم تكن لتوللر قامة برتولد بريخت في الكتابة المسرحية ولم تكن له شاعرية جورج كايزر أو قوة تعبيرية فرانتز فرفل، لكنه في الوقت نفسه كان أشرس منهم جميعاً في التعبير عن أفكاره، وكان أقدر أبناء جيله على أن يرى الصواب. والصواب بالنسبة إليه كان التشاؤم تجاه أحداث العالم. ولئن كان التناقض كبيراً بين تشاؤمه وعمله الثوري المثالي الذي ظل يمارسه على رغم فقره، والجراح التي سببتها له الحرب العالمية الأولى إذ كان مجنداً في الجيش الألماني، وعلى رغم أعوام سجنه فإن هذا التناقض لم يزعزع إيمانه بمواقفه وهو الذي كان يرى أن أية نزعة ثورية لا ترتكز إلى أيديولوجية سياسية لن تكون مجدية. والغريب أن إيمان توللر الثوري نجده فقط في مواقفه ونضالاته السياسية وتزعمه الانتفاضات الثورية، وصولاً إلى مشاركته في ثورة بافاريا التي أسقطت الملكية وأنشأت أول سوفيات ألماني تحت اسم "الكونغرس الوطني البافاري".
الثوري كاتب متشائم
أما في كتاباته السردية أو المسرحية فإن السوداوية هي الطاغية. بل إن كثيراً من تنبؤاته المتشائمة التي ملأت صفحات كتبه تحقق، بما في ذلك انتحاره. فالحال أن توللر في مسرحية "هنكمان الألماني" التي كتبها إثر خروجه من السجن عام 1923 جعل بطله يضع حداً لحياته ومآسي هذه الحياة عند نهاية الفصل الأخير، وتقريباً على الشاكلة نفسها التي وضع هو نفسه بها حداً لحياته بعد ذلك بـ16 عاماً في نيويورك عام 1939. واللافت أن بطل "هنكمان الألماني" ينتحر بعد خروجه من الحرب إذ كان يفترض به أن يعيش حياة طافحة بالأمل، كما أن توللر بعدما كان بارح ألمانيا إلى الولايات المتحدة انتحر بعدما بدأ يحقق شيئاً من النجاح المأمول ككاتب، وفي الحالين كان موقف الكاتب من الحياة العامة دعوة إلى الثورة وأملاً في المستقبل.
تناقضات العصر
وفي هذا المعنى يمكننا أن نقول إن إرنست توللر كان بحق واحداً من أكثر الكتاب الأوروبيين تعبيراً عن تناقضات العصر، وعن التفاوت بين ما يعيشه الثوري المحترف في حياته الأيديولوجية المرسومة بخطوط مشددة بوعي قد يصل إلى حدود الدوغمائية والدعاية، وما يعيشه في صدق كتابته حين ينفرد مع أوراقه وأقلامه ليكتب ما لا يمكنه أن يماري فيه.
قد لا تكون مسرحية "هنكمان الألماني" أفضل أعمال توللر إذ إن كثراً من النقاد يفضلون عليها "الجماهير والإنسان" أو حتى "هوب... لا... هكذا هي الحياة!". لكن "هنكمان الألماني" تبدو الأكثر دلالة وعمقاً وحتى الأكثر مأسوية بين أعمال توللر الرئيسة. ذلك أنها تعبر عن الجرح الحقيقي الذي أصاب الكاتب خلال مهامه العسكرية في الحرب العالمية الأولى. وهو غير الجرح الجسدي الذي أصيب به حقاً وكان من ناحية سبباً في تسريحه قبل أن تنتهي الحرب، ومن ناحية ثانية في خلفية مساره التالي المناهض للحرب بصفتها المكان الذي يفقد فيه الإنسان كرامته وغده، إن لم يفقد حياته. وفي هذا الإطار يتساوى توللر مع هنكمان بطل مسرحيته.
واقعية ورمزية
مسرحية "هنكمان الألماني" تعرف عادة بأنها "تراجيديا ذات فصول ثلاثة" وبأنها "واقعية في أسلوبها، رمزية في أجوائها ودلالاتها"... غير أن الأصح من هذا كله هو أن هذه المسرحية تنتمي حقاً إلى عالم شديد الخصوصية، وأنها تكاد تكون النص الأكثر انتماء إلى المسرح التعبيري بين ما كتب توللر من مسرحيات. وهي إضافة إلى هذا كله تنتمي إلى نوع خاص من الإبداع هو ذاك الذي يكتب في صورة أو في أخرى لمناهضة الحرب عبر التصوير الواقعي لمصائر الناس خلال الحرب أو بسببها، انطلاقاً من فكرة أن ليس في الحرب منتصر أو مهزوم على صعيد الأفراد، حتى وإن جرى الحديث دائماً عن انتصارات أو هزائم للأمم التي تخوض الحرب. فالفرد هو الخاسر في النهاية الذي تدمره الحرب وتجرحه وتقتله وتفقده كل أحلامه وآماله، بصرف النظر عن مصير الأمة. وفي هذا الإطار بالتحديد تكمن رسالة "هنكمان الألماني" الفكرية والإبداعية، التي لن يفوتنا أبداً ملاحظة تناقضها التام مع مجرى حياة الكاتب ونضاله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حياة تنقلب جذرياً
وتدور أحداث المسرحية إذاً حول الجندي السابق يوجين هنكمان الذي كانت الحرب جرحته وأفقدته رجولته، وها هو يعود الآن إلى حياته التي كان يفترض أن تكون طبيعية وإلى زوجته التي كان سبق له أن عاش معها حكاية حب طويلة. لكن الحياة التي يأتي هنكمان الآن ليعيشها ليست أبداً حياته القديمة... إذ ها هو عاجز عن معاشرة زوجته. وهو لما كان قوي البنية جسدياً سيجد ألا مناص لديه من أن يستفيد من قوته هذه كمصدر عيش له، إذ إنه للطفه لا يريد أن يكون عبئاً على الآخرين. وهكذا يجد لنفسه عملاً يقوم في نفخ عضلاته أمام المتفرجين في الأحياء الفقيرة وكذلك في أكل الفئران الحية في مقابل فتات مال يدفعه له المتفرجون. وكان هنكمان يأمل في ألا يتنبه أحد من معارفه أو أقربائه أو حتى زوجته لـ"مهنته"، في وقت تكون الزوجة إذ يئست من استئناف زوجها حياته الطبيعية معها التجأت إلى صديق العائلة بول الذي كان في الأصل حبيبها القديم قبل الزواج، وتركته تماماً حين ارتبطت بهنكمان تعود إليه باحثة لديه وفي تجديد العلاقة معه عن عزاء لحالها ولوضعها. والزوجة في البداية لا تدري شيئاً عما يفعل زوجها خارج البيت طوال النهار بل يخيل إليها أنه يتعمد هجرانها. ولكنها لاحقاً تدرك الحقيقة وتفهم أن هنكمان إنما يحاول أن يكسب عيشه من دون رمي ثقله عليها أو على أي شخص آخر، وهكذا تندم على ما بدر منها ويستبد بها القلق. لكن بول الصديق والعشيق يكون لكل ذلك بالمرصاد، إذ ها هو يتجه الآن إلى هنكمان لإقناعه بأن زوجته إذ اكتشفت حقيقة مهنته باتت مشمئزة منه وتريد الانفصال عنه. هنا ينصرف هنكمان إلى الشرب حتى يثمل ويعود مساء إلى البيت وقد قرر في نفسه أن يقتل زوجته بعدما فهم كل شيء عن علاقتها ببول. لكن هنكمان حين يجابه الزوجة يفاجأ بها تقر بما فعلت وتكشف له السبب مبدية ندمها وحبها له. وهنا لا يكون أمامه إلا أن يسامحها. لكنه إذ يفعل هذا وينصرف إلى أفكاره يدرك كم أن حياته بل أيضاً حياتها معه صارت من دون جدوى... وإذ يصارحها بهذا تقفز هي منتحرة من النافذة فيما يشنق هو نفسه واضعاً حداً لحياته.
الحرب أولاً وأخيراً
ليس المرء في حاجة طبعاً إلى تحليل عميق حتى يدرك ما في هذا العمل من إدانة للحرب... وهي إدانة حملها معظم إنتاج توللر على أية حال. وإرنست توللر (1893 - 1939) جعل من الحرب ومناهضته لها موضوعاً أثيراً لأدبه. وهذا ما جعله يسجن في بلده ألمانيا بتهمة الخيانة (وهو وضع كتابين في السيرة الذاتية حول فترة السجن تلك) خصوصاً أنه شارك في انتفاضات كثيرة بعيد الحرب كما أسلفنا. وهو إذ أطلق من سجنه في الثلاثين من عمره، استأنف أواسط العشرينيات حياته الأدبية بعدما كتب أعمالاً عدة داخل السجن منها مسرحيته الأشهر "الجماهير والإنسان" (1920). وهو عرف نجاحاً وشهرة أواخر العشرينيات لكن حياته الزوجية مع الممثلة كريستين غراوتوف أخفقت، كما أنه أنفق ما جمعه من مال في مساعدة منفيي الحرب الإسبانية. وخلال عام 1933 أحرق النازيون كتبه مما اضطره إلى الهرب إلى الولايات المتحدة الأميركية منهكاً ويائساً من كل حرب ونضال. وهناك بعد أعوام من الجهود غير المجدية انتهى به الأمر إلى الانتحار على رغم نجاحات سيرى كثر بعد رحيله أنه تمكن من تحقيقها في نيويورك.