Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الموت وحيدا... كيف تسلل هذا الوباء إلى المجتمعات المعاصرة

خلال العام الماضي فقط، عُثر على 9 آلاف شخص بعد أسبوع في الأقل من وفاتهم بمفردهم في بريطانيا. نناقش في الآتي كيف قادت مجتمعاتنا التي تزداد تفككاً إلى موت كثيرين وحيدين من دون عزاء ومن دون أن يتذكرهم أحد.

أصبح موت المرء وحيداً دون أن يتم اكتشافه مشكلة كبيرة في اليابان حتى أن هناك كلمة تصف الأمر: كودوكوشي (غيتي)

ملخص

هي مشكلة تؤثر على نحو كبير في الرجال الذين تجاوزوا سن الـ60 بمعدل أعلى بكثير من النساء في الفئة العمرية نفسها - سبع وفيات لكل 100 ألف رجل مقارنة بـ 2.5 بالنسبة إلى كل 100 ألف امرأة – وتؤثر على أولئك الذين يعيشون ضمن المدن بشكل أكبر ممن يسكنون في مناطق الضواحي.

إنه أبشع كابوس بالنسبة إلى كثير من الناس: أن تموت وحيداً، أو كما قالت الشخصية الخيالية بريدجيت جونز، "وحيداً، يتم اكتشافه بعد ثلاثة أسابيع وقد أكلت الكلاب نصف جسده".

لكن الظاهرة المأسوية المتمثلة في موت الأشخاص وحيدين في منازلهم، حيث يكونون في عزلة اجتماعية تجعل موتهم يمر من دون ملاحظة لأيام أو أسابيع أو أشهر أو حتى أعوام، ليست مجرد حوار من فيلم سينمائي يعلق في الأذهان. إنها حقيقة تزداد وضوحاً في بعض الدول.

هناك بعض الأمثلة الرهيبة التي تجذب انتباهنا، مثل حالة جويس فينسنت. شابة كانت في الـ38 من عمرها، عُثر على جثتها في لندن عام 2006، بعد أكثر من سنتين على وفاتها، مما صدم البلاد بأكملها وألهم فيلم "أحلام حياة" Dreams of a Life المؤثر والرقيق من إخراج كارول مورلي. وهناك الحالات الأكثر شيوعاً التي لا تتصدر عناوين الأخبار ولا يتم تحويلها إلى أفلام، لكنها لا تقلّ إيلاماً.

يكثر مثل هذه الحالات في اليابان، حيث ينتشر وباء يُعرف بـ"الموت وحيداً" بصورة متزايدة، إلى درجة أن أصبح له مصطلح خاص: "كودوكوشي". وفقاً لأرقام جديدة أصدرتها الشرطة اليابانية، فإن نحو 22 ألف مواطن توفوا وحيدين من دون أن يلاحظهم أحد خلال الأشهر الثلاثة الأولى من عام 2024، ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 68 ألفاً بحلول نهاية العام. ويمثل هذا الرقم نحو أربعة في المئة من إجمالي الوفيات السنوية في اليابان، البالغ عددها 1.59 مليون وفاة.

ويرجع ذلك جزئياً إلى شيخوخة السكان، إذ كانت نسبة 80 في المئة من أولئك الذين تم اكتشافهم في نهاية المطاف بعمر 65 سنة أو أكثر، إضافة إلى أن عدداً متزايداً من الناس يقضون سنواتهم الأخيرة يعيشون بمفردهم. فبين عامي 2015 و2020، ارتفعت نسبة الأشخاص الذين يعيشون وحيدين بنسبة 13.3 في المئة لتشكل 38 في المئة من جميع الأسر في اليابان، ويندرج أكثر من 7.38 مليون شخص فوق سن 65 ضمن هذه الفئة السكانية.

وقال وزير الصحة الياباني كييزو تاكيمي: "من المؤكد أن تزداد احتمالية الموت وحيداً في المجتمع من الآن فصاعداً... من المهم أن نتعامل مع هذه القضية بجدية".

 لكن اليابان ليست وحدها في هذا المأزق. فوفقاً لمنظمة "إيج يو كيه" الخيرية، فإن 4.2 مليون شخص ممن تجاوزوا الـ65 من العمر يعيشون بمفردهم في المملكة المتحدة، مما يمثل نحو 7.5 في المئة من إجمالي السكان. وما يثير القلق أكثر ربما هو أنه ما يزيد على مليون شخص مسن يعبرون عن شعورهم بالوحدة ويقولون إنهم قد يقضون أكثر من شهر من دون التحدث إلى صديق أو جار أو أحد أفراد الأسرة.

 

تقول كارولين أبرامز، مديرة مؤسسة "إيج يو كيه" الخيرية: تسلب الوحدة الفرح من حياة كثيرين منا مع تقدمنا في العمر... يمكن أن تقوض القدرة على تحمل ضغوط الحياة وتجعلنا نشعر بالانفصال وأنه تم التخلي عنا".

ومنذ وباء كورونا، كانت هناك زيادة ملحوظة في الوحدة المزمنة – وهو مصطلح يصف الذين يجيبون بـ"غالباً" أو "دائماً" عن سؤال "كم تشعر بالوحدة؟" في استطلاعات المكتب الوطني للإحصاء. ووفقاً لتحليل أجرته "حملة إنهاء الوحدة"، ارتفع عدد الأشخاص الذين يعانون الوحدة من ستة إلى 7.1 في المئة من السكان بين عامي 2020 و2023، مما يعني أن نصف مليون شخص إضافياً في المملكة المتحدة يشعرون بالوحدة المزمنة مقارنة بالسنة الأولى التي شهدت فرض قيود بسبب الوباء.

ليست الوحدة مجرد عبء على صحتنا النفسية، بل إن تأثيراتها السلبية تمتد لتشمل صحتنا الجسدية أيضاً. فتشير الأبحاث إلى أن الوحدة ترتبط بارتفاع ضغط الدم واستجابات التوتر الحادة، وتؤدي إلى تدهور جودة النوم، بل تزيد من خطر الوفاة المبكرة بنسبة 26 في المئة، وفقاً لـ "حملة إنهاء الوحدة". بالتالي، فإن الوحدة بحدّ ذاتها قد تزيد من احتمالية "الموت وحيداً".

هذه العزلة الاجتماعية، إضافة إلى ازدياد عدد كبار السن الذين يعيشون بمفردهم، أدت إلى نمو مقلق لظاهرة "كودوكوشي" في المملكة المتحدة، كما يشير بحث نشر عام 2023 يدرس حالات الوفاة في إنجلترا وويلز.

تسلب الوحدة الفرح من حياة كثيرين منا مع تقدمنا في العمر

كارولين أبرامز "إيج يو كيه"

 

من خلال تحليل بيانات المكتب الوطني للإحصاء، توصل الفريق بقيادة الدكتورة لوسيندا هيام من جامعة أكسفورد والطبيب الشرعي الدكتور ثيودور إسترين سيرلوي إلى ملاحظة اتجاه مثير للقلق، إذ ارتفعت الحالات التي يتم فيها العثور على جثث أشخاص متوفين في وضع تحلل – أي لم يتم اكتشافها لمدة أسبوع أو أكثر – بصورة مطّردة منذ عام 1979.

ولانعدام وجود طريقة رسمية لتسجيل وفاة الجثث المتحللة في المملكة المتحدة، قام الفريق بتطوير خوارزمية ترتبط بالوفيات المسجلة كـ "غير محددة" أو "غير مؤكدة"، وهي الحالات التي لم يتم فيها تحديد سبب الوفاة نظراً إلى تحلل الجثة.

حتى هذه الأرقام، تعكس جزءاً بسيطاً فقط من مشكلة "الموت وحيداً"، كما يجادل الدكتور إسترين سيرلوي، فتبرز فقط الحالات الأكثر تطرفاً من هذا الطيف. ويقول: "يعيش كثير من الناس في عزلة اجتماعية، لكنهم يصابون بمرض يتطلب نقلهم إلى المستشفى قبل وفاتهم أو يتم العثور على جثثهم في غضون أقل من أسبوع، حين يمكن تحديد سبب الوفاة. لا تشمل دراستنا هؤلاء الأشخاص".

وحتى مع التقديرات الأكثر تحفظاً في بحثه، فإن عدد الأشخاص الذين يموتون وحيدين ولا يتم اكتشافهم لمدة أسبوع أو أكثر ارتفع بصورة كبيرة خلال الـ 50 عاماً الماضية – من 0.1-0.2 لكل 100 ألف شخص في أواخر السبعينيات إلى أربعة لكل 100 ألف شخص عام 2022. وكان الارتفاع الأكثر حدة من منتصف التسعينيات وحتى منتصف العشرية الأولى في الألفية، لكن المعدل مستمر في الصعود بصورة مطّردة منذ ذلك الحين. ووفقاً لأحدث نتائج بحث الدكتور إسترين سيرلوي، فإن العدد الإجمالي لـ "الوفيات الوحيدة" المسجلة رسمياً تراوح ما بين 8 و9 آلاف العام الماضي.

 

إنها مشكلة تؤثر على نحو كبير في الرجال الذين تجاوزوا سن الـ60 بمعدل أعلى بكثير من النساء في الفئة العمرية نفسها - سبع وفيات لكل 100 ألف رجل مقارنة بـ 2.5 بالنسبة إلى كل 100 ألف امرأة – وتؤثر في أولئك الذين يعيشون ضمن المدن أكثر ممن يسكنون في مناطق الضواحي. وأظهرت دراسة واحدة أن حالات الوفيات الوحيدة في وسط لندن تبلغ ضعف تلك التي تحدث في مقاطعة هارتفوردرشير.

تتنوع النظريات حول الأسباب التي أدت إلى زيادة هذه الأنواع من الوفيات، بدءاً من تأثيرات مدد الإغلاق الطويلة التي رافقت وباء كورونا، وصولاً إلى اعتماد المجتمع على الرقمية إذ تم استبدال التفاعلات البشرية اليومية الصغيرة التي كنا نعتبرها أمراً بديهياً. وكذلك ذُكرت التركيبة المتغيرة للأسر وانهيار الشبكات الاجتماعية الرسمية وغير الرسمية وزيادة معدلات الطلاق، ومن المحتمل أن يكون الأمر نتيجة لتضافر عوامل متعددة.

ومن المتوقع أن تزداد المشكلة سوءاً فقط. فمع استمرار شيخوخة سكاننا، من المتوقع أن نتجه نحو تركيبة سكانية خلال العقود المقبلة تكون شبيهة لتللك الموجودة في اليابان وكوريا الجنوبية، حيث يمثل الأشخاص الذين تجاوزوا سن الـ50 نصف السكان. ويقول الدكتور إسترين سيرلوي: "لا شيء من بياناتنا يشير إلى أن هذه المشكلة تتلاشى... مع تغيير تركيبة سكاننا ومعدل الخصوبة مع مرور الوقت ليصبحا أكثر تشابهاً باليابان، وبناء على بياناتنا والاتجاهات، أتوقع أننا سنواجه احتمالات أكبر لظاهرة الـ ’كودوكوشي’ في العقود المقبلة".

لكن على رغم مواجهة المملكة المتحدة مستقبلاً مشابهاً لليابان، إلا أنها لا تعترف حتى الآن بالمشكلة بالطريقة نفسها. أدى الوعي بالمشكلة في اليابان إلى إطلاق دوريات اجتماعية ومبادرات خاصة من قبل سلطات الإسكان. على سبيل المثال، في حي توكيواديرا الياباني في الحزام المروري لطوكيو، أنشأت جمعية السكان خطاً ساخناً للذين يشعرون بقلق تجاه جيرانهم لتنبيه السلطات، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة "ذا غارديان". كذلك بدأت المجمعات السكنية حملة "إنهاء الوفيات الوحيدة" قبل 10 أعوام.

يؤكد خبراء أنه يجب علينا أيضاً مواجهة أزمة الوحدة هذه. وتدعو مؤسسة "إيج يو كيه" الخيرية إلى تغيير شامل على المستوى الوطني. تقول أبرامز: "يجب على الحكومة أن تجعل من منع الوحدة ومواجهتها أولوية سياسية، وتدعمها بالتمويل اللازم لمساعدة كبار السن في تجنب الوحدة أو في إعادة الاتصال بالنسبة إلى أولئك الذين يعانون الوحدة بالفعل... نحن في ’إيج يو كيه’  ندعو الحكومة المقبلة إلى القيام بدور رائد في إعادة صياغة استراتيجية وطنية جديدة لمكافحة الوحدة، يتم تنفيذها من قبل وزير متفرغ وتكون مدعومة بفريق حكومي متعدد الاختصاصات".

على المستويين المحلي والشخصي، تسلط الجمعية الخيرية الضوء على أنه يمكن لكل واحد منا "القيام بدوره"، من خلال مراقبة أصدقائنا وجيراننا وأقاربنا المسنين، وإجراء محادثات ودية مع كبار السن في الحافلة أو في المتجر، وتقديم المساعدة لجار مسن أو الاتصال بالأقارب بانتظام، "مما يمكن أن يكون له تأثير إيجابي أكبر مما نتوقع" كما تقول أبرامز التي تؤكد أنه في حال كانت لديك مخاوف فورية حيال سلامة شخص ما، يجب عليك التواصل مع الشرطة.

 لكن وعلى رغم عناوين الأخبار المليئة بالرعب التي يحتلها فقط الأشخاص الذين يبقون غير مكتشفين لفترة طويلة بصورة مزعجة - مثل قصة جويس فينسنت -، فإن المأساة الحقيقية للوفيات الوحيدة هي نتيجة الحياة الوحيدة.

يقول الدكتور إسترين سيرلوي: "أريد أن أدافع عن الموتى وأتحدث نيابة عنهم، من أجل كرامتهم... إن موت الأشخاص من دون أن تتم ملاحظتهم أمر مخيف ومحزن بحد ذاته - لا أحد يرغب في الموت وحيداً -، لكن إذا تم التغافل عن موت شخص ما، فهذا يعني أنه ربما تعرض للنسيان والإهمال في حياته أيضاً. إنه الجزء الأخير والبسيط من مشكلة كبيرة تؤثر في المجتمع: زيادة العزلة الاجتماعية للناس من جميع الأعمار".

© The Independent

المزيد من منوعات