Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الطائفة الإسرائيلية"... الخروج الأخير لليهود من لبنان

مع إرهاصات الحرب الأهلية غادروا البلاد إلى أوروبا والولايات المتحدة

الطائفة الإسرائيلية هي إحدى الأقليات التي اندثرت في أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية (اندبندنت عربية)

ملخص

يعترف القانون اللبناني بالطائفة الإسرائيلية، وهي إحدى الأقليات التي اندثرت في أعقاب الحرب الأهلية، فيما يستمر وجودها مقتصراً على بعض المباني التراثية والكنس والمقابر التي يعاد ترميمها.

سرعان ما تتحول رحلة البحث عن "اليهودي الأخير" في لبنان إلى مهمة مستعصية للتنقيب عن آثار ما تبقى من هذه الجماعة التي اختارت أن تلتزم الظل أو اضطرت إلى ذلك، وفي الحقيقة، لم يعد لهؤلاء دور فاعل ضمن المجتمع اللبناني المتعدد. واضطر اليهود أو "الطائفة الإسرائيلية" كما يعرفها القانون اللبناني إلى المغادرة على مراحل، وما إن دنت إرهاصات الحرب الأهلية اللبنانية، حتى شهدت بيروت مغادرة غالبية أبناء هذه الطائفة إلى أوروبا أو الولايات المتحدة.

 

يهود الذاكرة

وبدأت رحلة البحث عن اليهودي الأخير من لوائح الشطب في مدينة طرابلس شمال لبنان، إذ خصصت صفحة بـ"الطائفة الإسرائيلية - المزراحية" في حي الزاهرية (طرابلس)، وتضم 31 اسماً. وتعيش الأحياء الداخلية من المدينة التي تضم طيفاً واسعاً من أبناء الطوائف المسيحية والإسلامية جواً من الهدوء. ويجهل كثر من الجيل الشاب حضوراً سابقاً للطائفة اليهودية في منطقتهم، ويسارعون للاستفسار عن هذا الموضوع من كبار السن مباشرة، ويستبعد أحد الناشطين في الزاهرية وجود أي يهودي يعيش في المدينة، فهو شارك في تنظيم أربعة انتخابات، ولم يشارك أحد منهم فيها.

من جهته، أكد المختار إيلي خرما أن "المخاتير لا يتلقون طلبات تسجيل أو شطب أحد من أبناء الطائفة اليهودية"، مرجحاً أن "قيودهم غير دقيقة لأنهم ما عادوا يهتمون بها بسبب مغادرتهم، وعدم وجود روابط مع البلد هنا"، واعتبر أن "سجلهم ميت ولا يتحرك في المطلق"، وقد بدأوا بالهجرة بعد عام 1967، ورحلوا عشية الحرب الأهلية عام 1975.

وتشهد ذاكرة المعمرين وكبار السن على حضور اليهود خلال القرن الـ20 في المدينة، وعلى دور منتج لهذه الجماعة في ميادين التجارة والطب والتربية والقطاع المصرفي في بيروت.

ويقول أنطون (94 سنة) "عاش اليهود في حارة النصارى (طرابلس)، وقرب منطقة فرن المير، وفي التربيعة. كانوا أقلية غير كبيرة، نحو خمس عائلات من آل مزراحي"، مضيفاً "عمل هؤلاء في التجارة، ولم تكن هناك مشكلات بينهم وبين الناس". ويضيف "منذ أكثر من نصف قرن تقريباً شهدت طرابلس على حدث مفاجئ، إذ استفاق أهالي المدينة على هجرة جماعية لليهود. لم يكونوا سيئين، كانوا على علاقات جيدة مع أهالي المدينة".

من جهتها، تتحدث نهلا (86 سنة) عن أن الحي كان يضم مختلف الطوائف "سكنت عائلة جوزيف المزرحاني (المزراحي) في المبنى المقابل لهم. ما كانوا كثيري الظهور الاجتماعي، أو التفاعل مع المحيط"، مكررة حادثة خروجهم المفاجئ من المنطقة، وعدم عودتهم إليها مطلقاً منذ ما قبل الحرب الأهلية.

 

البحث على الأطلال

تضم مدينة طرابلس آثاراً يهودية قليلة جداً، ولا يمكن الحديث عن "حي يهودي" بالمعنى الدقيق، إذ توجد بعض المحال والمساكن القديمة في حي الزاهرية.

وفي منطقة التربيعة (طرابلس) الشعبية تعيش عائلات في أحد المباني التي يقول كبار السن إنها من أملاك اليهود. ويشهد المبنى الحجري القديم على غنى المالكين السابقين. ويكشف الأب إبراهيم سروج عن مفاوضات سابقة جرت من أجل شراء ما يعتقد أنه كان كنيساً لليهود خلف كنيسة مار جاورجيوس لطائفة الروم الأرثوذكس من أجل توسعة الكنيسة، وإقامة مزيد من المنشآت الضرورية.

ويؤكد بعض قاطني الأملاك اليهودية أنهم مقيمون بصورة شرعية، ويجزم يوسف أن عائلته تمتلك سند إيجار بالبيت الذي تقطنه، وقد استأجرته من مالكيه اليهود منذ أكثر من 100 عام (قرابة 116 سنة).

حاضرون في تاريخ بيروت

وإبان إحصاء 1932، بلغ اليهود 0.4 في المئة من مجموع المواطنين في لبنان، وبلغوا 4003 مواطنين، وأشارت التقديرات غير الرسمية إلى ارتفاع أعداد اليهود اللبنانيين المقيمين وغير المقيمين في عام 2018 إلى 4805.

ويتحدث المؤرخ عبداللطيف فاخوري عن البعد الشامي ليهود لبنان، "ففي الفترة التي أعقبت سقوط غرناطة عام 1492، تعرضوا للتهجير برفقة المسلمين من إسبانيا - الأندلس إلى الدولة العثمانية، وأقاموا في دمشق بداية، وجاء جزء منهم لاحقاً إلى بيروت"، ملاحظاً أن "لهجة يهود بيروت كانت شامية".

وأقام اليهود في تجمعات ضمن وادي أبو جميل (وسط بيروت)، وقرب السرايا الحكومية، وكانوا يعيشون في بحمدون (جبل لبنان) خلال الموسم الصيفي. ويروي فاخوري "أقام هؤلاء كنيساً لهم قرب مسجد الأمير عساف في المنطقة المؤدية إلى السرايا الحكومية"، و"هذا دأب الأقليات الذين يعيشون قرب الحاكم لكي يؤمن لهم الحماية، ويرتبطون بعلاقات مع رجال السلطة". أما في ما يتعلق بالكنيس الواقع في منطقة وادي أبو جميل الذي تضرر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، فرممه يهود لبنان عام 2010. ويعود تاريخه إلى بدايات القرن الـ20، ويشير فاخوري إلى أنه في عام 1908 "منحت السلطنة العثمانية أرضاً للطائفة اليهودية من أجل إقامة كنيس لممارسة طقوسهم بعد أن بلغ عددهم 70 يهودياً، على أن يتحمل أغنياء اليهود كلفة بنائه"، ويتطرق فاخوري إلى مقبرة اليهود التي ما زالت قائمة في حي السوديكو (بيروت)، وتعد مؤشراً إلى وجود أوقاف خاصة بهم.

وانتمى اليهود إلى الطبقة الغنية، لأنهم عملوا في التجارة والصيدلة والطب والدواء.

جزء من الحياة العامة

ويقدم فاخوري تصوراً متفائلاً للتعايش السلمي في بيروت "إذ ظل اليهود موجودين حتى بعد قيام دولة إسرائيل، ولم يحاربوا كأتباع ديانة أو دولة معادية، إلا أنهم بعد حرب 1967 راحوا يهاجرون إلى أوروبا وأميركا بسبب زيادة الاحتقان الأهلي"، متحدثاً عن عامل أسهم بتأخير خروجهم من لبنان "فقد كانوا يستأجرون المؤسسات في وسط المدينة، وكان القانون القديم لا يسمح للمستأجر أن يتنازل عن المأجور إلا بموافقة المالك الذي كان يطلب مبلغاً كبيراً من المال، وظل الأمر كذلك إلى حين صدور قانون في الـ11 من يوليو (تموز) 1967 حول ملكية المؤسسة التجارية، الذي كأنه فصل لأجلهم، فقد سمح النص الجديد ببيع المؤسسة لمن يشاء من دون موافقة المالك الذي يبقى له إما التملك بالأفضلية، أو الطلب من المستأجر الجديد زيادة البدل. وقد تمكن اليهود من بيع مؤسساتهم والسفر مستفيدين من القانون الجديد. أما في ما يتعلق بباقي الأملاك فلم تصادرها الدولة اللبنانية لعدم وجود سبب للمصادرة، فيما يدير باقي الأملاك مفوض رسمي من قبلهم". لذلك يفضل المؤرخ عبداللطيف فاخوري الحديث عن خروج اليهود وليس تهجيرهم، "لأنهم لم يتعرضوا لاستهداف منظم"، معتبراً أنهم "بعد ما ارتكبته إسرائيل من جرائم ضد العرب لم يعودوا مطمئنين ففضلوا السفر والهجرة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويعود فاخوري إلى الذاكرة البيروتية، ويتحدث عن معاملات جيدة بين التجار اليهود وأبناء بيروت، فقد كان البيارتة يوكلون المحامي اليهودي في تسيير أعمالهم، كما "كانوا يستعينون بالدكتور (طبيب) سالومان لختان أبنائهم الذكور، وفي حال عدم وجوده يقصدون طبيباً يهودياً آخر يدعى شمس في وادي أبو جميل لأنه طقس مهم ومشترك بين المسلمين واليهود"، وكانوا يشرفون على الذبح الحلال، مستحضراً طقوساً يهودية لافتة كمشهد تشييع موتاهم ودفنهم مسرعين.

كما امتلك اليهود مدارسهم الخاصة والناشطة ثقافياً في بيروت، وكانت مدرسة "الأليانس" التي أسست عام 1875 من أهم مدارس بيروت، ورأسها الحاخام جاكي كوهين، واستمرت في العمل إلى ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية.

اهتمام خاص

وخصص الباحث الراحل ناجي زيدان قسطاً واسعاً من عمره للبحث في تاريخ اليهود اللبنانيين، وكتب كتاباً بالفرنسية "يهود لبنان، من إبراهيم إلى يومنا هذا، تاريخ جماعة مختفية". وقدم تأريخاً لأهم الحقب، مخصصاً جزءاً من الكتاب لتوثيق أبرز المحطات في حياة وجوه يهودية لبنانية بارزة، منذ ظهور الديانة وصولاً إلى ترميم كنيس صيدا في 2018.

وأظهر زيدان دورهم في نشأة القطاع المصرفي على يد يعقوب صفرا الذي سكن بيروت مع عمه عزرا، بدءاً من عام 1920 قادماً من حلب، إذ أنشأ مصرفاً صغيراً في أحد شوارع بيروت.

كما برزت عائلة آل زيلكه وهي عائلة يهودية من جذور عراقية، وعينت الدولة العثمانية في عام 1911 نعيم زيلكه قاضياً في محكمة الاستئناف في بيروت، وقد تعاظم دور هذه العائلة التي أسست مصرفاً خاصاً بها عام 1927، واستمر في عهدتهم إلى عام 1958، عندما قررت لويس باشي زوجة خضوري زيلكه، بيع المصرف إلى شقيقها، وليصبح اسمه "المؤسسة المصرفية للبنان". ويبرز الكاتب أدواراً لأطباء مثل جوزيف عطية وهانس بريس وإيروين وايل وآخرين.

ويشير الأكاديمي مروان أبي فاضل إلى الحضور اليهودي المحدود في المشهد الثقافي اللبناني مقارنة بالمسلمين والمسيحيين، وتأثر ذلك بحجمهم الديموغرافي، ولم يكن لهم دور مؤثر في لبنان "ولم يحتكروا أنشطة اقتصادية وتجارية معينة كما كان يحدث في أوروبا، ولم يكن لهم مشروع سياسي واضح المعالم"، وينوه بعدم تجمع اليهود في مكان محدد في لبنان، ويشدد أبي فاضل على أن "جو التعايش في لبنان والميل نحو التسامح لم يجعلا اليهود في مواجهة مع القمع والحيلولة دون ممارسة شعائرهم، على خلاف الممالك المسيحية في أوروبا التي كانت تفرض عليهم شروطاً قاسية"، لذا "لم يتعرض يهود لبنان لأي اضطهاد أو استهداف مباشر إذ يحافظون على موقعهم القانوني كطائفة معترف بها، كما أن العمارة اليهودية على ضآلتها ما زالت تحافظ على وجودها، ولم تتعرض للطمس في المدن الكبرى".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات