Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انتخابات فرنسا... معركة مؤجلة أم لا نهاية للتاريخ

"الفكر الغربي الذي تبلور تدريجاً مع فكرة الاتحاد الأوروبي قاد أوروبا في مسار ليبرالي منطقي مع فكرة التعايش والعولمة والتعاون بين دول القارة"

المشكلة التي يجب على ماكرون التعامل معها هي أن عليه أن يقود تحالفاً من جانب مهم من اليسار لكي يستطيع تحقيق استقرار نسبي (رويترز)

ملخص

من المتفق عليه أن ثمة عوامل معقدة قادت إلى بروز ظاهرة الفكر اليميني المتشدد في الغرب، وفي الحقيقة إنه تبسيط للأمور النظر إلى هذه الظواهر بوصفها ظواهر جديدة حتى لو حللنا مكونات هذا التيار السياسي إلى مفردات عدة، فحقيقة الأمر أنه كان تياراً مصاحباً للفكر الإنساني تاريخياً بل كان سائداً بدرجة أو بأخرى في المجتمعات الغربية التي عاشت مفاهيم الاستعمار التقليدي والعنصرية.

لم يتوقف المراقبون عن رصد ظاهرة صعود أقصى اليمين في الغرب وخصوصاً في أوروبا، وتصاعد القلق في أوساط أوروبية ودولية عدة بعد ما حققه اليمين الفرنسي في الجولة الأولى للانتخابات الفرنسية، على أن الجولة الثانية من انتخابات فرنسا النيابية وقبلها انتخابات المملكة المتحدة ربما تكون حافزاً منطقياً لمراجعة التعميمات بهذا الصدد، والتريث في محاولة فهم عالم لا يتوقف عن التعقد والغرابة.
وكانت التوقعات بأن "المحافظين" سيخسرون في بريطانيا ولكن نادراً ما توقع أحد أن حزب العمال سيعود بهذه الغالبية الضخمة. وفى فرنسا كان الموقف واضحاً من خلال التحالفات والمناورات التي قام بها اليسار وحزب ماكرون (يمين الوسط أو اليمين الليبرالي)، فضلاً عن عملية تعبئة المجتمع الفرنسي لمواجهة صعود كتلة مارين لوبن اليمينية في الجولة الأولى للانتخابات.

خصوصية فرنسية

ولفرنسا على رغم تراجع وزنها السياسي والاقتصادي النسبي في العقود الأخيرة أهمية خاصة بالنسبة إلى الاتحاد الأوروبي، فهي الدولة التي لعبت دوراً رئيساً في بلورة الفكرة الأوروبية والشريكة في قيادتها مع ألمانيا عبر عقود ممتدة، والدولة التي بلورت عبر مفكريها وتجربتها السياسية والتاريخية كثيراً من قيم الليبرالية والديمقراطية الحديثة. ومن ثم كان صعود اليمين ممثلاً في "التجمع الوطني" بقيادة مارين لوبن مصدراً لقلق أوساط غربية عدة. ومن الضروري ملاحظة أن ظاهرة لوبن تتسم بدرجة عالية من الإصرار والتواصل الذي لا يمكن تجاهله، فعلى مدى أعوام طويلة لم تغب لوبن عن الساحة السياسية في فرنسا. وحتى بعد هزيمتها الأخيرة وتراجعها إلى المركز الثالث في الجمعية الوطنية الفرنسية أطلقت تصريحات لا يمكن تجاهلها، والترجيح أنها ستعود لأن الأطراف الحاكمة ومن تكتلوا ضدها ليس بمقدورهم الإجابة عن الأسئلة الكبرى لمشكلات فرنسا، وتحديداً ليست لديهم الشجاعة لعمل ذلك، وتتعلق هذه التحديات بجوانب عدة منها القدرة الشرائية والأوضاع الاقتصادية عموماً والأهم قضايا الهجرة والأقليات، فضلاً عن مسألة الاتحاد الأوروبي ذاته.
وفي الحقيقة أن تعقيدات فرنسا لم تنته بعد والمشكلة التي يجب على ماكرون التعامل معها – وهو لم يثبت مهارة وكفاءة سياسية لافتة على رغم ولايته الثانية - أن عليه أن يقود تحالفاً من جانب مهم من اليسار لكي يستطيع تحقيق استقرار نسبي، وأن يتخذ قرارات بعضها مناقض لسياساته منذ توليه الحكم أي ببساطة أن يدير دفة حكم معقدة، وإذا لم ينجح سيغامر بعودة أقوى لأقصى اليمين وسيفقد ثقة باقي مكونات المجتمع الفرنسي، أي قد يصبح ما تحقق في الدور الثاني من الانتخابات الأخيرة نجاحاً قصير الأجل يؤدي إلى هزيمة كبرى لمصلحة التمهيد لليمين، الذي مورست كل هذه المناورات من أجل منعه من الوصول إلى الحكم.

لماذا صعد اليمين وهل سيختفي؟

من المتفق عليه أن ثمة عوامل معقدة قادت إلى بروز ظاهرة الفكر اليميني المتشدد في الغرب، وفي الحقيقة إنه تبسيط للأمور النظر إلى هذه الظواهر بوصفها ظواهر جديدة، حتى لو حللنا مكونات هذا التيار السياسي إلى مفردات عدة فحقيقة الأمر أنه كان تياراً مصاحباً للفكر الإنساني تاريخياً، بل كان سائداً بدرجة أو بأخرى في المجتمعات الغربية التي عاشت مفاهيم الاستعمار التقليدي والعنصرية، ولم يكن ينافسها فكر آخر إلا بصورة محدودة، وكان لأحزاب اليسار الأوروبي وبخاصة في بريطانيا وفرنسا مواقف أقل تشدداً وعنصرية في معاملة الشعوب المستعمرة، ولكنها لم تجرؤ أبداً على أخذ خطوات جادة لمنحها الاستقلال والحرية، ولكنها في الأقل بلورت أفكاراً أكثر إنسانية واستعداداً لقبول الآخر وبصور نسبية متفاوتة.
ولكن الفكر الغربي الذي تبلور تدريجاً مع فكرة الاتحاد الأوروبي قاد أوروبا في مسار ليبرالي منطقي مع فكرة التعايش والعولمة والتعاون بين دول القارة، ومن ثم أصبحنا أمام أوروبا الراهنة، وتعمق هذا بدرجة كبيرة مع مكون آخر وهو الحاجة لعمالة أجنبية وخاصة من المستعمرات السابقة للاحتفاظ بالنفوذ الاقتصادي والثقافي في هذه الدول، في منظومة معقدة بعضها محل سيطرة وبعضها خرج عن السيطرة، ومن المؤكد أن أوروبا كانت تحتاج إلى عمالة رخيصة وبخاصة في الوظائف الدنيا وكانت في حاجة إلى كوادر الجنوب وغيرها، حتى من دول أوروبية أخرى في العملية المعروفة غربياً باستنزاف العقول والكفاءات. ولدى المملكة المتحدة ودول العالم الجديد في أميركا الشمالية وأستراليا نظم هجرة وقوانين خاصة بهذا الصدد، وأسفر كل هذا عن مجتمعات أوروبية مختلفة تماماً عما كانت عليه حتى ربما سبعينيات القرن الماضي، وبخاصة في المدن الأوروبية الكبرى.
ومن قلب هذه الأوضاع الجديدة نما تياران في كل العالم الغربي، تيار ليبرالي مغال في ليبراليته تعرض لتوظيفه في حالات كثيرة من الاستخبارات الغربية لمصلحة إحداث التغيير السياسي المواتي للغرب خارج العالم الغربي، وتيار آخر يميني شعبوي يخشى تراجع مزايا المواطنين الغربيين الأصليين وانتهاء سيطرتهم. وامتدت مخاوفه ليس فقط تجاه المهاجرين الملونين بل حتى تجاه الأوروبيين من وسط وشرق أوروبا الذين يعملون في الغرب، وللمفارقة أن التوجهات نفسها انتشرت في بعض مجتمعات وسط أوروبا كالمجر التي يحكمها الآن تيار يميني قومي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى صعيد عملي، تتمثل المفارقة الكبرى بالمجتمعات الأوروبية في أن هؤلاء المهاجرين في معظمهم يشكلون قوة عمل رئيسة لا يستغنى عنها في كثير من الوظائف وليس فقط الوظائف الدنيا، فهناك مثلاً وجود لهذه الأقليات في القطاع الطبي البريطاني بصورة لا يمكن تجاهلها كما أن جزءاً مهماً من الحيوية الرياضية والقوة الناعمة المرتبطة، والمكاسب المادية الطائلة لكثير من منتخبات وأندية الكرة وصناعتها الأوروبية تعتمد على هذه العناصر بصورة تثير الدهشة أحياناً من نسبة وجودها في هذه الفرق الرياضية.
ولكن كل هذا لم يشفع لدى التيارات اليمينية من الشكوى من البطالة ومزاحمة اللاجئين، ويمكن للمرء أن يتخيل أن نسبة لا يستهان بها من الذين يؤمنون بهذه الأفكار يشجعون بلا حدود منتخباتهم الملونة في الوقت نفسه، مثلما يرحبون بهجرة الكوادر الطبية المتميزة كذلك لبلادهم.
ومن ناحية أخرى دخلت منظومة الاتحاد الأوروبي على خط هذه المواجهة سواء بسبب أنها سمحت بل وأطلقت حركة انتقال للأفراد بين هذه الدول الأوروبية مما أثار تعقيدات إضافية، أو سواء لأن الفلسفة التي تسيطر على المنظومة الأوروبية تميل تقليدياً إلى التيار الليبرالي المنفتح، مما سيعني أنه سيكون هناك كثير من التساؤلات حول وصول أعداد متزايدة من النواب اليمينيين إلى البرلمان الأوروبي.

ليست هناك نهاية قريبة للتاريخ

وعندما أطلق المفكر الأميركي صامويل هنتينغتون مقالته حول نهاية التاريخ قاصداً بذلك انتصار النموذج الليبرالي الغربي وانهيار الفكر الاشتراكي وكل المدارس الشمولية، لم يستغرق الأمر طويلاً لكي نتبين أن الحياة والتاريخ أعقد من هذا وأن الصراع بين التيارات الفكرية ظاهرة تاريخية بشرية، وأنه يبدو مقدراً لها أن تستمر وليس منظوراً في القريب العاجل حدوث ما يخالف ذلك. واليوم ثمة تجارب ونماذج تثير تقديرات متباينة في كل من الصين وروسيا، وعلى رغم تحفظات كثيرين هناك إعجاب من آخرين، وعلى صعيد أضيق تبدو المواجهة داخل الديمقراطيات الغربية بين التيارين الليبرالي واليميني ممتدة معنا لبعض الوقت، فعلى رغم التراجع المفاجئ لليمين في فرنسا فإنه ليس واضحاً بعد أن هذا التراجع سيكون نهائياً أو مستقراً، وما زال هناك كثير من التفاعلات والتحولات التي قد نشهدها في المستقبل.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل