Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"المحررة"... كتاب يعيد الجدل حول مهام "جراحي النصوص"

سردت مؤلفته حياة أسطورة النشر جوديث جونز وكيف صاغت الثقافة في أميركا

جوديث جونز في منزلها (مواقع التواصل)

ملخص

لعل ذلك الدور هو أحد أكثر الأدوار التي تحيط مهنة المحرر بهالة أسطورية، هي هالة مكتشف العبقريات المغمورة ومنقذ المواهب من الضياع ومنتشل الجواهر من هوة العدم الشرهة إلى النفيس والرخيص على السواء. ولعل هذا الدور هو الذي سيجد كل محرر أنه مارسه يوماً ما، وبخاصة فور توليه منصبه.

"المحرر" في الغرب كلمة عامة لا تقل غموضاً عما هي عليه عندنا، ولذلك تتحدد بالوصف الوظيفي. ويمكن القول إن غالب من يعملون في دار نشر محررون، فمنهم المكلف تحديداً باجتذاب كتاب وكتب إلى الدار ومنهم قارئ المخطوطات المعني بقبولها للنشر أو رفضها ومنهم المكلف بمصاحبة الكاتب في رحلة تطويره للمخطوط المقبول للنشر، ومنهم من يعمل على المخطوط النهائي للتثبت منه معلوماتياً وتصحيح أخطائه من قبيل التواريخ وما إليها، ومنهم المصحح اللغوي ومنهم مراجع النسخ المختلفة، ومن المحررين أيضاً "الكاتب من الباطن" ويعرف اصطلاحاً بالكاتب الشبح ومنهم من يعرف بـ"طبيب الكتب" ويقع ما بين محرر تطوير المخطوط والكاتب الشبح. وربما هناك آخرون يقومون بأدوار أخرى.

أخيراً صدر كتاب باللغة الإنجليزية عنوانه "المحرر" مع عنوان فرعي لا يقل إثارة "كيف صاغت أسطورة النشر جوديث جونز الثقافة في أميركا" للكاتبة سارة فرانكلين عن دار آتريا في 360 صفحة.

ولدت المحررة "الأسطورية" جوديث جونز باسم جوديث فيفيلد بايلي وكانت الصغرى من أختين ونشأت على المسيحية، وكان ميلادها في بيت عائلة كبيرة مؤلف من طابقين في منهاتن، وبسبب اعتلال صحتها في طفولتها كانت كثيرة القراءة. غير أن أقل ما يشغلنا في كتاب "المحررة" هو سيرة حياة جونز بالذات أعني تفاصيل الميلاد والتعليم والزواج والوفاة. فما يعنينا هو المهنة نفسها وممارستها لها وإسهاماتها فيها.

وفي استعراضها للكتاب (نيويورك تايمز - الـ24 من مايو ’أيار‘ 2024) كتبت ألكسندرا جاكوبس أن جوديث جونز كانت جراحة نصوص نادرة المثال، تعد على نطاق واسع محررة طبخ. فهي التي قدمت لأميركا الطاهية الشهيرة جوليا تشايلد ونشرت نطاقاً عريضاً من الكتب التي تناولت مطابخ مختلفة من العالم لإدنا لويس ومادور جافري وكلوديا رودين وكثيرات غيرهن. و"واجهت نمط الزراعة الضخم. وأحيت الذائقة الوطنية بعد أن نالت منها الأطعمة الجاهزة في منتصف القرن".

وتضيف "غير أنه مثلما يوضح كتاب ’المحررة‘ على نحو مؤلم كثيراً ما يجري التهوين من إسهام جونز في تاريخ الأدب، ما لم يتعرض للإغفال تماماً. والغياب بطبيعة الحال جزء لا يتجزأ من وظيفة المحرر لكن ذكر جونز غالباً ما يثير نظرات بليدة حتى من أصحاب أوسع الصلات في المجال".

وتتابع "غير أننا مدينون لها بما لا يقل عن وصول كتاب ’اليوميات‘ لـ’آن فرانك‘ إلى ساحل بلدنا"، والإشارة هنا إلى كتاب "يوميات فتاة" الذي يضم يوميات كتبتها آن فرانك بالهولندية بينما كانت مختبئة مع أسرتها لعامين، خلال الاحتلال النازي لهولندا.

ويقدم إلروي روزنبرغ (مجلة تابلت – الـ21 من مايو 2024) مزيداً من التفاصيل عن دور جوديث جونز مع كتاب اليوميات، فيقول إن جونز كانت في الـ24 من العمر عندما انتقلت إلى باريس لتنضم إلى زمرة جور فيدال وتينيسي ويليامز وكريستوفر إيشيروود، ولتعمل محررة مساعدة في مكتب دار دابلداي الذي افتتح في باريس عام 1949، وثمة "في أحد الأيام وبينما كانت تقلب في كومة عالية من المخطوطات التي رفضها ناشرون آخرون، تمسكت جونز بواحدة منها تحمل علامة وجه فتاة صغيرة، هو الوجه الذي لا يزال حتى يومنا هذا يظهر على ملايين أغلفة الكتب كل عام بفضل جونز".

هالة أسطورية

ولعل ذلك الدور هو أحد أكثر الأدوار التي تحيط مهنة المحرر بهالة أسطورية، هي هالة مكتشف العبقريات المغمورة ومنقذ المواهب من الضياع ومنتشل الجواهر من هوة العدم الشرهة إلى النفيس والرخيص على السواء. ولعل هذا الدور هو الذي سيجد كل محرر أنه مارسه يوماً ما، وبخاصة فور توليه منصبه.

ويكتب روزنبرغ "علمت جونز فوراً أن الكتاب صالح للنشر وكان قد نشر بالفعل بالهولندية والفرنسية، وحدست أن من شأنه أن يحقق نجاحاً كبيراً في السوق الأنغلوفونية لو توافرت له ترجمة جيدة، فأصرت أن يعيد رؤساؤها النظر فيه وكان لرئيسها رأي آخر فبعث الكتاب إلى مكتب نيويورك، وبعد عامين من المفاوضات مع والد آن توصل إلى اتفاق نشر في أبريل (نيسان) 1951، وصدر الكتاب خلال عام 1952، ولما حقق نجاحاً كبيراً قالت جونز لرؤسائها في دابلداي إنها المسؤولة كل المسؤولية عن نشر الكتاب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتأسف سارة فرانكلين في (المحررة) على أن "جونز لم تلق أي تقدير على الدور الحاسم الذي اضطلعت به". وهذا على رغم أنه ـ فضلاً عن الذهول أمام عيني الفتاة الميتة ذات الـ12 سنة على غلاف المخطوطةـ لم يكن لجونز أي تأثير في ترجمة المخطوطة أو تحريرها أو تسويقها أو إصدارها".

ويكتب رونزبرغ أن فرانكلين تبدو غافلة عما قد يكون في هذه الحكاية من احتمال التقدير المغالى للذات، ويكتب أنها تعد جونز المسؤولة الروحية عن الكتاب وترى أنها سلبت حقها فيه. ولم تكن تلك الهزيمة الوحيدة في حياة جونز فقد كانت سلفيا بلاث هزيمة أخرى، إذ "كانت جونز انتهت من تحرير ديوان (العملاق وقصائد أخرى) وتنتظر بلهفة مخطوطة رواية (الجرس الزجاجي)، وكلا الديوان والرواية من أهم أعمال الشاعرة الأميركية سلفيا بلاث التي ماتت منتحرة بوضع رأسها في الفرن، منهية زيجتها التعيسة بالشاعر البريطاني تيد هيوز.

ويتابع "لما وصلت مخطوطة ’الجرس الزجاجي‘ أخيراً إلى جوديث جونز خلال عام 1961 أصابتها بالإحباط، فما كان منها إلا أن أحالتها إلى غيرها. ولم تمض أشهر إلا وانتحرت بلاث وتحول لهبها الأدبي من شمعة في مهب الريح إلى نار متقدة، فندمت جونز أشد الندم. وعلى رغم أن فرصة أخرى ستسنح لدار كنوبف مع ’الجرس الزجاجي‘ في أبريل 1963، لكن الدار سترفضها مرة أخرى على رغم توسلات جوديث جونز".

ويقول روزنبرغ إن تغيير جونز رأيها في الرواية لا يجعل منها صاحبة بصيرة ولا يجعلها أيضاً انتهازية خانت عبقرية كاتبتها وهي حية، لكنه يجعلها محررة أصابها الإحباط في بعض اللحظات من الحدود المفروضة على دورها.

ولعل من حدود المهنة التي أحبطت جونز أيضاً ما تكتب عنه فرانكلين في مقدمها من أن القراء قد لا يعلمون اسم جونز، لكنهم يعلمون كثيراً عملها. ويعلق روزنبرغ بقوله إننا "نعرف كتاب جونز أكثر مما نعرفها، لكن أليست هذه هي طبائع الأمور؟" ثم يقول إن هذه لم تكن طبائع الأمور دائماً، ففي وقت ما كان المحرر النجم معلوماً للناس عندما كانت مجلة (نيويورك رفيو أوف بوكس) تبيع 150 ألف نسخة، فكان الناس يعلمون نجوم التحرير من أمثال ويليام شون وبوب غوتليب وسوني ميهتا وجوردون ليش "أما جونز فلم تكن قط المحررة، بل محض محررة. وبعنوان كتاب فرانكلين المثير ناهيكم بحجمه يتوقع المرء من الكتاب أن يساعدنا في استيضاح معالم هذا الدور شديد الإرباك والغموض. فلماذا اختار جون أبدايك أن تكون جونز محررته؟ وما جوهر "اليد التحريرية البارعة" و"الحساسية الثقافية الرهيفة" التي تنسبها فرانكلين إلى جونز؟ هذا ما لا يجيب عنه كتاب ’المحررة‘". ولا عجب في ذلك لأن تخصص سارة فرانكلين الدقيق هو الطعام، وتقديرها الكبير لجونز قد يكون راجعاً في معظمه إلى إسهام جونز الكبير في كتب الطبخ.

ويمضي روزنبرغ فيكتب أن كل الأمور تنضبط في كتاب (المحررة) فور ظهور شخصية المحرر الأسطوري بحق روبرت غوتليب، فـ"في غضون عشر صفحات ينجح غوتليب في استئصال الخيوط الزائدة في فرضية فرانكلين بلا رحمة، واحداً تلو الآخر في عمل تخريبي رائع تزيد روعته بحقيقة أن فرانكلين هي التي أدرجته في كتابها طوعاً".

وانضم روبرت غوتليب إلى دار كنوبف نائباً للرئيس ورئيساً للتحرير، فانتهت جوديث جونز وهي تعمل تحت رئاسته على مضض، وتتضح "الفجوة بينهما وهي من بعض الأوجه فجوة بين العبقرية الفعلية ومحض الكفاءة من خلال بعض الحكايات. ومنها أن جونز نصحت غوتليب عام 1971 بعدم نشر ’الأعمال الشعرية الكاملة‘ لفرانك أوهارا... غير أن غوتليب تجاهلها، وفي العام التالي حصل الكتاب على الجائزة الوطنية للكتاب".

 

وفي استعراض ألكسندرا جاكوبس للكتاب تقول إننا مدينون لجونز "بكل إنتاج جون أبدايك تقريباً. ومثله آن تايلر"، وتمضي ألكسندرا جاكوبس فتكتب أن جوديث جونز "من خلال العمل مع عشرات المؤلفين الآخرين المدرجين في قائمة بالكتاب، عززت سمعة دار كنوبف وحافظت لها على مكانتها باعتبارها دار النشر الأعلى مقاماً في البلد، وجنت لها أيضاً أموالاً طائلة".

وحينما يقول روزنبرغ إن ظهور غوتليب في كتاب (المحررة) يضبط كل شيء، فلعله يضبط أمثال هذه الإشارات إلى دور جونز في حياة أسماء كبيرة في قامة آبدايك وتايلر، إذ ينسب الكتاب إلى غوتليب قوله عن دور التحرير مع تايلر إنه "لم يكن من عمل يمكن القيام به لها إلا إهداؤها سترات لطيفة ونشر كتبها. لا أعتقد أن غالب كتاب جوديث الأدباء كانوا يحتاجون إلى التدخل التحريري أو يريدونه أو يقدرونه". وهذا ما تعده فرانكلين دليلاً على "تشويه" غوتليب لجونز و"تقليله من شأنها" لكنه بالنسبة إلى البقية منا أمر منطقي. وهو أقرب ما يمكن قوله في ما يقوم به المحررون، فهم "في الغالب لا يفعلون شيئاً" بحسب ما قال روبرت غوتليب لسارة بي فرانكلين.

ويبقى أمر آخر لم تقف أمامه المقالات التي تناولت (المحررة) وهو العنوان الفرعي، كيف صاغت أسطورة النشر جوديث جونز الثقافة في أميركا؟

قد نقبل في حق رسول أو فيلسوف راسخ أن يقال إنه صاغ ثقافة بلده أو حتى العالم كله في عصر ما. قد نقبلها في حق كاتب طاغي الحضور. وأقول "قد نقبلها" لأن الثقافة لا يصوغها فرد ولكنه في أحسن الأحوال وأندرها يكون صاحب إسهام ضخم في صياغتها، ولكن محرر؟ شخص لا يكاد القراء يعرفونه أصلاً ويندر أن يعرفه من الكتاب إلا الذين يتعاملون معه مباشرة؟ شخص غير منتج للثقافة بنفسه لكنه واضع رتوش في أفضل الحالات، هذا ما أتصور أنه صعب القبول.

لكن لو تخيلنا دار نشر عملاقة وواحدة من خمس دور هي التي تتحكم في صناعة النشر الأميركية، وتخيلنا محرراً أساساً في أحدها فـ"قد" يمكن أن نتقبل العنوان، لكن في حق شخص مثل روبرت غوتليب لا في حق جوديث جونز ما لم نكن متخصصين في الطعام شأن فرانكلين، لكن حتى حينما نتقبل إمكانية أن يحظى محرر بهذه القدرة، فقد يزيدنا هذا قلقاً من منح شخص واحد كل هذه السلطة.

العنوان: THE EDITOR: How Publishing Legend Judith Jones Shaped Culture in America 

تأليف: Sara B. Franklin 

الناشر: Atria 

اقرأ المزيد

المزيد من كتب