ملخص
من المتوقع أن تتضح دوافع كروكس وراء محاولة اغتيال ترمب خلال الأيام المقبلة، لكن بالنسبة إلى كثير من أنصار شعار "اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى"، فإن انتماء المسلح السياسي وما آمن به فتحا الباب أمام العديد من نظريات المؤامرة
الدماء التي سالت على وجه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب كانت بمثابة تذكير صادم وصارخ بالحدود الهشة والخط الأحمر الدقيق الذي يفصل ما بين الديمقراطية والفوضى المدمرة، حتى داخل أقوى دولة في العالم.
الرصاصة التي أطلقها المسلح كانت قد أصابت الأذن اليمنى للرئيس السابق قبل أن يُهرع عملاء المخابرات إلى المنصة ويسحبونه من المكان لحمايته.
قد تسهم صورة ترمب وهو يرفع قبضته متحدياً فيما كان مصاباً بجروحه، ونجوم العلم الأميركي وخطوطه تحلق فوقه، في تعزيز فرص إعادة انتخابه وعودته للبيت الأبيض.
لو انحرفت الرصاصة التي أصابت الرئيس السابق مسافة بوصة واحدة فقط لكان من الممكن أن تقتله، وربما إغراق أميركا في أعمال عنف واسعة النطاق وتمرد وحتى حرب أهلية ثانية، نظراً إلى الانقسامات المريرة في البلاد والسكان المدججين بالسلاح.
واجهت الولايات المتحدة هذا الخطر في وقت متأخر من ظهيرة يوم شديد الحرارة في ولاية بنسلفانيا، حيث احتشد عشرات آلاف الأفراد لساعات في ساحة معارض "باتلر فارم" Butler Farm منتظرين وصول دونالد ترمب، وفي ظل غياب أماكن ظل كافية للاحتماء من الحرارة قام المسعفون بالتنقل وسط الحشد، فيما كان كبار السن يكافحون تحت أشعة الشمس الحارقة، وكانت القبعات التي تحمل شعار "اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى" MAGA، تُرفع بين حين وآخر عن رؤوس المشاركين لمسح جباههم من العرق.
إلا أن الخمول الذي كان طاغياً في البداية على الحشد المنتظر في مكان التجمع سرعان ما تحول إلى حماسة شديدة عندما اعتلى ترمب المنصة ودخل كعادته في النمط الاستعراضي المعتاد الذي تتسم به تجمعاته.
هلل أنصاره لادعاءاته المتفاخرة وأطلقوا صيحات الاستهجان عند ذكره اسم الرئيس الأميركي جو بايدن، وأعربوا عن غضبهم عندما تحدث عن انتخابات مسلوبة وعن محاولات لإسكاته من خلال توجيه اتهامات جنائية مزيفة له، ثم توالت الطلقات على شكل عيارات متتالية وخافتة، الواحدة تلو الأخرى، وتكررت في الأقل ثماني مرات.
نحن الصحافيون الذي سبق لنا أن قمنا بتغطية أعمال عنف في مناطق النزاعات وحضرنا تجمعات تعرض الحضور فيها لإطلاق نار، كنا ندرك جيداً تسلسل ما حدث: حال من الذهول وعدم التصديق في البداية، ثم برهة قصيرة من الصمت، تليها موجة من الذعر والصراخ.
كوري تشيك، وهو ناشط محلي وعضو في "اللجنة الوطنية الجمهورية" Republican National Committee (RNC) (المسؤولة عن جمع التبرعات للحزب في الانتخابات وتعزيز برنامجه السياسي) قال إن "أول ما تبادر إلى ذهني هو أن أميركا تتعرض لهجوم"، مضيفاً "أمسكت بيدي شخصين لم أكن أعرفهما حتى، وتلونا الصلاة الربانية".
إد وايت الذي حضر التجمع الانتخابي مع زوجته وابنه كان يخشى وقوع ما هو أسوأ، وقال "اعتقدت أنهم جاؤوا لقتلنا جميعا وكنت خائفاً جداً على سلامة أفراد أسرتي، ثم رأيت رجلاً أصيب بطلق ناري وقد بدا وضعه سيئاً للغاية، فما حدث كان فظيعاً ورهيباً للغاية".
أما المسلح الذي أفاد "مكتب التحقيقات الفيدرالي" الأميركي FBI بعد ساعات بأنه يُدعى توماس ماثيو كروكس، وبأنه يبلغ من العمر 20 سنة، وهو من بلدة "بيثيل بارك" في ولاية بنسلفانيا، فقد فتح النار من بندقية نصف آلية من طراز AR-15، من فوق سقف معدني مضلع لأحد المباني الذي يبعد نحو 150 ياردة (137 متراً) من المنصة، على مقربة مثيرة للذهول من مكان وجود دونالد ترمب.
ولمزيد من التوضيح تعتبر هذه المسافة هي نفسها التي يتدرب فيها الجنود على إطلاق النار على الأهداف المشابهة للبشر في برامج التدريب العسكري الأساس، مما يعني أن ترمب كان في وضع خطر للغاية، والسؤال هو كيف تمكن المسلح من الاقتراب إلى هذه المسافة؟ وهل كان يتصرف بشكل منفرد؟
العميل الخاص في "مكتب التحقيقات الفيدرالي" كيفن روجيك الذي كان يتولى مسؤولية أمنية، أعرب عن دهشته قائلاً في وقت لاحق إنه "لمن المستغرب كيف أن المسلح تمكن من استهداف المنصة"، مؤكداً أن الإجراءات التي اتخذت قيد المراجعة الآن.
في غضون ذلك زعم بعض الأشخاص الذي حضروا التجمع الانتخابي أنهم رصدوا فعلاً المسلح وحاولوا تنبيه عناصر الخدمة السرية إليه قبل أن يفتح النار، وأحد هؤلاء ويُدعى غريغ قال لـ "بي بي سي": "رأيناه يزحف منبطحاً على يديه وقدميه فوق سطح المبنى على الطريقة العسكرية، وقد رأينا بوضوح أن في حوزته بندقية، فوقفت في مكاني أشير إليه على مدى دقيقتين أو ثلاث دقائق، وعملاء الخدمة السرية كانوا ينظرون إلينا من أعلى الحظيرة، وفيما كنت أشير إلى السطح انطلقت خمسة عيارات نارية".
عندما سُمع دوي الطلقات أصيب ترمب ودُفع إلى الأرض بحثاً عن الأمان، فيما كان يغطي أذنه المصابة بيده، وقد قتل مطلق النار رجلاً وأصاب اثنين آخرين بجروح خطرة قيل إن أحدهما كان يقف خلف دونالد ترمب.
يُشار إلى أنه تم نشر فرق مكافحة الهجمات التابعة لجهاز الخدمة السرية والمعروفة باسمها الرمزي "عين الصقر" Hawkeye، إضافة إلى فرق مكافحة القناصة المعروفة باسم "هيرقل" Hercules، لضمان أمن هذا الحدث، وتقع على عاتق هذه الفرق في مثل هذه المواقف مسؤولية اكتشاف التهديدات وتحييدها، وتمكين العملاء من حماية الأشخاص الذين هم تحت رعايتهم وإجلائهم من المكان.
وتظهر لقطات مقطع فيديو قناصاً من جهاز المخابرات وهو يرصد المسلح، وبعد ذلك قام القناص بحركة طفيفة إلى الأعلى قبل أن يطلق النار على الهدف لتحييد التهديد، وسُمع أحد أعضاء فريق القناصة وهو يقول "لقد أردي مطلق النار ونحن جاهزون للتحرك".
وفي مكان قريب شوهد شاب ذو شعر طويل ميتاً على ألواح الصفيح لسقف أحد المباني، وكانت الدماء تغطي رأسه ووجهه وقميصه الرمادي.
لم يكن أمام فريق الحماية المباشرة لترمب سوى جزء من الثانية لسحب الرئيس السابق من المكان، ومن حسن الحظ أن إطلاق النار جاء من اتجاه واحد فقط، ففي العراق وأفغانستان شهدتُ أنا وزملائي إطلاق نار من ثلاثة محاور على حشد من الناس، من دون أن يُترك أي منفذ آمن وواضح لهم للخروج من الموقع المستهدف.
وفي معرض التعليق على الحادثة قال رقيب سابق في "خدمة القوارب الخاصة التابعة للبحرية الملكية البريطانية" Royal Marines SBS الذي كان قد شارك في تقديم حماية وثيقة لرؤساء الوزراء البريطانيين في مناطق الصراع، إن ما حدث "كان يمكن أن يكون أسوأ بكثير، فحتى بعد سماع أنه تم تحييد المشتبه فيه، يظل هناك دائماً قلق في شأن إطلاق نار محتمل من نقاط أخرى".
وبعد التأكد من سلامة ترمب كان لا يزال يتعين على عملاء أجهزة المخابرات إجلاؤه من المكان، وقد صاح أحدهم بينما كان أفراد الحماية يساعدونه في النهوض قائلاً "دعونا نذهب، دعونا نتحرك"، فيما قاموا بخلع قبعته التي تحمل شعار "اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى" من على رأسه الأشعث.
وقال عميل آخر تردد صوته عبر الميكروفون الذي كان الرئيس السابق يستخدمه لمناقشة انتصاره الانتخابي المقبل: "انتظر، إن رأسك ملطخ بالدماء".
أما ترمب فقد تمتم عندما سارع فريق الحماية إلى إخراجه من الموقع مكرراً القول "دعوني أنتعل حذائي"، وعلى حافة المسرح أصر عليهم أن يتوقفوا وطلب منهم التمهل قائلاً "انتظروا، انتظروا"، وبينما كان الرئيس السابق يجد صعوبة في الوقوف، رفع قبضته وحض أنصاره على "القتال، القتال، القتال"، ورد الحشد بهتافات "يو أس أي، يو أس أي، يو أس أي"، على رغم أن كثيرين منهم كانوا مشتتين ويحاولون الهرب من الفوضى المحيطة بهم.
بدا دونالد ترمب راضياً ورافق حرسه الأمني إلى سيارة ليموزين مضادة للرصاص كانت تنتظره، وبعد توديعه قام العملاء بتعديل بدلاتهم الداكنة ونظاراتهم الشمسية وربطات عنقهم واستداروا لمواجهة الحشد في جو من الهدوء، وبعد ذلك أمرت الشرطة الحشود بالتفرق، فبدأ الأشخاص الذين كانوا في مكان التجمع بالابتعاد منه على مضض، فيما عبر بعضهم عن الغضب والإحباط، وهتف أحد أنصار ترمب الذي كان يرتدي قميصاً يحمل صورته فيما كان يلوح بيده في الهواء قائلاً: "سيكون هناك رد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في غضون دقائق غُصت وسائل التواصل الاجتماعي بسلسلة من الروايات التي تحدثت عن نظرية المؤامرة، ففي بث مباشر لمحتوى حظي بملايين المشاهدات، ادعى اليميني المتطرف وسيئ السمعة أليكس جونز، وهو من المعتقدين بنظرية المؤامرة، أن هناك تورطاً لـ "الدولة العميقة" في ما حدث، ومن بين التعليقات الأخرى زعمت نظريات مؤامرة جامحة لا أساس لها من الصحة منها "كيو آنون" QAnon (التي تعتقد بوجود مؤامرة من الدولة العميقة ضد الرئيس السابق دونالد ترمب وأنصاره) أن مجموعة من "الديمقراطيين" و"الجمهوريين" تواطأت مع "وكالة المخابرات المركزية" CIA لتنظيم محاولة الاغتيال، ومنذ ذلك الحين تبين أن كروكس، الشاب الذي تم تحديده على أنه مطلق النار، كان مُسجلاً كمؤيد للحزب "الجمهوري" في ولاية بنسلفانيا، وفقاً لسجلات الناخبين فيها، وقد بدأت مواقع التواصل الاجتماعي بنشر صور له وهو يرتدي قمصاناً تحمل عبارة "ديموليشا" Demolitia (مجتمع مرتبط بقناة "يوتيوب" المعروفة باسم "مزرعة الهدم" Demolition Ranch)، وتمثل مجموعة من المؤيدين الذين يتشاركون اهتمامات مماثلة بالأسلحة النارية، وبعضهم يحمل آراء يمينية متطرفة.
من المتوقع أن تتضح دوافع كروكس وراء محاولة اغتيال دونالد ترمب خلال الأيام المقبلة، لكن بالنسبة إلى كثير من أنصار شعار "اجعلوا أميركا عظيمة مرة أخرى"، فإن انتماء المسلح إلى الحزب "الجمهوري" وارتداءه زياً يحمل علامة "ديموليشا"، أسهما في تعزيز نظريات المؤامرة لديهم عن وجود كيان سري يُعرف بـ "الدولة العميقة"، ويزعم هؤلاء أن ما حصل يعيد للأذهان نظريات المؤامرة التاريخية كتلك المحيطة بالموقع المحاذي من مكان اغتيال الرئيس الأميركي الأسبق جون كينيدي الذي عُرف بـ "الهضبة العشبية" Grassy Knoll (يقع في ديلي بلازا في مدينة دالاس ولاية تكساس، حيث يُعتقد بعض منظري المؤامرة أن مسلحاً ثانياً قد وُضع هناك).
وقد صُور مطلق النار على كينيدي لي هارفي أوزوالد على أنه "كبش فداء"، وقال أحد المدونين اليمينيين المتطرفين "لا تتصرفوا كما لو أن الأمر يتعلق بشخص واحد فقط، فنحن آتون لمحاسبة المسؤولين عما حصل".
ما حدث في ولاية بنسلفانيا كان بمثابة مأساة تم تجنبها بصعوبة بالغة، فالولايات المتحدة تعيش فترة حرجة في وقت تشق طريقاً محفوفاً بالاضطرابات مع اقتراب موعد الانتخابات، والآن يبدو أن النهاية السلمية أصبحت أقل احتمالاً وموضع شك على نحو متزايد، خصوصاً مع تصاعد التوترات والاتهامات التي من المتوقع أن تزداد حدة في أعقاب محاولة اغتيال دونالد ترمب.
© The Independent