ملخص
تجمع "حراس القَسم" في مراكز الاقتراع الأميركية خلال 2020 لحماية الأشخاص الذين يصوتون، وفي 2024 ووسط موجات العنف يمكن لمثل هذه التجمعات ترهيب الناخبين وتعطيل يوم الانتخابات من خلال تثبيط الإقبال.
تركت محاولة اغتيال الرئيس السابق المرشح الرئاسي الحالي عن الحزب الجمهوري دونالد ترمب تأثيراً عميقاً على الباحثين الاستراتيجيين أميركيين وغيرهم، وبات التساؤل الملح الذي على ألسنتهم، "إلى أين تمضي الولايات المتحدة الأميركية، وهل بات العنف السياسي سيد الموقف في الداخل؟".
المؤكد أن القلاقل المجتمعية في طول البلاد وعرضها لا يمكن أن تدارى أو توارى، فالجميع يرى ويدرك أن هناك أزمة مجتمعية حادة واستقطاباً سياسياً عميقاً، ولم يتبق سوى عود الثقاب لإشعال الحرب الأهلية.
لا يوفر المراقبون للمشهد الأميركي علامات استفهام من عينة، ماذا لو كان ترمب قد اغتيل قولاً وفعلاً؟
الثابت أن هناك قرابة خمسة أشهر حتى الوصول إلى الخامس من نوفمبر (تشرين الثاني) موعد الاقتراع على سيد البيت الأبيض الجديد، ولا تبدو حالة الطقس السياسي في الداخل الأميركي صفواً بما يكفي للاعتقاد بعبور الأميركيين إلى الشاطئ الآخر بسلامة، بل ما يتجمع في الأفق منذ عقدين في الأقل ينذر بأن الصدام قادم لا محالة.
هل أميركا بالفعل على عتبات ما يطلق عليه البعض مرحلة "الطلاق الوطني"، وهل سيكرر التاريخ الأميركي نفسه، فيشهد الأميركيون والعالم سيناريو انتخابياً لما جرت به المقادير في انتخابات الرئاسة 2024، وفي ذلك الوقت كادت الديمقراطية تتهدد والصراع الشعبوي ينطلق؟
كلها علامات مقلقة للأميركيين، وربما لهذا باتت أعين كثيرين تتطلع نحو المؤسسة العسكرية الأميركية، وهل بالفعل تمضي الهوينى في طريق التسييس، حتى ما إذا حدثت القارعة وتعرضت الجمهورية الأميركية إلى مخاوف التشظي والحرب الأهلية، تقوم هي بما لا بد لها من أن تقوم به، في سبيل حفظ الأرواح والممتلكات؟
لكن ألا يعد ذلك انقلاباً عسكرياً صريحاً غير مريح؟ هنا تبدو تحذيرات عدد من الجنرالات السابقين في الجيش الأميركي ناقوساً يدق بالخطر المحدق بالبلاد. من أين للمرء أن يبدأ هذه السطور؟
أميركا وحافة الطلاق الوطني
قبل بضعة أيام نشرت مجلة "بوليتيكو" الأميركية تقريراً مطولاً حمل تحذيرات مكتب التحقيقات الاتحادي "FBI" من أعمال انتقامية محتملة رداً على محاولة اغتيال الرئيس السابق، وهي تحذيرات تربك حسابات مكتب التحقيقات لم تنطلق من فراغ، وإنما بناءً على أحداث سابقة، خطط فيها متطرفون ونفذوا هجمات ضد معارضين سياسيين أو أيديولوجيين من قبل.
من جهة ثانية بدأت شرطة الكابيتول التحذير رسمياً من أنها تعمل في بيئة مليئة بالتهديدات المتزايدة، وما يصل من رسائل للمشرعين دليل على ذلك.
عطفاً على ذلك التقرير، بات من الواضح أن الولايات المتحدة أضحت اليوم أكثر انقساماً على أسس أيديولوجية وسياسية من أي وقت مضى منذ خمسينيات القرن الـ19.
هل يعني ذلك أن الدولة الاتحادية الكبرى تتجه حتماً ليوم نحو التقسيم إلى بلدان أكثر انغلاقاً على ذاتها، منشغلة بالانقسامات الداخلية حول قضايا الهجرة والعرق، وعدم المساواة والهوية الجنسية، مما يتجلى بالفعل في مظاهر الانعزالية والحمائية على حساب التحالفات الأمنية والاقتصادية التي أفادت الولايات المتحدة والعالم إلى حد كبير لعقود من الزمن؟
الجواب يمكن أن نستنبطه من البيانات الواردة من مركز "بيو" الموثوق في واشنطن، إذ نجد أن 23 في المئة من الأميركيين، وهي نسبة لا يستهان بها يؤيدون انفصال ولاياتهم عن الاتحاد.
على سبيل المثال دعت ماجوري تايلور جرين وهي جمهورية يمينية من ولاية جورجيا إلى إجراء انتخابات وطنية للفصل بين الولايات الحمراء والزرقاء.
لقد ظهر هذا الانقسام واضحاً في انتخابات عام 2020 بين الولايات الزرقاء التي صوتت لصالح جو بايدن، والولايات الحمراء التي صوتت لصالح دونالد ترمب، إذ كان عديد من ولايات ترمب من بين الولايات التي انفصلت عن الاتحاد في عام 1861.
تبدو روح أميركا منقسمة داخلها، انطلاقاً من قضايا مجتمعية كذلك، وليس سياسية فحسب. فعلى سبيل المثال، تميل الولايات التي تقف ضد الإجهاض للتصويت لصالح الجمهوريين، وهؤلاء يؤازرون ترمب بقوة، وبالقدر نفسه فإن الولايات التي تسمح بحمل السلاح كانت في مقدمة المصوتين له في الانتخابات الماضية.
هل هذه الدعوة نحو الانفصال التي تعلو فيها الخلافات سياسياً ومجتمعياً، تنتظر بالفعل انتخابات 2024 لتمضي في مخطط العنف المحتمل عند البعض والمتوقع جداً لدى البعض الآخر؟
العنف المقبل لا محالة
في أبريل (نيسان) الماضي أصدر مركز العمل الوقائي في واشنطن تقريراً مطولاً حول أوضاع العنف المحلقة بالولايات المتحدة على هامش انتخابات الرئاسة في نوفمبر المقبل.
التقرير وعن حق مخيف، لا سيما أنه يربط التهديدات المقبلة بما كان وما هو قائم بالفعل منذ انتخابات 2020، والمظلومية التاريخية التي يتحدث بها ترمب وملايين الجمهوريين من حوله.
قبل ثلاثة أشهر اعتبر التقرير أن السيناريو الأول والأكثر إلحاحاً، هو تهديدات بالاغتيال ضد المرشحين في الحملات الانتخابية وغيرهم من المسؤولين العموم.
هل يمكن القطع بأن هذا السيناريو جرت به المقادير بالفعل في بنسلفانيا، ومن ورائه بات الجمهوريون أكثر تحفزاً للمواجهات العنيفة، وربما تكون القارعة التي لن تكون بعدها انتخابات حال تكرار محاولة اغتيال ترمب ونجاح المحاولة هذه المرة؟
التقرير الذي بين أيدينا يتخوف كذلك من حدوث أعمال عنف على هامش الانتخابات الوطنية للحزبين الكبيرين، التي يمكن أن تجتذب أفراداً أو جماعات لديها مشاعر الانتقام، كما قد تشكل المقار الإخبارية أيضاً أهدافاً محتملة نظراً للخطاب المتطرف الذي يصور وسائل الإعلام باعتبارها "عدو الشعب ".
عطفاً على ذلك، فقد تؤدي التواريخ المرتبطة بالمشكلات القانونية للرئيس السابق ترمب أيضاً إلى إثارة المتطرفين العنيفين. لقد دفعت التحديات القانونية التي يواجهها ترمب انتخابات عام 2024 إلى منطقة غير مسبوقة مع إمكانية ترشح مرشح رئاسي لمنصب من قاعة المحكمة وربما السجن. وقد تؤدي العملية العامة والنتائج القانونية المحتملة إلى تسريع وتحفيز الهجمات العنيفة.
ولعل المتوقع عن ثقات الأميركيين من الاستشرافيين أنه بمجرد بدء التصويت فإن السيناريو الأول والأكثر ترجيحاً هو العنف في مراكز الاقتراع وضد العاملين في الانتخابات أو ضد مواقع الاقتراع التي يتم تمريرها أو تسليمها ونقاط جمعها. وقد يشمل ذلك مجموعات الميليشيات المسلحة التي "تراقب" الانتخابات بحثاً عن الاحتيال ولكنها في الواقع تخيف الناخبين.
خذ إليك ما جرى على سبيل المثال في عام 2020 فقد تجمع "حراس القسم" (بفتح القاف) في مراكز الاقتراع، على حد تعبير مؤسس "حراس القسم" ستيورات رودس "لحماية الأشخاص الذين يصوتون". يمكن لمثل هذه التجمعات ترهيب الناخبين وتعطيل يوم الانتخابات من خلال تثبيط الإقبال.
يمكن لمثل هذا السيناريو مدفوعاً بدعوات أي مرشح إلى حمل السلاح وكذلك أصوات القاعدة الشعبية الحسابية للقضايا المحلية والثغرات وتفضيلات التصويت، وبأفراد العاملين في مراكز الاقتراع الذين يعبرون عن آرائهم السياسية الشخصية أو يتصرفون بناء عليها. يوفر مثل هذا العنف نموذجاً أقل للشركاء والخصوم في الفضاء الدولي نظراً لأن انتخابات نوفمبر ستحدث بعد حدوث معظم انتخابات عام 2024.
لا تتوقف سيناريوهات العنف عند عملية الاقتراع ذلك أنه بمجرد اكتمال التصويت قد تتحول التهديدات ضد أولئك الذين يحسبون الأصوات. خلال انتخابات عام 2020 تم توجيه بعض التهديدات الأكثر ضراوة ضد مسؤولي الانتخابات في الولايات المتأرجحة. يمكن أن يلعب تسلسل فرز الأصوات دوراً مثل عندما يتم فرز الأصوات المبكر والبريدية والغائبة، التي تميل إلى الديمقراطيين في النهاية، مما يؤدي إلى "سراب أحمر" إذ يأخذ المرشحون الجمهوريون زمام المبادرة في وقت مبكر يتلاشى في إحصاء الأصوات القانوني النهائي.
في عام 2020 على سبيل المثال ألقى العملاء الفيدراليون القبض على اثنين من أنصار حركة "كيو أنون" من فرجينيا ظهرا بأسلحة نارية في مركز مؤتمرات في فيلادلفيا إذ كانت الأصوات لا تزال تحصى بعد ثلاثة أيام من يوم الانتخابات، كما يمكن أن تؤدي الدعوات السياسية إلى "وقف الفرز"، أو "وقف السرقة"، إلى زيادة احتمالية الاستجابة العنيفة.
ولعله من المؤكد أن نيران العنف حاضرة في الداخل الأميركي تحت الرماد، ولهذا ربما لن يجد الرئيس بايدن أمامه سوى تطبيق ما يعرف بقانون التمرد، غير أن الكارثة لا الحادثة، ستتجلى في اعتبار الجمهوريين وأنصار ترمب، أن لجوء بايدن إلى هذا القانون التاريخي، يعني أن الديمقراطيين يسخرون البيت الأبيض وصلاحيات الرئيس لصالح فوزهم بولاية رئاسية جديدة الأمر الذي يلهب المشهد بكثير من العنف.
عن قانون التمرد أو الانتفاضة 1807
هو قانون اتحادي يقضي بتمكين رئيس الولايات المتحدة من نشر القوات المسلحة الأميركية وقوات الحرس الوطني الاتحادي داخل كافة الولايات في ظروف معينة مثل قمع الاضطرابات المدنية والتمرد. على أن التساؤل هل يشكل هذا القانون، استثناء من القانون الرئيس المعروف بالفرنسية باسم (posse comitatus act)؟
القانون الأخير هذا يحد من استخدام القوات المسلحة الأميركية تحت قيادة الحكومة الاتحادية داخل الولايات المتحدة لأغراض إنفاذ القانون. ولتطبيق قانون التمرد يجب على الرئيس الأميركي أن يصدر إعلاناً أولياً يأمر من خلاله المتمردين بالتفرق على الفور. على أن تطبيق القانون يبدأ من بنود بعينها مثل:
طلب الهيئة التشريعية لولاية أو حاكم معين إذا تعذر عقد مجلس تشريعي للتصدي لأعمال الشغب أو العنف ضد تلك الولاية التصدي للتمرد في أي ولاية بعد استحالة تطبيق القانون العملي فيها.
التصدي للتمرد أو العنف المدني أو المؤامرات غير القانونية التي قد تواجهها أية ولاية، مما يؤدي إلى الحرمان من الحقوق المضمونة دستورياً، وحيث تكون الدولة غير قادرة أو تفشل أو ترفض حماية الحقوق المذكورة.
هل عرفت أميركا بالفعل لحظات عنف سياسي مسلح تم اللجوء خلالها إلى قانون الانتفاضة أو التمرد؟
في واقع الحال جرت المقادير بهذا في القرن الـ19، فقد تم اللجوء إليه من جانب الرجل الأبيض ضد أعمال الاعتراض التي قام بها بقايا الهنود الحمر، أهل البلاد الأصليين، ما نظر إليه البعض على أنه أداة قمع مسلح في يد رئيس البلاد.
وفي القرن الـ20 لجأ إليه الرئيسان أيزنهاور وكيندي في مواجهة القادة السياسيين المعارضين، لا سيما في الولايات المتضررة من فرض الفصل العنصري بأمر من المحكمة.
عرفته أميركا كذلك في حالات الطوارئ كما حدث في عام 1989 بعد إعصار هوغو، وأثناء أعمال الشغب في لوس أنجليس عام 1992.
وقد كانت آخر مرة فكر فيها رئيس أميركي في اللجوء إليه في الأول من يونيو (حزيران) 2020 حين هدد الرئيس ترمب بالاستناد إليه لمواجهة أعمال الشغب بعد مقتل الأميركي من أصول أفريقية جورج فلويد إبان إجراءات اعتقاله من قبل الشرطة.
على أن هذه الآونة، يبدو المشهد فيها مختلفاً أميركياً، ذلك أن الخلافات لن تشمل ولاية بعينها، بل يمكن أن تعم البلاد من واشنطن في أقصى الشمال إلى تكساس في الجنوب، ومن نيويورك شرقاً إلى كاليفورنيا غرباً، الأمر الذي يستدعي تساؤلاً عميقاً، "هل يكفي هذا القانون لمواجهة التمرد الكبير الكامل والشامل، الذي سيتجاوز الأفراد حال حدوثه إلى الجماعات والمؤسسات الحزبية؟".
غالب الظن هنا سيكون المجال مفتوحاً أمام خيار آخر لم تعرفه الولايات المتحدة الأميركية من قبل، خيار تدخل القوات المسلحة الأميركية بصورة شاملة وكاملة، مما يستدعي علامة استفهام حول ما إذا كان مثل هذا التدخل، هو نوع من حفظ الأمن والأمان، لا لأميركا فحسب بل للعالم برمته، لا سيما أن ما لدى الأميركيين من رؤوس نووية تكاد تبلغ 6 آلاف رأس نووي، وبخلاف الأسلحة التي لا يعلم أحد عنها شيئاً، وقد خبر عنها ترمب نفسه الصحافي الأميركي الشهير بوب وود وورد إبان تأليفه كتابه "الغضب"، جميعها كفيلة بأن تفني البشرية مرات عدة، أم إن الأمر سيعتبر رغم كل ذلك نوعاً من الانقلاب العسكري من جانب مؤسسة مفترض أنها بعيدة من أعمال السياسية، وهذا ما حدا بكثير من الأقلام الأميركية، إلى التحذير من تسييس العسكرية الأميركية، مما يفيد بأنه كانت هناك إرهاصات بالفعل لتدخل العسكر في أعمال السياسة. ماذا عن تلك الأصوات؟
الجيش الأميركي وتحذير من التسييس
هل بدأت القوات المسلحة الأميركية مرحلة تسييس فعلي أخيراً، وإذا كان ذلك كذلك، فهل السبب هو الطمع في السلطة والتخطيط للانقلاب على السياسيين عند لحظة بعينها، أم إن الأمر برمته لا يتجاوز محاولة الحفاظ على أمن البلاد وعدم وقوعها في دائرة الخطر؟
في الأعوام الأخيرة أثار عدد متزايد من المعلقين مخاوف في شأن مشاركة الجيش في السياسة، من المحاربين القدامى الذين يؤيدون المرشحين إلى الجنود العاملين الذين يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي لانتقاد المسؤولين المنتخبين.
ومع ذلك، فإن النشاط السياسي من قبل أعضاء الجيش الأميركي ليس بالأمر الجديد بدءاً من تأسيس الجمهورية الأميركية وحتى إعادة الإعمار تقريباً، فقد كان هناك تداخل كبير بين القيادة العسكرية والسياسية.
شهدت الفترة من نهاية إعادة الأعمار في العقود الثلاثة الأولى من القرن الـ20، وحتى ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة تأسيس وترسيخ الأخلاق المهنية للجيش ضد النشاط السياسي، لكن منذ ذلك الوقت أيضاً أصبح أفراد الخدمة أكثر صراحة سياسياً مع تسارع السياسة العسكرية في العقود القليلة الماضية، وبنوع خاص في ظل البصمة التي تركها ولا يزال يتركها المحاربون القدامى على ملامح ومعالم الحياة السياسية الأميركية.
في مارس (آذار) الماضي من العام الحالي كتبت ريزا بروكس أستاذة كرسي أليس تشالمرز في جامعة ماركيت الأميركية بولاية ويسكونس عبر مجلة "فورين بوليسي" محذرة مما سمته "التسييس التدريجي للجيش الأميركي".
ترى بروكس أن الولايات المتحدة الأميركية ستخسر كثيراً إذا تخلى الجيش عن حياده الحزبي. وسيتضرر أمنها القومي بسبب التشويه الذي ستتعرض له المشورة العسكرية نتيجة التسييس.
هل تقديم كبار الجنرالات العسكريين المشورة للقادة السياسيين أمر منفر للبروفيسور بروكس؟
لم تجب في مقالها عن السؤال المتقدم بصراحة لكنها لمحت إلى رفضها وميلها لأن يعتمد الرئيس على وجهات نظر حيادية حال نوى اتخاذ قرارات صعبة ومصيرية.
لكن والحديث لبروكس، إذا اختار الرئيس حلفاء سياسيين لأداء أدوار رفيعة في القيادة العليا للجيش، فإنه لن يتلقى بعد الآن مشورة عسكرية حيادية، وستكون العواقب وخيمة، سواء كان الرئيس جمهورياً أو ديمقراطياً. وإذا كان هناك ضباط كبار منحازون إلى الحزب الجمهوري فقد يشعرون بالضغط لكي تكون نصائحهم متوافقة مع الخيارات المفضلة للرئيس الجمهوري أو قد يفشلون في تقديم حجج تدحض خياراته أو في تحديد الأخطار.
وفي المقابل، قد يعين رئيس ديمقراطي ضباطاً من أتباعه في مناصب عليا. وقد يؤدي ذلك إلى آثار مدمرة مماثلة على جودة المشورة المقدمة. وربما يكون هذا خطراً خصوصاً في أي نقاش مستقبلي في شأن التحولات السياسية الكبرى مثل الانسحاب من حلف شمال الأطلسي أو إشراك القوات بحرب جديدة.
ما الذي يمكن كذلك أن يتركه التسييس من آثار على واقع حال القوات المسلحة الأميركية؟
الثابت أنه إذا شعر العسكريون الموجودون في الخدمة العسكرية بالحرية للتعبير عن وجهات نظر حزبية في شأن الوظيفة، فقد تتفشى التوترات في شأن الاختلافات السياسية في صفوفهم، وقد يؤدي هذا إلى تقويض الثقة بين العسكريين العاملين، علماً أن هذه الثقة تشكل محور فاعلية الجيش الأميركي، كما سيفقد المواطنون ثقتهم بالجيش إذا اعتقدوا أن ضباطه يعطون الأولوية لمصالح حزب سياسي على حساب مصالح البلاد.
على أن هذا النقد المتقدم، لا يمكنه بحال من الأحوال أن يتجاوز فكرة إحساس المؤسسة العسكرية الأميركية بالأخطار التي قد تعم البلاد، وربما لهذا خرجت في الأعوام الثلاثة الماضية تحذيرات سياسية من عسكريين توضح أهمية الجيش الأميركي كصمام أمان، ربما يجب عليه التدخل في الحياة السياسية حال شعر الجنرالات بأن الفوضى والتمرد سيقودان أميركا إلى الانهيار.
تحذير الجنرالات من تمرد الانتخابات
لم يكن مشهد السادس من يناير (كانون الثاني) من عام 2021، أي يوم حصار الكونغرس، ليمر مرور الكرام على جنرالات الجيش الأميركي ذلك أنهم اعتبروه نوعاً من أجراس الإنذار الخطرة التي انطلقت في أجواء البلاد، واعتبرت أبواق قرن لتحذير العباد.
في أوائل ديسمبر (كانون الأول) 2021 حذر ثلاثة جنرالات متقاعدين من اندلاع تمرد أو ربما حرب أهلية إذا لم تقبل قطاعات من القوات المسلحة الأميركية نتائج الانتخابات الرئاسية.
هنا يبدو واضحاً أن مخاوف البروفيسور بروكس قد باتت حاضرة بشكل مثير للخوف، فقد انضم اللواءان المتقاعدان بول دي إيتون وأنتونيو أم تاجوبا إلى العميد متقاعد ستيفن أم أندرسون، في حث الزعماء السياسيين على التحرك لمنع مثل هذه المشاهد.
كان هذا الحديث قبل ثلاثة أعوام تقريباً، ومن يومها والجمهورية الأميركية تبدو وكأنها حبلى في "جنين من الغضب"، وتبدو على بعد أشهر قليلة من موعد ولادة قيصرية، تنفجر فيها الأمة الأميركية وبخاصة حال الانهيار التام لسلسلة القيادة على أسس حزبية. ولعل الخوف الكبير والخطر هو أن تشهد الولايات المتحدة تشكيل حكومة ظل، حال رفض مرشح خاسر الاعتراف بالهزيمة، سواء كان جمهورياً أو ديمقراطياً.
كتب الجنرالات الثلاثة في مقال رأي نشرته مجلة "نيوزويك" الأميركية، "تخيلوا قادة متنافسين، بايدن الذي أعيد انتخابه حديثاً يصدر الأوامر، مقابل ترمب الذي يصدر أوامر مخالفة بصفته رئيساً لحكومة ظل".
أما السيناريو الأسوأ من ذلك، فهو تخيل سياسيين على مستوى الولايات والحكومة الفيدرالية ينصبون بصورة غير قانونية مرشحاً خاسراً كرئيس.
هنا سيبدو واضحاً أن انهيار الولايات المتحدة قد بات قاب قوسين أو أدنى، وعليه هل سيقف البنتاغون مكتوف الأيدي؟
سيكون من السذاجة بمكان الاعتقاد أن مراكز التفكير والدراسات في وزارة الدفاع الأميركية، وتلك الوثيقة واللصيقة الصلة في الداخل الأميركي، لا توجد لديها سيناريوهات لمواجهة الاحتمالات المختلفة، وربما لم يسمع كثيرون عما يعرف بمشروع "نزاهة الانتقال"، الذي يدخل ضمن ألعاب الحرب التي يقوم بها محامو الشيطان في قلب الوزارة تحسباً للأسوأ الذي قد يأتي بعد.
لكن في كل الأحوال يبقى هناك سؤال عن الولاء والانتماء، وهل ما إذا كانت القوات المسلحة الأميركية على قلب رجل واحد، وباحترام كامل ومطلق للدستور الأميركي، أم إن فيروس التحزب السياسي اخترق عقول وقلوب صغار وربما كبار الرتب في مختلف أفرعها براً وبحراً وجواً.
لقد عبرت الولايات المتحدة الأميركية منذ الحرب الأهلية عقوداً طوالاً وأزمات مختلفة، ولم يتخلَ الجيش الأميركي عن نزاهته، لا سيما أن السيطرة المدنية على المؤسسة العسكرية تشكل مبدأ أساسياً من مبادئ الديمقراطية الأميركية، وهذا يعني أن الرجال والنساء الذين يرتدون الزي العسكري يخضعون لقيادة مدنية مثل وزير الدفاع، وأنهم يبتعدون عن السياسة، وهم مهتمون بالولاء للدستور وقوانين الأمة، وليس لحزب سياسي أو رئيس.
غير أن المشهد على عتبات نوفمبر المقبل قد يكون نتاجاً مغايراً لما درج الجميع السير على هديه حال صراع الإرادات الحزبية، مما يدفع الجماهير الغفيرة المشحونة بالفعل للخروج عن مسارات الديمقراطية الأميركية التقليدية.
وقد يكون العقل والحكمة حاكمين للانتخابات المقبلة، مما يعني تجنيب البلاد الهول، ويجري إجهاض جنين الغضب غير الساطع لتنجو أميركا من فخ الحرب الأهلية، ويلتقط العالم أنفاسه التي يحبسها في الوقت الراهن خوفاً من المجهول الأميركي في الحال والاستقبال.