Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أم كلثوم… قرن من الغناء من مسرح الأزبكية إلى الهولوغرام

أصبحت حفلاتها وسيلة للتعرف على تطور فن الغناء العربي في القرن الـ20 بكل عناصره

كان الحفل الشهري لأم كلثوم تقليداً شهرياً على مدار عشرات الأعوام (مواقع التواصل)

ملخص

كانت حفلات أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر حدثاً ينتظره العالم العربي كله ودليلاً راسخاً على قوة مصر الناعمة وفي عصرنا الحالي يمكن اعتبار حفلات أم كلثوم وسيلة للتأريخ لتطور فن الغناء العربي في القرن الـ20 من حيث الكلمات والألحان.

بحلول الخميس الأول من كل شهر تخلو الشوارع وتجتمع العائلات بجوار أجهزة الراديو في ترقب وانتظار، إذ إنها لحظات وتعلن دقات المسرح عن قرب بداية الحفل، ويعلن المذيع تفاصيل فتح الستار لتطل "الست" على جمهورها في حفلها الشهري. هكذا كانت الحال طوال عشرات الأعوام التي أطربت فيها أم كلثوم عشاقها من المحيط إلى الخليج، ليكون موعد إطلالتها الشهرية حفلاً في كل بيت عربي.
50 عاماً كاملة تبدلت أحوال وتغيرت أفكار وقامت حروب وثورات وتعاقب حكام ولم يبق شيء على حاله سوى إجماع المصريين والعرب على حب أم كلثوم التي ظلت صامدة على المسرح تشدو بأغانيها لخمسة عقود من التجلي والإبداع.
ابنة قرية طماي الزهايرة الواقعة بمحافظة الدقهلية في "دلتا مصر" بدأت مشوارها الفني في العقد الثاني من القرن الـ20 مرت رحلتها الفنية بمحطات متعددة فمن الإنشاد الديني إلى الغناء في القصور لعلية القوم في مصر آنذاك إلى النجاح المدوي الذي حققته مذ انتقلت للقاهرة لتتربع على عرش الغناء منفردة.
تمر هذا العام ذكرى فاصلة وهي مرور 100 عام على صدور أول أسطوانة مسجلة لأم كلثوم في عام 1924، وهو العام ذاته الذي يرجح أنها قدمت فيه أول حفل جماهيري في القاهرة على مسرح كبير لجمهور عام وليس حفلات خاصة محدودة العدد، فيمكن أن نعد عام 1924 العام الذي انطلقت فيه الآنسة أم كلثوم كما كان يطلق عليها حينها لتتربع على قمة هرم الغناء في رحلتها الفنية التي عاشتها على مدار 50 عاماً لاحقة حتى وفاتها في عام 1975 لتستمر حاضرة في وجدان المصريين والعرب 50 عاماً أخرى رغم رحيلها تبقى "كوكب الشرق" التي لم يأتِ مثلها.

حفل مسرح الأزبكية

في الـ24 من يوليو (تموز) من عام 1924 أحيت أم كلثوم حفلاً غنائياً جماهيرياً في مسرح الأزبكية بالقاهرة، كانت حينها لا تزال الفتاة الريفية التي تغني وهي ترتدي الجلباب والعقال لتشدو للجمهور العريض "الصب تفضحه عيونه" من كلمات أحمد رامي الذي حضر هذا الحفل خصيصاً ليستمع للمرة الأولى للفتاة الريفية التي سمع عنها بعد أن ذاع صيتها وهي تغني قصيدته. سمع رامي أشعاره بصوت أم كلثوم ليسحره الصوت وصاحبته طوال حياته ليكتب لها 173 أغنية تعادل نصف ما غنت طوال مسيرتها، كما علمها الشعر والأدب، وحوَّلها من الفتاة الصغيرة ذات الصوت المبهر القادمة من الريف إلى أم كلثوم التي عرفها الجمهور العريض.
عن بداية أم كلثوم في عالم الغناء في القاهرة يقول الشاعر والباحث في التراث الشرقي عبدالرحمن الطويل، "جاءت أم كلثوم إلى القاهرة في عام 1923 ولكنها من قبل ذلك بكثير كانت تغني في أقاليم وجه بحري، تواشيح وغناء ديني مع والدها وإخوتها، وأعطاها هذا ثقلاً كبيراً لتمكنها من اللغة. شاهدها الشيخ أبوالعلا محمد في عام 1919 وكان صديقاً لوالدها وهو معلمها ومن شجع على قدومها إلى القاهرة، وفي هذا التوقيت كان الطابع الغالب على المطربات اتجاهين، إما نمط غناء العوالم أو المشايخ. وكانت تتربع على الأول منيرة المهدية والثاني فتحية أحمد، ولكلتيهما جمهور يميزه، فجمهور الصالات الذي يذهب لمشاهدة العوالم يختلف كلياً عن جمهور الإنشاد الديني. ولكن ظهور أم كلثوم سيخلق جمهوراً جديداً يذهب للاستماع لمغنية تطربه ويكن لها نظرة احترام وتقدير، فيمكن القول، إن أم كلثوم نجحت في رسم صورة جديدة للمطربة في مصر".

ويضيف الطويل، "انطلقت أم كلثوم في القاهرة وحققت نجاحاً طاغياً، ويمكن اعتبار عام 1924 نقطة فارقة في تاريخها، إذ صدرت لها أول أسطوانة بعنوان (الصب تفضحه عيونه) وهي من ألحان الشيخ أبوالعلا محمد لتبدأ رحلة الصعود إلى القمة، وبعد أعوام قليلة حُسمت المنافسة لمصلحة أم كلثوم، وأصبحت على قمة الغناء العربي منفردة، ويذكر أن ظهور الإذاعة في عام 1934 أتاح نجاحاً أكبر للمطربين عموماً، وعلى رأسهم أم كلثوم مع انتشار أجهزة الراديو تباعاً في المنازل".

صاحبة العصمة

تعاقب كثير من الحكام على مصر خلال رحلة أم كلثوم الفنية منذ بداية انطلاقها في عالم الفن، بنهاية العقد الثاني من القرن الـ20 وحتى رحيلها في عام 1975، فمع بداية ظهورها وغنائها في قريتها وما حولها، كان يحكم مصر السلطان حسين كامل، ليتبعه الملك فؤاد مع بداية مشوارها الفني من القاهرة، ثم لاحقاً حكم الملك فاروق في عام 1936 وكانت وقتها قد حققت مكانتها وتربعت على عرش الغناء لتعاصر بعدها انتهاء الملكية وثورة يوليو في عام 1952 التي دعمتها وغنت لها.
في عهد الملكية وتحديداً في عام 1944 كانت أم كلثوم تحيي حفلاً في النادي الأهلي ليلة العيد، وبينما هي مستغرقة في الغناء فوجئ الجميع بدخول الملك فاروق إلى الحفل. كانت أم كلثوم تغني وقتها أغنيتها الشهيرة "يا ليلة العيد" التي صارت عنواناً لليلة العيد حتى يومنا هذا. وبذكائها المعهود حرفت في كلمات الأغنية وقالت "يعيش فاروق ويتهنى ونحيي له ليالي العيد" بدلاً من "تعيش يا نيل ونتهنى ونحيي لك ليالي العيد".
في هذه الليلة منح الملك فاروق أم كلثوم "نيشان الكمال" لتصبح "صاحبة العصمة" وهو لقب لم يكن يطلق سوى على الأميرات من الأسرة الحاكمة اللاتي أثار هذا الأمر غضبهن العارم حينها، فكيف يمنح الملك هذا اللقب لمغنية حتى ولو كانت بحجم وقيمة أم كلثوم؟!

"عظمة على عظمة يا ست"

المتأمل في عصرنا الحالي لتسجيلات حفلات أم كلثوم المصورة يراها تمثل صورة حالمة وحالة فريدة من نوعها ليس لها مثيل برقي الجماهير المصرية التي تظهر في هذه التسجيلات، فهم يذهبون إلى الحفلات بكامل أناقتهم ويستمعون بنشوة بالغة لصوت "الست" أو "ثومة" كما كان يطلق عليها، ويأخذ تفاعلهم معها طابعاً خاصاً، سواء بالتصفيق أو بعبارات التحية أو طلب الإعادة لمقاطع بعينها، لتظهر عبارات ارتبطت بأم كلثوم من بينها "عظمة على عظمة يا ست" التي كان يرددها أحد معجبيها واسمه سعيد الطحان وهو تاجر من طنطا كان متيماً بغناء أم كلثوم وحريصاً على حضور كل حفلاتها.

ويقول الطويل، "وضعت أم كلثوم لجمهورها تقاليد استماع استمرت على مدار تاريخها، فأصبح الجمهور يعرف متى يتفاعل ومتى يستمع. وعند التأمل في التسجيلات القديمة من فترة الثلاثينيات نجد الجمهور يتفاعل بعشوائية بعكس جمهور الخمسينيات والستينيات الذي نجده اعتاد على طقوس استماع أم كلثوم التي يميزها حالياً أنها صاحبة أكبر تاريخ موسيقي مسجل وموثق من بين كل مطربي هذا العصر". ويشير إلى أن "حفلات أم كلثوم تجاوزت المفهوم التقليدي للحفلة ويمكن اعتبارها بمقياس الوقت الحالي بوصفها تجارب وانطلاقات في تجديد فن الغناء العربي، فمن ناحية أضافت للجمهور ثقافة وذوقاً فنياً باقتحامها نوعيات وموضوعات لم تكن تُغنى من قبل، ومن ناحية ثانية قدم الملحنون تجارب فنية عدة، فمثلاً جدد الشيخ زكريا أحمد من شكل الطقطوقة والدور، وأسس محمد القصبجي الحركة التعبيرية في التلحين، وصاغ رياض السنباطي شكل الأغنية الطويلة التي ميزت تاريخها الفني".


شعراء من كل العصور

يمكن اعتبار حفلات أم كلثوم في الوقت الحالي بعد مرور عقود طويلة منتديات ثقافية وفنية من الطراز الأول، فالجمهور يستمع إلى كلمات لشعراء من المدارس الشعرية كافة، وتشدو الألحان التي يبدعها أعظم ملحني العصر على اختلاف أساليبهم، فمن خلال حفلات أم كلثوم حالياً يمكن تتبع كيف تطور الغناء الشرقي منذ مطلع القرن الـ20 من كل جوانبه. فيقول الشاعر علي عمران "كان الغناء في الريف المصري، حيث كانت تعيش أم كلثوم، يسير على طريقة المتصوفة في الموالد والأفراح وهي طريقة توارثها المصريون منذ مئات السنين، وفي المقابل كانت هناك نهضة للغناء والموسيقى تنشأ في المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية على يد مجموعة كبيرة من رواد التجديد سواء في الكتابة أو التلحين، وانتقلت أم كلثوم إلى القاهرة في ذروة هذه الفترة، وغنت لشعراء من عصرها ومن العصور القديمة، وقدمت شعر الفصحى والعامية، وغنت لشعراء من الدول الإسلامية من خلال ترجمة نصوصهم مثل شاعر باكستان محمد إقبال الذي غنت له قصيدة حديث الروح، وشاعر فارس عمر الخيام، الذي غنت له قصيدة رباعيات الخيام". ويضيف عمران "غنت أيضاً لشعراء مثل علي الجارم قصيدة (مالي فتنت بلحظك الفتاك)، وغنت لعلي أحمد باكثير الشاعر الحضرمي الكبير في عام 1944 قصيدة (قالوا أحب القس سلامة) وهو صاحب قصة ’فيلم سلامة’ الذي قامت أم كلثوم ببطولته. ولم تغنِ أم كلثوم لأمير الشعراء أحمد شوقي وهو على قيد الحياة، لكنها غنت له في عام 1936 بعد رحيله بأربعة أعوام، واختارت من ديوانه القصائد التي تناسب أحداث العصر، فغنت له 10 قصائد وكانت كلها من ألحان السنباطي. وإلى جانب الشعراء المصريين غنت أم كلثوم لنخبة من الشعراء العرب من بينهم عبدالله الفيصل من السعودية ونزار قباني من سوريا وأحمد العدواني من الكويت وجورج جرداق من لبنان والهادي آدم من السودان".
ويستكمل "وإلى جانب القصائد وشعر الفصحى حرصت أم كلثوم على غناء كلمات أشهر شعراء العامية وقتها، بيرم التونسي، إذ أعجبت به أم كلثوم قبل أن تلتقيه من خلال الأخبار التي كانت تنقل عنه بأنه يكتب شعراً في مهاجمة الملك فؤاد وحاشيته، وطلبت من زكريا أحمد أن تتعرف عليه وجرى اللقاء وتعاون بيرم مع أم كلثوم وقدم لها مجموعة من أعظم الأغنيات كان معظمها من ألحان زكريا أحمد مثل (الأولة في الغرام) (أنا في انتظارك) (هو صحيح الهوى غلاب) (غني لي شوي)، وصنع ذلك لأم كلثوم جمهوراً جديداً من بسطاء الناس الذين قد لا يستطيعون فهم كلمات القصائد، وإن كانوا يستمتعون بجمال الأداء والألحان. وعند الحديث عن الأشعار التي غنتها أم كلثوم نجد على عرشها أحمد رامي الذي كتب لها نصف ما غنت وصاحبها في رحلة الـ50 عاماً من الفن".

حفلات المجهود الحربي

كانت أم كلثوم إلى جانب حضورها الطاغي على الساحة الفنية حاضرة في كثير من الأحداث السياسية المتعاقبة على مصر، فعاصرت كثيراً من الأحداث من بينها الحرب العالمية الثانية، فاختارت بعد انتهاء الحرب وتحديداً في عام 1946 باختيار قصيدة "سلوا قلبي" التي كتبها أحمد شوقي في العشرينيات وكان اختياراً ذكياً إذ كانت تريد أن تحفز همة الشعب في المطالبة بحقوقه الوطنية بعد انتهاء الحرب مثل بقية شعوب الأرض فكانت تحمسهم ببيت شوقي، "وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً".
وغنت في افتتاح "جامعة الدول العربية" في عام 1945 لمحمد الأسمر قصيدة "زهـر الربيع"، إذ طلب أحمد باشا حسنين رئيس الديوان الملكي آنذاك من الشاعر أن يكتب قصيدة في هذه المناسبة، واقترح عليه أن يختمها ببيت حافظ إبراهيم الشهير الذي يقول فيه: "هذي يدي عن بني مصر تصافحكم فصافحوها تصـافح نفسها العرب".
وبعد قيام ثورة يوليو (تموز) 1952 غنت أم كلثوم كثيراً من الأغنيات للثورة وكانت تربطها علاقة وثيقة بجمال عبدالناصر. ومن العلامات البارزة، عندما وقع عبدالناصر اتفاقية الجلاء مع الحكومة البريطانية عام 1954، غنت أم كلثوم قصيدة "بأبي وروحي الناعمات الغيدا" التي ضمت بيتاً يقول "والله ما دون الجلاء ويومه يوم تسميه الكنانة عيداً". وكان غناؤها يثير حماسة الجماهير فيعلو هتافهم، فتحولت أم كلثوم من مطربة إلى داعية من دعاة الجلاء مما جعل عبدالوهاب يعلق على هذا الأمر بقوله "إن الجمهور يصفق لأم كلثوم كأنها زعيمة وطنية لا مطربة".
ويذكر هنا أن محمد عبدالوهاب كان منافسها الشرس منذ بدايتها، فكان قطباً من أقطاب الغناء وقت بداية صعود نجمها ولم يجمعهما عمل أبداً إلا في عام 1964 عندما لحن لها عبدالوهاب أغنية "أنت عمري" التي قدمتها في حفلها الشهري الذي انتظرته الجماهير العربية كلها وأطلق عليه اسم "لقاء السحاب".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


فلسطين تهدي أم كلثوم لقب "كوكب الشرق"

ومثل أي مواطن عربي حينها عاصرت أم كلثوم أحداث النكبة في عام 1948 وتأثرت بها وقدمت وقتها نداءات حماسية في الإذاعة لدعم الجنود على الجبهة، وغنت أيضاً لفلسطين "أصبح عندي الآن بندقية" و"إلى فلسطين خذوني معكم" و"راجعين بقوة السلاح" و"إنا فدائيون".
وقدمت أم كلثوم عدة حفلات في فلسطين قبل النكبة وزارت فلسطين أكثر من مرة، ويذكر المؤرخون أن في واحدة من حفلاتها في حيفا قالت لها سيدة فلسطينية "أنت كوكب الشرق" ليصبح هذا هو لقبها الأشهر على مر الأعوام.
ولكن الحدث الأكبر الذي أطلق الطاقات الوطنية عند أم كلثوم كان هو نكسة يونيو (حزيران) 1967، فالجهود التي بذلتها أم كلثوم في هذا الشأن كانت غير مسبوقة فقد أثرت فيها كثيراً ورأت أنها يجب أن يكون لها دور في هذا الظرف العصيب الذي تمر به البلاد، ومن هنا قررت أن تبدأ سلسلة حفلات لدعم المجهود الحربي لتذهب أرباحها لتسليح الجيش، وبالفعل جابت محافظات مصر تشدو بأغنياتها وتجمع التبرعات من الأهالي إلى جانب عوائد بيع تذاكر الحفلات لتقدمها للمجهود الحربي. وأنشأت كياناً نسوياً تحت اسم "هيئة التجمع الوطني للمرأة المصرية" لجمع التبرعات والمجوهرات من السيدات وتقديمها للمجهود الحربي.

أم كلثوم تغني على مسرح الأولمبيا

لم تقتصر حفلات المجهود الحربي على مصر وإنما قامت بجولات خارجية عدة للغرض ذاته، بدأتها بحفلها في باريس الذي أقيم في نوفمبر (تشرين الثاني) 1967 على مسرح الأولمبيا، أشهر مسارح العاصمة الفرنسية. وكانت حفلاتها في باريس أسطورية بكل معنى الكلمة، إذ توافد العرب من باريس وخارجها لحضور حفل "كوكب الشرق"، واستقبلت العاصمة الفرنسية طائرات مقبلة من كل العالم العربي لحضور الحفل المنتظر.
نفذت التذاكر تماماً وصار الحصول على تذكرة مستحيلاً حتى إنه يذكر أن أحد الأثرياء العرب أشهر مسدسه عندما علم أنه لا يمكنه الحصول على تذكرة ليتم تلبية طلبه بكرسي إضافي بين الصفوف، ومن المفارقات أن حفل مسرح الأولمبيا حضره بكثافة كثير من اليهود الشرقيين رغم أنها تحيي هذه الحفلات ليذهب ربحها لتسليح الجيش المصري ليحارب ضد إسرائيل.
غنت أم كلثوم بعدها في تونس والمغرب والسودان والكويت ولبنان وأبوظبي وتقديراً لجهودها منحها جمال عبدالناصر جواز سفر دبلوماسي باعتبارها سفيرة لمصر بفنها.
ومن المفارقات الجديرة بالملاحظة هو أن أحداث نكسة 67 وقعت في وقت كانت أم كلثوم تقدمت في العمر وتربعت على عرش الغناء لأكثر من 40 عاماً، وكان من المفترض أن يبدأ صوتها أو أداؤها بالتراجع بفعل تقدمها في السن، إلا أن الواقع كان العكس تماماً، وتسجيلات حفلات المجهود الحربي في كل الدول التي زارتها، من أروع ما غنت أم كلثوم طوال تاريخها الفني.
فترة الحفلات التي أحيتها أم كلثوم لدعم الجيش أثارت اهتمام الكاتب كريم جمال ليبحث فيها بشكل معمق ويرصدها في كتابه "أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي"، وعنها يقول إن "المجهود الحربي لم يكن هدفه فقط جمع الأموال، وإنما كان أحد أهدافه ترميم الشخصية المصرية التي كسرت نسبياً بعد النكسة والهزيمة المدوية التي حدثت بعد آمال عريضة، فكانت تحاول أن تمحو مرارة الهزيمة، وكانت تسعى إلى لم شمل الدول العربية، ففي هذا التوقيت كان هناك خلاف بين مصر وتونس وعندما ذهبت أم كلثوم لإحياء حفلاتها في تونس لصالح المجهود الحربي، يذكر أنها عقدت اجتماعاً مغلقاً لمدة ساعة مع الرئيس التونسي آنذاك الحبيب بورقيبة لا يعرف أحد ما دار خلاله، وبعدها تحسنت العلاقة بين مصر وتونس فهي كانت سفيرة لمصر بفنها، وكان لديها احترام وتقدير كبير بين كل الأوساط الشعبية والرسمية". ويضيف أن "حفلة باريس لها وضع خاص، ففرنسا كانت تضم أكبر جالية عربية في هذا الوقت، وكانت هذه الجالية تشعر بانكسار شديد بعد النكسة، وذهبت أم كلثوم لباريس في أجواء شديدة التوتر لتحيي حفلها الذي كان أسطورياً، ليذكر برونو كوكاتريكس مدير مسرح الأولمبيا في هذا الوقت، أن هذا الحفل كان هو الأعظم في تاريخ هذا المسرح وأنه كان مذهلاً وملهماً، ويذكر أن أم كلثوم حينها طلبت أجراً يصل إلى 7 آلاف جنيه إسترليني، وكان هذا وقتها رقماً غير مسبوق". ويضيف "في كل الدول التي زارتها أم كلثوم لإقامة حفلات المجهود الحربي كانت أينما ذهبت تستقبلها أفواج من البشر، فالاستقبال الشعبي والحب الجارف الذي كانت تقابل به هو الدليل الصريح على قوة مصر الناعمة في كل مكان، هذا إلى جانب تفاعل الجماهير بأشكال مختلفة تناسب ثقافتها، ففي باريس استمر التصفيق المتواصل من دون انقطاع، وفي تونس استقبلت بالزغاريد وزفة العرسان الشهيرة التي يصلون فيها على الرسول، وفي السودان صلى البعض صلاة شكر في المسرح. وعلى المستوى الفني شهدت هذه الحفلات قمة تألق أم كلثوم، فالتسجيلات تعكس حالة من التفرد في أدائها لبعض الوصلات بارتجالات وإضافة حليات، والارتجال النغمي يحتاج إلى ذاكرة موسيقية هائلة للخروج من مقام إلى مقام من دون نشاز".

الحفل الأخير

في الرابع من يناير (كانون الثاني) 1973 كان الحفل الأخير لأم كلثوم وكان وداعها لجمهورها إذ كانت في الـ75 من عمرها، غنت في الوصلة الأولى "ليلة حب" وكان ظاهراً عليها الإعياء حتى إن بعض المقربين نصحوها بالاعتذار عن الوصلة الثانية، ولكنها أصرت على الاستكمال وغنت "القلب يعشق كل جميل" التي كانت وداع أم كلثوم لجمهورها إذ لم تقوَ بعدها على الوقوف على المسرح ثانية حتى رحيلها.
وكان هذا الحفل قبل أشهر من نصر أكتوبر (تشرين الأول) 1973 الذي كانت دائماً تقول إنها تتمنى تحقيقه والغناء له وبالفعل شهدت أم كلثوم النصر ولكن لم تتحقق أمنيتها بالغناء له.

استحضار حالة حفلات أم كلثوم

ما يقارب نصف قرن مضى على رحيل "كوكب الشرق" أم كلثوم تغيرت فيها أنماط الموسيقى بالكامل على مستوى الألحان والكلمات، وتبدل جمهور الحفلات، وظهرت وسائل تكنولوجية حديثة تجعل أرشيف أم كلثوم كاملاً على مسافة ضغطة زر، وأتاحت التكنولوجيا الحديثة إعادة أجواء حفلات أم كلثوم من خلال تقنية الهولوغرام، إذ تقام الحفلات التي تطل فيها "الست "على جماهير معظمهم ولد بعد رحيلها بأعوام ولكنه يرغب في معايشة تلك الحالة الساحرة التي يراها في تسجيلات الحفلات القديمة لهذا الجمهور الراقي المنسجم للحد الأقصى. ولم تقتصر حفلات الهولوغرام على مصر، ولكنها امتدت أخيراً إلى جماهير الدول العربية للاستماع إلى سفيرة الفن المصري وواحدة من أهم رموز قوتها الناعمة.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات