Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"أزمة مايكروسوفت" وتوازنات القوى الدولية

هل هي بداية لعصر ما بعد الكولونيالية الغربية في شقها التقني؟ ولماذا بات من المقبول القول إن العالم على عتبات نظام جديد تهيمن فيه شركات التكنولوجيا؟

تراجع سهم "مايكروسوفت" بنسبة اثنين في المئة بعد تعطل في نظام التشغيل "ويندوز" (أ ف ب)

ملخص

الابتكار وتبني التكنولوجيا الجديدة لم يعودا حكراً على القوى العظمى بالمعنى التقليدي، وأصبحا مفتاح النمو الذي يخلق القوة الوطنية، ولهذا تبقى قضية الاستثمار في البحث العلمي والتطوير درب الابتكار وتحقيق عوائد اقتصادية حقيقية من جهة، وتأصيل للهيمنة حول العالم من جانب آخر، وهو ما فهمه الصينيون بشكل احترافي في العقدين الأخيرين، ومن هنا بدأت معالم وملامح طريق هيمنتهم القطبية المقبلة.

هل كان نهار الجمعة الـ19 من يوليو (تموز) الجاري موعداً لإعلان زمن ما بعد الكولونيالية الغربية في وجهها التقني في الأقل، وبعد أن استطاعت أوروبا، ومن بعدها الولايات المتحدة، الهيمنة على العالم مدة خمسة قرون تقريباً؟

المؤكد أن الفوضى التي ضربت القطاع الغربي من العالم، ومن سار على هديه، وباستثناء واضح وجلي لروسيا والصين وحلفائهما، بسبب انقطاع التواصل عبر الشبكة العنكبوتية، وضعت العالم أمام تساؤل مصيري عن مآلات العالم الذي سلم مقاليد حياته برمتها للقوى الغربية.

 

استيقظت البشرية ذلك الصباح على عطب أصاب شركة "مايكروسوفت" الأميركية العملاقة، التي تكاد تتحكم في شبكات الحياة المعاصرة كافة من خلال برامجها التكنولوجية، مطارات وطائرات وبنوكاً ومستشفيات وبورصة وخطوط تصدير النفط ونظام المراقبة الجوي والإشارات الأرضية، وكأن الحرب العالمية بدأت.

بسرعة بالغة اعتبر الجميع أن الغرب يتعرض لهجوم سيبراني آسيوي، تقف وراءه روسيا أو الصين، وربما الاثنتان معاً.

هي وجهة نظر على كل حال، لا سيما أن هناك الدافع والحافز، فما تسببت فيه بروكسل وواشنطن من خسائر لموسكو تحديداً، ناهيك عن العقوبات التكنولوجية ضد الصين، كلها تقطع بأنه من الممكن جداً القول بهذا السيناريو.

رويداً رويداً بدأت الأخبار تتواتر من العاصمة الأميركية، معلنة أن محاولة لتحديث برامج "مايكروسوف" تسببت بالفعل في هذا الخلل.

السؤال المثير الذي طرح في ذلك اليوم "هل الأمر بالفعل عطل داخلي أم هجوم خارجي لم ترد الشركة العابرة للمحيطات والقارات أن تقر به، خوفاً على مصالحها حول العالم، التي تتجاوز مليارات إلى تريليونات الدولارات، التي تعد أحد أهم الأعصاب الأميركية الاقتصادية؟

غالب الظن أننا لن نعرف بسهولة الجواب عن السؤال المتقدم، غير أن النتيجة المؤكدة واحدة، وهي أن زمن الهيمنة التكنولوجية الغربية، بات في خطر شديد، وهو حديث ليس بجديد، لا سيما في ظل الصراع مع الصين وروسيا، وعدد من القوى القطبية المقبلة.

هل نحن إذاً في زمن القوى القطبية التكنولوجية، التي ستشكل الجغرافيا السياسية للعالم، وتعيد تقسيم الكرة الأرضية، ضمن تجمعات في العالم الافتراضي، أي زمن الحرب الباردة التكنولوجية؟

يبدو جلياً أننا نقترب بالفعل من نظام عالمي جديد تهيمن فيه شركات التكنولوجيا، وتكاد تفرض عالماً ماورائياً لا يتعاطى بالأسلحة الذرية، بل بخطوط نقل المعلومات بحراً وجواً، خطوط تغير الأوضاع وتبدل الطباع، إلى حين إعلان آخر. من أين لنا مقاربة هذا المشهد الجديد للقوى العظمى التكنولوجية عالمياً؟

قوى عظمى عسكرية أم تكنولوجية؟

منذ بداية الخليقة وحتى عقود قريبة للغاية كان معيار القوة الوحيد هو القدرات العسكرية، وغالب الظن أن هذا المفهوم سيمضي بنا ومعنا لسنوات مقبلة قبل أن تتغير مفاهيم الصراع حول الكرة الأرضية.

غير أن هناك معطيات تقطع بأن القوى العظمى المقبلة، وبعضها مؤكد قادم في الطريق، تسعى إلى امتلاك أدوات أخرى غير الصواريخ العابرة للقارات والقنابل الذرية أو الأساطيل البحرية.

 

ولن يشكل العالم القوى الكبرى التي تملك حشوداً عسكرية، بل شركات تكنولوجيا تدير حياة الإنسان من مهده إلى لحده، هذه الشركات ستمثل حكومات العالم الحقيقية، وربما حال اندماجها وتنسيق خطواتها معاً ستضحي حكومة العالم الظاهرة غير الخفية، وحادثة الجمعة الماضي أثبتت وبما لا يدع مجالاً للشك أن من يملك مفاتيح شركة "مايكروسفت" قادر على إدارة شؤون العالم أو تعطيله دفعة واحدة.

عبر مجلة "فورين بوليسي" الأميركية الشهيرة كان غيان بريمر الخبير السياسي في عالم العولمة ورئيس ومؤسس مجموعة "أوراسيا" يشاغب هذا المفهوم الجديد في عدد مارس (آذار) الماضي، مؤكداً أن مفهوم القوة العظمى العالمية لم يعد كما نعتقد، إذ بات النظام العالمي الجديد مهيمناً عليه من جانب الشركات المعولمة الهائلة أو "الميغا" كما يطلق عليها، كما الحال في شركة "مايكروسوفت".

يعتبر بريمر أنه على العكس من أي نظام جيوسياسي آخر في الماضي، فإن الجهات الفاعلة الرئيسة التي تضع القواعد وتمارس السلطة ليست الحكومات بل شركات التكنولوجيا. ويدلل بريمر على صدقية حديثه بما جرى في الأيام الأولى من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، إذ تمكن "الناتو" عبر شركات التكنولوجيا الغربية من وقف الهجمات الإلكترونية الروسية، والسماح للقادة الأوكرانيين بالتواصل مع قواتهم على الخطوط الأمامية، ومن غير ذلك كان من المستطاع بالنسبة إلى الروس إصابة أوكرانيا بالشلل التام في غضون أسابيع، وكسب الحرب خلال شهرين وإنهائها بشكل فعال. ولم يكن مثال أوكرانيا وحده الحاضر في ذهن بريمر، فالرجل كذلك أشار إلى الدور الذي لعبته شركات التقنيات التكنولوجيا المتقدمة، في سياق حملة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للرئاسة في 2020.

وكان بإمكان ترمب بالفعل التحدث إلى ملايين من الأميركيين، سواء من الداعمين له لتأكيد دعمهم، أم من الذين يقفون على الحياد لكسب تعاطفهم، غير أن هذا لم يحدث بعد أن علقت حساباته، ومن هنا عرف ترمب أهمية التكنولوجيا في إدارة المشهد السياسي، ومضى في طريق تأسيس شركته الخاصة "تروث".

كذلك فإنه من غير وسائل التواصل الاجتماعي، وقدرتها على الترويج لما يراه بعضهم نظريات المؤامرة، لم تكن انتفاضة السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 أمام الكونغرس حدثت، ولا أعمال شغب سائقي الشاحنات في أوتاوا، أو انتفاضة الثامن من يناير في البرازيل.

فهل باتت شركات التكنولوجيا محددة أساسية لمعالم وملامح الهوية البشرية في حاضر أيامنا؟

 

يعتقد بريمر جازماً أننا اعتدنا التساؤل عما إذا كان السلوك البشري هو في الأساس نتيجة الطبيعة أو التنشئة، غير أن هذا لن يظل طويلاً على هذا المنوال، فالطبيعة والتنشئة والخوارزمية أصبح النظام الرقمي محدداً مهماً فيها وبشكل متزايد لدرجة تشكيل طريقة حياتنا، وماذا نريد نحن؟ وماذا نحن على استعداد للقيام به للحصول عليه؟

على أن علامة الاستفهام التي لا تقل إثارة "هل من علاقة بين القوى العظمى التكنولوجيا الجديدة والمفهوم المغاير للاستعمار التقليدي، أي الاستعمار التقني أو التكنولوجي عينه"؟

الاستعمار التكنولوجي ما بعد الكولونيالية

الذين لهم دالة معمقة على الدراسات السياسية الاستراتيجية، يدركون المعنى والمبنى لمفهوم ما بعد الاستعمارية، وهي الدراسة الأكاديمية للإرث الثقافي للاستعمار والإمبريالية، وهي تركز على التبعات البشرية لاستغلال السكان الأصليين في الأراضي المستعمرة والسيطرة عليهم وعلى أراضيهم.

هل اليوم يختلف عن الأمس كثيراً؟

من المؤكد أن الاستراتيجيات الكبرى تبقى حاضرة في عيون صناعها، لا تغيب عنهم أبداً، وحتى حال ظهور عقبات، فإنها تلتف من حول التضاريس وتكمل مسيرتها.

من هنا يمكننا اعتبار مفهوم الاستعمار التكنولوجي البديل القائم والقادم للكولونيالية القديمة، وهو ما يناقشه باستفاضة البروفيسور سيث دوبرين المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة QantmAI  والمدير التنفيذي السابق للذكاء الاصطناعي في IBM.

 

ويقطع سيث بأن التحول السريع لصناعة الذكاء الاصطناعي قمة التكنولوجيا الحديثة، لتضحى احتكاراً من قلة قليلة حول العالم، أمر بات يمثل تطوراً بالغ الأهمية. والثابت أن هذا التحول المدفوع بظهور نماذج أساسية مثل ChatGPT لم يكن تدريجاً، بل حدث بين عشية وضحاها تقريباً، إذ أصبح عدد قليل من اللاعبين المزودين بموارد حسابية هائلة ومجموعة من المواهب النخبوية حارساً لتطوير الذكاء الاصطناعي، ويحمل هذا التركيز للسلطة آثاراً بعيدة المدى تمتد إلى ما هو أبعد من حدود صناعة التكنولوجيا إلى المشهدين الاجتماعي والاقتصادي والثقافي الأوسع. إن ظهور هذه القلة الاحتكارية ليس مجرد مسألة تتعلق بديناميكيات السوق فحسب، بل إنه يثير تساؤلات بالغة الأهمية حول التوزيع العادل للتكنولوجيا وفوائدها.

من هنا ندرك أن مركزية تطوير الذكاء الاصطناعي في أيدي عدد قليل من الشركات، تعني أن دائرة محدودة من المؤثرين تتخذ القرارات في شأن اتجاه وأخلاقيات وتطبيقات تقنيات الذكاء الاصطناعي، ويشكل هذا السيناريو خطراً كبيراً يتمثل في خلق مشهد تكنولوجي منحرف نحو مصالح ووجهات نظر هذه الكيانات المهيمنة، مما قد يؤدي إلى تهميش حاجات وقيم المجتمع العالمي الأوسع.

هل هذه الكلمات المغلفة بالحرير من السيد سيث تعني العودة لزمن الاستعمار ولو من باب آخر، هو باب التقنيات التكنولوجية الحديثة، إذ من يمتلكها ويتحكم فيها، يقدر له أن يسير العالم إلى حيث ما يريد هو، لا ما يريد العالم من ورائه؟

بالقطع كذلك ومن هنا ينشأ مفهوم الاستعمار التكنولوجي، أي هيمنة عدد صغير من الكيانات، يتمثل غالباً في الشركات الكبرى أو المناطق الجغرافية المحددة التي تتحكم في تشكيل وتطوير ونشر معايير الأنظمة التكنولوجية المتقدمة.

من هنا يمكن تفهم كيف يمكن أن يؤدي انتشار هذه الهيمنة إلى فرض القيم الثقافية والتحيزات والمعايير المجتمعية لهذه الكيانات على نطاق عالمي، مما يؤدي غالباً إلى تهميش الهويات الثقافية المتنوعة، وتفاقم التفاوتات الاجتماعية والاقتصادية والتجانس المحتمل للثقافات العالمية، وتثير هذه الظاهرة مخاوف أخلاقية في شأن المساواة والتنوع والشمول في تطوير وتطبيق التكنولوجيا.

ويمكننا أن نستنتج وبسهولة ويسر فائقين، كيف أن دمج رؤية عالمية محددة في أنظمة الذكاء الاصطناعي، بخاصة تلك التي طورت باستخدام نماذج أساسية، يشكل خطراً كبيراً للاستعمار التكنولوجي على نطاق عالمي، ويتجاوز هذا القلق الخطاب النظري ويتجلى في سيناريوهات العالم الحقيقي، مما يؤثر في مجالات متنوعة تتراوح من إدارة محتوى وسائل التواصل الاجتماعي إلى اتخاذ القرار في الخدمات المالية.

وتدفعنا السطور السابقة للتساؤل والبحث عن الجواب: هل بات العالم يعيش حالاً من الحرب الباردة ضمن سباق الهيمنة التكنولوجية، وبهدف الاستعداد لعالم الاستعمار التقني، الذي قد يتجاوز الاستعمار الإمبريالي اللوجستي التقليدي؟

العالم وحرب باردة تكنولوجية جديدة

يدخل العالم مع الصراع على الهيمنة التكنولوجية حالاً من حالات الحرب الباردة، لكنها تختلف عن تلك التي دارت وسارت على مدى أربعة عقود تقريباً، بين حلفي "وارسو" و"الأطلسي" وانتهت بفوز مؤازر للأخير.

وكانت الحرب الباردة الماضية ضرباً من ضروب الصراع العسكري التقليدي، أسلحة وجيوشاً وعيوناً واستخبارات وصواريخ عابرة للقارات وغواصات، وعلى رغم توافر النووي في أيدي الجميع، إلا أن أحداً لم يقدر له أن يستخدمه لقناعة الأطراف كافة بأنه سلاح ما بعده معارك، ربما لفناء البشرية قاطبة. على أن الحرب الباردة الإلكترونية لا نار ولا دخان، لكنها قادرة على أن تفعل ما هو أشد بشاعة، عبر إصابة البشرية برمتها بالشلل وقد يقود ذلك إلى الموت.

ولأن الحرب البارة الإلكترونية من القضايا المصيرية التي يتعلق بها مستقبل عالمنا المعاصر، فقد بدا واضحاً أن مراكز الأبحاث الأميركية، ذات الدالة الكبيرة على وزارة الدفاع الأميركية، مثل "راند" عقل "البنتاغون" النابض، استنهضت قوى باحثيها، للغوص عميقاً في ماهية تلك الحرب واستشراف مالآتها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن أوراق عديدة في هذا السياق يمكننا أن نتوقف مع القراءة التي قدمتها كاثلين لي الباحثة السياسية ومديرة برنامج سياسة الاستحواذ والتكنولوجيا في مؤسسة "راند"، وتعتبر كاثلين أنه إذا كان زعماء العالم يتعلمون درساً واحداً فقط من الحرب في أوكرانيا، فيجب أن يكون هذا الدرس هو أن القدرة على الابتكار السريع، من اختراع وتبني ودمج التقنيات الجديدة بشكل فعال، يمكن أن تكون له آثار عميقة في نتائج القتال. وتقطع بأنه على مدار تاريخ الحرب كان العامل الحاسم في الصراع التقليدي القدرة البشرية على الابتكار، واختراع واستخدام هذه التكنولوجيا الجديدة بشكل فعال.

والثابت أنه على مدى السنوات الـ70 الماضية كانت تكنولوجيا الأسلحة النووية تقف وحدها في قدرتها الفريدة على تغيير مسار التاريخ بشكل مستقل، الآن تجعل أدوات مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وغيرها من التقنيات ذات الصلة من الممكن وبشكل متزايد للآلات أن تبتكر بشكل أسرع وأكثر كفاءة مما كان البشر قادرين عليه على الإطلاق، وليس سراً القول إن هذه التقنيات تتمتع بالقدرة على العمل كقوة مركزية في السياسة الدولية، وسيشكل الفائزون في سباق التكنولوجيا النظام الدولي، بينما سيجلس الخاسرون على الهامش، غير قادرين على ضمان بقائهم، ناهيك عن ازدهارهم.

بين من تدور رحى هذه الحرب الباردة الإلكترونية الجديدة؟

المؤكد أنه على رغم أن روسيا تتمتع بالفعل بقدر واضح من القوة العسكرية، إلا أنها في التراتبية التكنولوجية تأتي حكماً في مرحلة تالية بعد جمهورية الصين الشعبية، من هنا يمكننا أن نتفهم ما جاء في استراتيجية الأمن القومي الوحيدة التي صدرت في عهد الرئيس الأميركي جون بايدن أكتوبر (تشرين الأول) 2022، التي اعتبرت الصين الخطر الحقيقي الداهم، على رغم أن روسيا - بوتين (فلاديمير) هي التي كانت شنت الحرب على أوكرانيا .

عن الصراع التقني الأميركي - الصيني

وترى كاثلين أن الولايات المتحدة والصين تتسابقان لتطوير الذكاء الاصطناعي وغيره من التقنيات الناشئة، من أجل اكتساب ميزة تنافسية في سلسلة مستمرة من المنافسات العالمية على القوة والأمن والثروة والنفوذ والمكانة، وقد تكتسب بعض هذه التقنيات صفات شبيهة بالأسلحة النووية في قدرتها على تشكيل المستقبل الاقتصادي والسياسي والعسكري للدولة   بشكل مستقل، وسيتطور معظمها ببطء أكبر أو تكون لها تأثيرات أقل تفرداً، لكنها مع ذلك مهمة على أمن حلفاء الولايات المتحدة وشركائها.

على سبيل المثال تتمثل إحدى المسؤوليات الأساسية للحكومة الأميركية وعلى وجه التحديد وزارة الدفاع الأميركية في تحديد وتطوير التكنولوجيا الأكثر ترجيحاً لتعزيز المصالح الأميركية في مواجهة الصين وضمان بقاء بعض الدروس المهمة من خلال العودة لآخر منافسة تكنولوجية ملحمية لأميركا من خصم من النظير نفسه، أي السباق بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لتطوير الأسلحة النووية خلال الحرب الباردة.

كيف يمكن أن نتفهم فكرة الحرب الباردة الإلكترونية بين البلدين على رغم مجالات التعاون القائمة والقادمة بين بكين وواشنطن؟

الثابت أنه على رغم حاجة الطرفين إلى بعضهما بعضاً، إلا أن واقع الحال يقول إنهما يسيران عبر مسارين متباينين، إذ يتمثل نهج واشنطن الواضح والجلي في الحد من تدفق التكنولوجيا إلى الصين، وإعادة بعض سلاسل توريد التكنولوجيا إلى الداخل، وربما إعادة توطينها إلى الخارج كذلك، لا سيما أشباه الموصلات والاستثمار في الابتكار التكنولوجي الأميركي في الداخل، وفي الوقت نفسه ترسم بكين مسارها المستقل لتحل محل الولايات المتحدة كزعيمة عالمية، جزئياً من خلال تقليل اعتمادها على  التكنولوجيا الأميركية ونشر ما تراه واشنطن "استبدادها" المدفوع بالتكنولوجيا في جميع أنحاء العالم .

ويرى الأميركيون أن الحزب الشيوعي الصيني يعمل على تشديد الروابط بين الصناعة والدولة للتركيز والسيطرة بشكل حاد على ابتكاراته التكنولوجية في مجالات مثل أشباه الموصلات، كما أن الصين تعمل على الاستفادة من تكنولوجيتها لتوسيع دولة المراقبة إلى أفريقيا وأوروبا والولايات المتحدة تحت ستار التنمية الاقتصادية، وانخرطت في حملة شاملة لسرقة أسرار التكنولوجيا الأميركية. من هنا يمكن القول إن التأثيرات الكلية لهذه المنافسة بدأت في الكشف عن نفسها، إذ وصلت التجارة بين الولايات المتحدة والصين هذه الأيام إلى أدنى مستوى لها منذ 20 عاماً، وأصبح الإكراه الاقتصادي بين واشنطن وبكين ممارسة شائعة.

الهيمنة الأميركية انتصار أم انكسار؟

ما الذي تفعله واشنطن لتبقي هيمنتها مرة وإلى الأبد في مواجهة الصين؟ ثم وهذا ربما هو الأهم، هل ستضمن لها هذه الإجراءات الانتصار الشافي والوافي على الصين؟

يمكننا القول إن هناك ثلاثة إجراءات تقوم بها واشنطن لبقاء سيطرتها وهيمنتها التكنولوجية، ومن ثم قيادة وريادة العالم بأجمعه:

أولاً: تتطلب الشركات الأميركية التي تمتلك تقنيات متقدمة رسوم براءات اختراع عالية وتخلق احتكاراً للسوق، بل إنها تستخدم تقنياتها الأساسية لفرض عقوبات على الشركات الأجنبية.

ثانياً: تتدخل الإدارات الأميركية في المنافسة في السوق من خلال تعطيل استقرار السوق وتقويض أو تقييد الاستثمار الأجنبي، مستخدمة ذريعة وجود مخاوف في شأن أمنها القومي.

كما تمنع الشركات الأجنبية من شراء الشركات التي تمتلك حقوق التكنولوجيا المتقدمة، وتحافظ على ضوابط صارمة على صادرات التكنولوجيا الفائقة، كما تحد من قدرة الشركات الأجنبية ذات التكنولوجيا الفائقة على الوصول إلى السوق الأميركية.

ثالثاً: تفرض الولايات المتحدة تعريفات جمركية عالية على واردات المنتجات التكنولوجية العالية في محاولة لعرقلة تنمية الصناعات التكنولوجية في البلدان الأخرى، والزيادة الأخيرة في التعريفات الجمركية على المنتجات التكنولوجية العالية الآتية من الصين هي مثال على ذلك.

ومن نافلة القول إنه وعلى مدى زمني طويل، ظلت الولايات المتحدة وعلى الدوام في قمة سلسلة القيمة العالمية بفضل مزاياها في التكنولوجيات الأساسية، وحافظت الشركات المتعددة الجنسيات الأميركية على هذه الميزة حتى في الحالات التي دخلت فيها في مشاريع مشتركة واستحوذت على شركات خارج الولايات المتحدة.

فهل يمكن القول من هذا المنطلق إن الاستعمار التكنولوجي الأميركي حول العالم، بات السمة المميزة للحقبة الزمنية المقبلة، من غير منافس أو شريك، ومن دون أدنى مقدرة على منازعته؟

الجواب نجده عند دانيال بايمان الباحث في مجال الشبكات السيبرانية والإرهاب التكنولوجي أنه من غير المرجح أن تفوز الولايات المتحدة في حرب الهيمنة التكنولوجية، وهناك سببان لهذا الاستنتاج:

أولاً: يظهر السجل التجريبي باستمرار أن القوى الصاعدة لا تجلس مكتوفة الأيدي عندما تعطل الدولة المهيمنة وصولها إلى الموارد الحيوية، وعادة ما تستجيب هذه القوى بدعم التنمية الصناعية، ودفع أعمالها إلى الارتقاء إلى مواقع عالية القيمة لتصبح مكتفية ذاتياً.

في هذا السياق يمكننا أن نرصد كيف أن الرئيس الصيني شي جينبينغ حث البلاد على إعطاء الأولوية "للاعتماد على الذات في العلوم والتكنولوجيا"، ووصف الابتكار في التكنولوجيات الأساسية بأنه المفتاح للبقاء على قيد الحياة في "المنافسة الدولية الشديدة". وتحقيقاً لهذه الغاية، دعمت الحكومة الصينية تطوير صناعة تصنيع الرقائق المحلية، فاستثمرت في مدينة قوانغتشو 30 مليار دولار، وخصصت 143 مليار دولار أخرى كإعانات وإعفاءات ضريبية، بهدف تطوير هذه الصناعة المصيرية في عالم الهيمنة الإلكترونية.

ثانياً: يجعل هيكل سلاسل القيمة العالمية من الصعب على القوة المهيمنة أن تجبر القوة الصاعدة على تغيير مساراتها، من دون إشعال مقاومة ضدها في الداخل، لا سيما في ظل سهولة ترقية القوة الصاعدة لقاعدتها الصناعية في الداخل، وفي نهاية المطاف ستعطي الشركات الأولوية لأرباحها على الأمن القومي. ومع ذلك فإن جدلاً عادة ما ينشأ بين فكر المصلحة البراغماتية والأهداف القومية، ففي حالات المنافسة الاقتصادية السابقة قاومت الشركات ذات القيمة العالية في الداخل الأميركي عادة سياسات واشنطن المهيمنة للتخفيف من الاضطرابات واستعادة الأرباح المفقودة، وعلى النقيض من ذلك تعاونت الشركات ذات القيمة المنخفضة في كثير من الأحيان، كما الحال في كثير جداً من الشركات الصينية، مع سياسات الدولة الصاعدة لجني المكاسب المحتملة من التنمية الصناعية.

هل يعني ذلك أن الولايات المتحدة رأس الحربة الكولونيالية الغربية التقليدية باتت بالفعل في مواجهة تحولات قوى جذرية، تبدأ من عند الصين وتمتد إلى روسيا، وقد تلحقهما قوى مميزة في هذا المجال تحديداً، مثل الهند مما يشكل عالماً جيوسياسياً مغايراً لما جرت به المقادير طوال خمسة قرون حين تركز قلب العالم في أوروبا أول الأمر وأميركا تالياً؟

التفوق التكنولوجي القوى المتغيرة

تبدو خلاصة السطور السابقة واضحة في عبارات مختصرة مفادها بأن الابتكار وتبني التكنولوجيا الجديدة لم يعودا حكراً على القوى العظمى بالمعنى التقليدي، وقد أصبحا قولاً وفعلاً مفتاح النمو الذي يخلق القوة الوطنية، ولهذا تبقى قضية الاستثمار في البحث العلمي والتطوير درب الابتكار وتحقيق عوائد اقتصادية حقيقية من جهة، وتأصيل للهيمنة حول العالم من جانب آخر، وهو ما فهمه الصينيون بشكل احترافي في العقدين الأخيرين، ومن هنا بدأت معالم وملامح طريق هيمنتهم القطبية المقبلة.

من هنا يمكننا أن نخلص إلى القول إن "توازن القوى" لا يصف المنافسة الحالية، إذ تسعى الصين إلى اكتساب الميزة والهيمنة في نهاية المطاف، في وقت تسعى الولايات المتحدة إلى الحفاظ على الوضع الراهن.

هنا لا يسعى أي من الجانبين إلى تحقيق التكافؤ، الذي كان ينظر إليه باعتباره مفتاح الاستقرار في الحرب الباردة، فكل منهما يسعى إلى التفوق، وبخاصة في وقت تفتقر فيه مراكز القوة المحتملة الأخرى، مثل الاتحاد الأوروبي أو الهند، إلى استراتيجيات متماسكة أو فهم واضح لشروط ومتطلبات المنافسة.

يبقى في هذا الإطار أمران، الأول هو الانتباه إلى فكرة الربط بين التقنية ومستقبل الجغرافيا السياسية، والثاني الحروب السيبرانية التي ستنشأ ولا شك على جانب الصراع في طريق السيادة والريادة، بل الهيمنة الاستعمارية الجديدة وليدة الكولونيالية الغربية القديمة.

المزيد من تحقيقات ومطولات