ملخص
"أجراس لا يسمعها أحد"، رواية للكاتبة البيروفية الرائدة كلوريندا ماتو تيرنر (1852- 1909) صدرت قبل 133 عاماً، ونقلت إلى لغات عدة. وصدرت حديثاً بترجمة عربية أنجزتها آية حسين عن الإسبانية. تتناول الرواية العلاقة بين العلم والدين انطلاقاً من معطيات المرحلة التي تتمثلها.
بعد نحو 133 عاماً من طبعتها الأولى تفتح رواية "أجراس لا يسمعها أحد"، للكاتبة البيروفية كلوريندا ماتو تيرنر (1852- 1909) لنفسها لغة جديدة لتصل إلى القارئ العربي (دار العين) بتوقيع آية حسين (نقلاً عن الإسبانية). وهي الرواية الثانية لماتو التي تترجم إلى العربية بعد "طيور بلا أعشاش" (1889) وصدرت ترجمتها في الجزائر عام 2018 بتوقيع محمد بومعراف، فيما لم تترجم بعد روايتها الثالثة، والأخيرة "ميراث". هذه الروايات الثلاث منحت ماتو تيرنر مكانة كبيرة في الأدب البيروفي، إضافة إلى ثلاثية مسرحية، وكتب عدة تتضمن مقالات لها "التقاليد والأساطير والقصص"، و"تقاليد كوسكو"، و"المنمنمات والخزف".
تحمل "أجراس لا يسمعها أحد" في نسختها الأصلية عنوان indole والتي تعني الطبيعة باللغة الإسبانية. ويبدو عنوان النسخة العربية جرى اختياره لغرض ترويجي، علماً أن العنوان الأصلي يلائم أكثر مع مضمون الرواية التي تجري أحداثها في قرى بيرو في جبال الإنديز، إذ الطبيعة الريفية المرادفة للسلام وراحة البال. وتكثر في ثنايا الرواية مقاطع تتغنى بجمال تلك الطبيعة. كما تحضر القضايا التي ناضلت تيرنر من أجلها، وشكلت الأعمدة الأساسية لمجمل أعمالها الأدبية، وعلى رأسها الدفاع عن حقوق المرأة، إلا أنها تتناولها على نحو لا يخلو من المباشرة: "إذا ما وضعنا في الاعتبار الوحشية التي تعامل بها المرأة باعتبارها شيئاً مهمته إمتاع الرجال فحسب، سنجد أنها بطبيعة الحال مختلفة عن المرأة باعتبارها إنسانة" ص154. وترفض في موضع آخر المجتمع الذي يحمل المرأة فاتورة الانحلال الأخلاقي، بينما يعفي الرجل: "أنت تريد أن تلوث سمعتها أمام مجتمع يعاقب المرأة التي ترتكب الخطيئة، بينما يغض الطرف عن خطايا الرجل" ص207.
ويظهر في الرواية كذلك دفاع تيرنر عن حقوق الهنود ورفض العنصرية تجاههم وهي من القضايا الأساسية التي كرست لها الروائية حياتها، عبر فضح ما كانوا يتعرضون له من الاستغلال والاضطهاد، والتخوين على يد المستعمر: "وفاؤه لحبيبته، يشبه وفاء سكان البلدة هؤلاء الذين ينتظرون حتى تستدير ليضربوك بالعصي من خلف ظهرك" ص195.
ويتجلى في الرواية الاحتفاء بأفكار عصر الحداثة وقيمه التي يأتي على رأسها التشكيك في قدرة الدين على إسعاد البشرية. وتظهر في الرواية النزعة العلمية لتفسير أفعال الشخصيات فنجد عبارات مثل: "أثبتت الدراسات الفسيولوجية الأخلاقية بشكل كافٍ أنه في مثل تلك الحالات تكون المحاولات التي تستهدف إخماد المشاعر غير ذات جدوى مهما كانت حثيثة" ص86. وتتساءل في موضع آخر حول العلاقة بين العوامل الجغرافية وتأثيرها في سلوك الإنسان. وتفسر بشكل عقلاني تصرفات القس الشبقية تجاه رعاياه وتحرشه بالنساء والتعدي عليهن جنسياً محتمياً بمكانته الدينية: "إن منطق الأحداث يتفق مع قوانين الطبيعة التي عبثاً يحاول الإنسان تغييرها، ولا يفلح أبداً، لأنها قوانين الخالق" ص222. فهذه العبارة وغيرها تكشف عن اعتناق المؤلفة لمبادئ فلسفة عصر الحداثة الذي كان يبحث القوانين الكلية التي تحكم العالم والبحث عن الجوهر والثابت بعيداً من المتغير والمتحول وسعى إلى تطبيق ذلك حتى في العلوم الإنسانية بحثاً عما هو خالد وترك ما هو زائل.
بين العلم والدين
تؤكد الرواية كذلك على الفكرة التي كانت منتشرة في عصر الحداثة حول أن الدين لن يستطيع تحرير أو إنقاذ البشرية من المآسي التي تعصف بها، وأن الأمل في العمل والعقل والمنطق، وترى أن الدين لم يحل المشكلات التي المفترض أن يعالجها، بل تسبب في كثير من المآسي الإضافية، فبدلاً من أن يكون عنصراً من عناصر الراحة أصبح بسبب ممارسات البعض مصدراً للشقاء، فتقدم الرواية إدانة صريحة للكاهن "إيسيدورو بينساس" الذي حول حياة بطلة الرواية "أوليليا" وزوجها "أنطونيو لوبيز" إلى جحيم ودبر مكايده من أجل الإيقاع بها في شباكه. فهناك صراع متأجج داخل الرواية بين العلم والدين: يحارب القس بكل قوة مبادئ العلم والعقلانية فيقول لأحد ضحاياه: "منذ دخلت علينا الأفكار الليبرالية والعقلانية انتشر الهراء والبدع" ص160. بينما ترد المؤلفة على هذا الادعاء بأن رجال الدين "يريدون ليطفئوا نور العقل" ص298. وترى أن ضحايا الكاهن لن يروا كذبه ونفاقه، "إلا في حضرة العقل والمنطق" ص188.
ترسم الرواية الكاهن في صورة الشر المحض الذي يستغل الدين لمآربه الشخصية، بخاصة طقس الاعتراف الذي تهاجمه الرواية بشدة وترى أنه مصدر كل الشرور: "يمتلك السلطة الدينية ويستخدمها كي يتحكم في البيوت والسيطرة على عقول الزوجات" ص295. فالكاهن يستغل هذا الطقس للإيقاع بضحاياه، وتساعد تقنية السرد عبر الراوي العليم في كشف ما يدور في عقله من أفكار لفضح مآربه: "يا لك من امرأة جميلة أحلم بها من سنوات عديدة، هل ستأتي إليَّ أخيراً، يا لها من فرصة ثمينة أتاحتها لي تلك الفراشة المسكينة الساذجة بقدومها من أجل الاعتراف... وحدها يمكنها أن تروي ظمأ قلبي الوحيد ولا أحد سواها نعم أوليليا" ص124. وحين ترفض "أوليليا" خيانة زوجها يساومها الكاهن بوثائق تدين الزوج إن هي لم تسلم نفسها إليه، ويستخدم خادمتها وسيلة للتجسس عليها ومعرفة نقاط ضعفها. والكاهن نفسه يرفض أن يقيم شعائر الدفن للخادمة الأرملة المكلومة في ابنها الوحيد قبل أن يمارس الخطيئة معها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يفلت الكاهن دائماً من العقاب على أفعاله المشينة عبر تحالفه مع السلطة السياسية الذي يرفعه إلى أعلى المناصب الكنسية، لكن تجعل تعريته ممكنة من خلال عمل روائي: "ومن يمكنه كشف حقيقة من هم على شاكلة هذا الرجل الوصولي؟ الإجابة بكل صراحة لا أحد، لا أحد سوى الروائي المراقب للأحداث، يسير حاملاً قلمه ودفتره، يسجل بهما أسرار الحياة، ويكشف النقاب عن أعين المغيبين والمتعصبين لفكرة أو رأي، إنه الروائي الواعي، يدفعه شعوره بالمسؤولية المشتركة، فيقوم بهذا الدور نيابة عن المؤسسات التي عليها السعي من أجل التطهير ومكافحة الفساد الذي يعوق تقدم البلاد" ص267.
صورة الكاهن التي رسمتها تيرنر في هذه الرواية، تكررت أيضاً في روايتها "طيور بلا أعشاش" التي رأت فيها أن نظام الكهنوتية "ضد الطبيعة البشرية ويجب التخلص منه مثل التخلص من طقس الاعتراف". فهي تجعل الجرم لا يقع من الكاهن فحسب، ولكن أيضاً من المجتمع الذي يتغاضى عن جرائمه.
بسبب آرائها تلك التي عبرت عنها في مقالاتها، كما في أعمالها الأدبية، صدر ضد تيرنر قرار حرمان كنسي وجرى تخريب ممتلكاتها في بيرو، مما دفعها إلى الهجرة إلى الأرجنتين للدفاع عن آرائها، المنتصرة للعقل والمنطق والرافضة لكل أشكال التعصب الديني.