ملخص
لا مسافة بين الواقعي والسريالي في مسرحية "مسخ كافكا" لمخرجها فيصل الراشد، الذي استلهم رواية "المسخ" للكاتب التشيكي فرانز كافكا (1883-1924) ليجعلها عنواناً للمونودراما التي كتبها بنفسه.
بدلاً من شخصية غريغور سامسا في رواية كافكا "المسخ"، الذي يستيقظ ذات صباح في فراشه ليجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ضخمة، اعتمد المخرج السوري فيصل الراشد في مسرحيته الجديدة "مسخ كافكا"، قصة امرأة تتحول إلى فرس أصيلة، بعد أن تخرج من المعتقل على خلفية وشاية زوجها بها لإحدى الجهات الأمنية، وخسارتها لابنتها الوحيدة التي قضت في تفجير إرهابي لمدرستها.
تدور أحداث العرض السوري "مديرية المسارح والموسيقى" حول فتاة تدعى فاتن حماد (رايسا مصطفى) تعمل موظفة حكومية في إدارة السجل العدلي، وتنتمي لشلة ثقافية تواظب على حضور أمسيات "بيت القصيد"، وهي فعالية أهلية أدارها الشاعر لقمان ديركي لسنوات، وكانت تجمع شمل شعراء وفنانين ومثقفين سوريين أسبوعياً في أحد الفنادق الدمشقية. في هذه التظاهرة ستقع فاتن في غرام شاب يدعى خليل، لكن مع اندلاع الأحداث الدامية في البلاد عام 2011 سيهاجر الشاعر الشاب إلى أحد البلدان الأوروبية، تاركاً فاتن عرضة لخيبات أمل ومصائب متكررة.
يبدأ "مسخ كافكا" بلحظة صدامية مع جمهور مسرح القباني الذي تجعل منه فاتن خصماً لها منذ الدقائق الأولى للعرض، لاسيما حين تخبر الحضور أن اليوم يصادف احتفالها بعيد ميلادها الـ30، وأنها منذ سنوات تعيش عزلتها داخل بركة ماء في حمام بيتها، وذلك بعد أن تحولت من امرأة إلى فرس أصيلة، إذ ترفض اقتحام أحد كائناً من كان لعالمها السري هذا، أو العودة لعالم البشر الذي تصفه بالمتوحش. حدث ذلك إثر تعرضها لهجمة فصام حادة بعد خروجها من السجن، جعلتها تعتقد أنها مسخت إلى مهرة، وأن جميع من حولها لا يفعل شيئاً سوى التآمر عليها، واستدراجها مرة أخرى لتعود بشراً سوياً، فيما هي تضع لجاماً في فمها، وترتدي قفازات بيضاء في يديها وقدميها كدلالة على أن لها حواف أربعة، فتصهل بشمم وكبرياء الخيل العربية الأصيلة، مذكرة بحال البشر الذين مسخوا طيوراً وبغالاً وقردة في حكايات "ألف ليلة وليلة".
لا يسلم العرض السوري قياده منذ البداية، بل يقتصد في رواية الأحداث على دفعات، وبشكل يجعل من قصة فاتن نموذجاً لنساء سوريات تعرضن للاعتقال والتحرش الجنسي والاغتصاب في سنوات الحرب. هكذا تتوالى مفاجآت الشخصية الوحيدة في العرض، التي أدتها الفنانة رايسا مصطفى باقتدار على رغم أن النص يدمج بين اللهجات العامية الدارجة واللغة العربية الفصحى، إذ أسهم ذلك في خلق مستويين من السرد وسط أجواء كابوسية لم تخل من لمحات السخرية المريرة والتهكم على الواقع، إلا أنها حققت لحظات من الصدق الفني، خصوصاً في مشهد اغتصاب فاتن في المعتقل على أيدي جلاديها، أو في لحظة اكتشاف الشخصية لموت ابنتها الصغيرة مريم بعد أن كانت عقدت الأمل بالحياة معها بما تبقى من عمرها.
نساء في الحرب
تمضي أحداث "مسخ كافكا" عبر ساعة من الزمن إلى تشريح صادم وجريء لواقع النساء في الحرب، إذ استطاع المخرج فيصل الراشد أن يحل معضلة المخاطب الغائب في عروض المونودراما بتوجه الممثلة بخطابها مباشرة إلى الجمهور، ففي مثل هذه النوعية من العروض تخفى شخصيات لحساب حضور مطلق للممثل الواحد، وهي هنا شخصيات من مثل: الحبيب، والزوج المتدين، والأم، والسجان، والطفلة مريم. هذه الشخصيات التي استحضرتها بطلة العرض في كل مرة عبر تعاملها مع إكسسوارات بسيطة من مثل صفيحة بلاستيكية مرسوم عليها صورة الزوج الخائن، ودمية جسدت طفلتها الصغيرة، فيما عملت الموسيقى (عيسى نجار) على تحقيق نقلات إيقاعية واكبت تبدلات الممثلة بين لوحة وأخرى من الأداء الذي تنوع بين الرقص والتمثيل والغناء.
وعوض الفنان فيصل الراشد عن الشخصيات المغيبة في العرض بأصواتها أحياناً، لاسيما عبر صوت الأم وأصوات المراجعين للدائرة الرسمية، وهو أسلوب جارته الممثلة في تماهيها مع فرضية تحولها من امرأة إلى مهرة، وقدرتها على اللعب في مساحة فارغة على خلفية مجسم لحمام منزلي في عمق المسرح (سينوغرافيا سهى العلي)، بينما عملت الإضاءة (إياد عساودة) على توفير مناخ كالح وضبابي عبر منابع ضوء جانبية، والاشتغال على خلفيات حمراء وزرقاء للمكان تبعاً للنقلات النفسية للشخصية، مما أسهم في إيضاح الذرى الدرامية، ومنح جسد الممثلة تكوينات جمالية على الخشبة.
على مستوى آخر يمكن الحديث عن نقطة مهمة في "مسخ كافكا"، وهو تحويل الصراع الداخلي في مسرحية الممثل الواحد إلى صراع بين الشخصية وذاتها، وهذا ما كان واضحاً منذ اللحظات الأولى للعرض، إذ عكف الراشد على تعميق إحساس الممثلة بعالمها الداخلي، والانطلاق نحو تأجيج لحظات بوح ومناجاة أتت على هيئة مونولوغات متتالية، فكانت الممثلة تختفي خلف جدار الحمام لتخرج مرة تلو أخرى لاستعادة ماضي القصة، واستحضار لحظات التعذيب في السجن، مستخدمة كرسياً خشبياً حولته إلى ما يشبه أداة للتعذيب يطوى داخلها جسد المعتقل بقسوة لانتزاع الاعترافات عنوة منه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتبدو الخطة الإخراجية للعرض (ساعد في الإخراج خوشناف ظاظا) ملبية لوحدة البناء الدارمي، ومتفقة مع جوهر فن المونودراما من حيث تعزيز مسرحية الممثل الواحد كنوع من أنوع الأداء الشخصي، الذي تظهر من خلاله الشخصية الرئيسة كمعادل فني للوجود، وتكتسب شرعيتها من نزعتها الفردية، وإدانتها الصارخة للجميع في مقابل إنكار العالم المحيط وتجريمه، وهذا ما حدا ببطلة العرض إلى التبرؤ من أصلها البشري لتحل في جسد فرس جموح ومتمردة، بل تريد الانطلاق في البراري الواسعة على قبولها الامتثال لنواميس البشر وقوانينهم الخلبية عن العدالة وحقوق الإنسان.
معادلة سعى إليها الفنان فيصل الراشد بالتنويع الإيقاعي لأداء ممثلته تارة، والخروج من الصيغ التقليدية للعروض الإفرادية تارة أخرى، محققاً شكلاً من تعدد الأصوات في أداء الممثل الواحد، ومحاولاً تقديم شراكة فنية مع كل عناصر العرض المسرحي، وسيكون فيها تألق الممثل انعكاساً لجهود جماعية من تصميم إضاءة وتأليف موسيقي واختزال في قطع الديكور على المسرح، وربما هذا ما جعل من "مسخ كافكا" عرضاً متعدد القراءات. تبدى ذلك في إبقاء الإيقاع مشدوداً طوال زمن العرض من دون الوقوع في التراخي والترهل، ومع الحرص على إنجاز مادة درامية تبقى في ذاكرة المتفرج، وتنسف المسافة بين الوهم والواقع على خشبة المسرح.