ملخص
على مساحة كيلومتر واحد شاءت الأقدار أن يعيش قرابة 35 ألف إنسان، بعضهم جاء مختاراً بسبب الروابط العائلية الوثيقة، فيما وجد فيه آخرون "ملاذاً أخيراً" بعد أن أغلقت كل الأبواب في وجوههم ليتحول إلى القطعة الأعلى كثافة في لبنان.
تحت سماء مخيم البداوي تجتمع فصول القضية الفلسطينية وأطوار النزوح والسكون والكفاح، لتختصر جدرانه ولاءات ساكنيه، وتحكي أزقته حال الضيق التي يعيشها اللاجئون بعيداً من موطنهم الأصلي.
على مساحة كيلومتر واحد شاءت الأقدار أن يعيش قرابة 35 ألف إنسان، بعضهم جاء مختاراً بسبب الروابط العائلية الوثيقة، فيما وجد فيه آخرون "ملاذاً أخيراً" بعد أن أغلقت كل الأبواب في وجوههم ليتحول إلى القطعة الأعلى كثافة في لبنان.
في أزقة المخيم وأحيائه جالت "اندبندنت عربية"، لترصد أحواله، رأي قاطنيه بأحداث الجنوب الراهنة، وكيف يتحضرون كفلسطينيين لأي حرب شاملة قد تندلع إن تطورت الأمور ميدانياً.
ذاكرة المخيم
تحضر داخل المخيم الذاكرة الشعبية التي يمثلها كبار السن ويرددون التاريخ المحكي لأبناء فلسطين. يعد الأستاذ محمود أحمد السعيد (84 سنة) أحد هؤلاء، إذ قضى ثماني سنوات تحت الاستعمار البريطاني قبل النكبة عام 1948 ومن ثم الخروج نحو لبنان.
يستعيد طفولته في البروة شمال عكا عندما كان ينام ورفاقه فوق "أكوام القمح"، ويهيمون في أحضان بساتين الزيتون والتين وسهول القمح والحبوب التي يبلغ مجموعها 13800 دونم، وكان عدد سكانها قبل النكبة 1850 فلسطينياً.
يتذكر الرجل مراحل ازدهار فلسطين قبل استيلاء اليهود عليها، إذ كان والده يعمل في معمل كازوز "سبيني"، وكانت هناك زراعات متطورة وصناعات مميزة، كما يستعيد حكايا الصمود في المواجهة قبل النكبة، فقد شهد عام 1936 تفجير دورية إنجليزية، وحينها قاموا بتوقيف جميع الشبان والرجال، ومن ضمنهم والده.
لكن الأهالي تمسكوا بانتفاضتهم، و"سقطت البروة مرتين. في البداية قامت العصابات اليهودية بدخولها على متن دبابات واحتلالها، لكن سرعان ما انتفض الأهالي وباعوا مدخراتهم وذهبهم من أجل شراء السلاح المهرب من لبنان وسوريا والدفاع عنها. وبالفعل تمكن الأهالي من تحرير منطقة مرتفعة واستراتيجية، وبعد تسليمها لجيش الإنقاذ العربي بقيادة فوزي القاوقجي، قام هؤلاء بإعادة تسليمها للعصابات بحجة أن الأهالي استعادوها خلال مرحلة الهدنة" يقول محمود السعيد.
ويشير ابن القرية نفسها التي ينتمي إليها الشاعر محمود درويش إلى أن "كل قرية في فلسطين لم تقاوم بقيت على حالها، أما الدمار فكان مصير البلاد المقاومة"، وقد خرجت العائلة تحت وطأة التهديد إلى بلدة "البعنة" المجاورة التي لجأ إليها كثير من الأهالي قبل التوجه نحو لبنان.
تغريبة الزيتون
يقول "خرجنا موقتاً نحو شمال فلسطين حيث كنا ننام تحت أشجار الزيتون، وبعد ثلاثة أيام وصلنا جنوب لبنان ريثما تنتهي الحرب، بعد ذلك عاشت العائلة حالاً من الصراع بين العودة ولم الشمل في فلسطين عند أهل الوالد، أو التوجه شمالاً حيث يقيم أشقاء الوالدة في طرابلس التي كانت تعد مدينة مهمة.
وهكذا قررت الوالدة أن تأتي إلى طرابلس حيث سكنوا جانب "منطقة المطار البحري" في مدينة الميناء طرابلس، يقول السعيد "أقمنا في مخازن الغندور قبل الانتقال إلى نهر البارد، إذ نصبت الخيام في حي الدمون أولاً. بعد ذلك توجه الأهل لاستئجار تخشيبة خاصة بالعائلة (كوخ صغير) قرب منطقة قواص الحمام. واستمر الأمر لسنوات قبل تأسيس مخيم البداوي في أواسط الخمسينيات، إذ لجأت إليه الأهالي مضطرين بعد طوفان نهر أبو علي في طرابلس وغمره "خان العسكر" الذي كان يعد مركز تجمع 100 عائلة فلسطينية من عكا وحيفا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يروي السعيد "بني المخيم برعاية (أونروا) على مراحل، في البداية كان بيوتاً صغيرة سقوفها من الأترنيت على أرض مستأجرة من وقف الدمرداش بواسطة وكيله المربي فضل المقدم لمدة 99 عاماً، وبدء بإيواء سكان خان العسكر، ومن ثم شهد توسعاً واستقبل سكان مخيمات أخرى مثل عرمون بسبب الخلاف مع مالك الأرض، وبعد معركة تل الزعتر في الحرب الأهلية أضيف مخيم إلى المخيم الأساس على أرض لمنظمة التحرير لاحتضانهم. وبعد بلوغ المخيم ذروة التكدس راح الأهالي يرتفعون في الأبنية، ويقيمون الطوابق من أجل إيواء أبنائهم، وصولاً إلى مرحلة العسكرة، ومن ثم الاكتظاظ السكاني الرهيب بفعل الزيادة الطبيعية ونزوح سكان البارد والسوريين".
يطالب السعيد بتغيير تسمية المخيم "لأننا أصبحنا أمام تجمعات سكانية هائلة وأبنية مرتفعة ولم تعد هناك خيام". ويعتقد أن مهمة كبار السن مرهونة بالحفاظ على الذاكرة الفلسطينية ونقلها إلى الجيل الجديد، وحثهم على عدم نسيان القضية، لأن غولدا مائير كان تقول (يموت الكبار، وينسى الصغار). ويذكر بالتضحيات التي قدمها الجيل الأول "حين كانوا يعملون قبل الظهر، ليتعلموا في الدوام المسائي، وكانت النساء يشتغلن من أجل تعليم أبنائهن والحفاظ على القضية".
مأوى الهاربين
أسست المخيم وكالة الأونروا عام 1955 على تلة تبعد خمسة كيلومترات من قلب مدينة طرابلس، ويصفه اليوم كثيرون بأنه الأكثر تنظيماً بين المخيمات الفلسطينية في لبنان، ويعيش فيه نحو 16 ألف شخص، بين فلسطينيين وسوريين ولبنانيين.
اليوم، وبعد مرور 30 عاماً من خروج العمل الفدائي المسلح من شمال لبنان تعود المخيمات لتعيش حال الاستنفار بسبب القلق والخوف من هجمة إسرائيلية على حين غرة، أو عملية نزوح جديدة لأهالي مخيم جديد، بعد أن تحول مخيم البداوي خلال العقود السبعة الماضية إلى مركز تجمع للنازحين القادمين إما من جنوب لبنان عقب الاجتياح الإسرائيلي خلال الحرب الأهلية (1975 - 1990)، أو لمهجري مخيم تل الزعتر، أو سكان مخيم نهر البارد في 2007، وصولاً إلى الهاربين من نار الحرب السورية عام 2011.
داخل المخيم يعكس الظاهر حياة شبه طبيعية، نجول في شوارعه ونرى أن المحال التجارية تفتح أبوابها، ويكمل أصحاب الحرف أعمالهم كالمعتاد. في المقابل يعكس "الحذر من الكاميرا" حال الاستنفار لدى التنظيمات الفلسطينية خشية أية اعتداءات مستقبلية. كما يحافظ المخيم على موقفه المتمسك بالقضية الفلسطينية الراسخة في الوجدان، وتنتشر صور القادة التاريخيين على جدران الأزقة والمؤسسات وفوق الحواجز الأمنية المسلحة، فعند المدخل تحضر صور ياسر عرفات (أبو عمار) وقادة حركة "حماس" والفصائل الأخرى. يحاول هؤلاء التعايش ضمن جدران المخيم على رغم الاختلافات العقائدية والسياسية، ويكرر المسؤولون الحديث عن تجربة فذة في نهر البارد حيث يسود التعاون للحفاظ على أمن السكان.
يحتضن مخيم البداوي التراجيديا الفلسطينية منذ النكبة إلى الطوفان. وينظر إلى مخيمات الشمال بوصفها "مخيم إسناد" وحاضنة محتملة للنازحين من مخيمات مناطق المواجهة. يؤدي ضيق المساحة لإعداد بعض المرافق الأساسية لاستقبال النازحين، وتكشف الأوساط المطلعة داخل المخيمات الفلسطينية في شمال لبنان عن "تجهيز مدارس الـ(أونروا) بالحمامات والمنشآت الضرورية لاستقبال النازحين في حال وقوع أية حادثة طارئة، وهناك احتمال تأجيل انطلاق العام الدراسي ريثما تظهر الصورة. ففي العادة يبدأ العام الدراسي إدارياً في أوائل سبتمبر (أيلول)، ويلتحق التلاميذ بالصفوف في منتصف الشهر، ولكن حتى الساعة لا شيء مؤكداً".
يجيب أمين سر اللجنة الشعبية الفلسطينية أبو رامي خطار عن سؤال حول دور مخيم البداوي في المواجهة، بأنها "ليست المرة الأولى التي تعيش المخيمات هذا التحدي، فمخيم البداوي يأوي حالياً ستة مخيمات، والمهجرين من الجنوب والدامور وتل الزعتر إبان الحرب الأهلية، إذ نزحت 120 عائلة في ثمانينيات القرن الماضي، وفي يوليو (تموز) 2006 قدمت مجموعة من تجمع النبطية، وآخر الصدمات كانت نزوح سكان نهر البارد بالكامل، فضلاً عن نزوح الفلسطينيين السوريين من اليرموك وهم نحو 700 عائلة، والشريحة السورية قبل وبعد الأحداث السورية، كل هؤلاء يجتمعون على مساحة كيلومتر واحد".
على قدم وساق
تواصل اللجان الشعبية، بالتعاون مع "أونروا" تحضيراتها استعداداً لأي طارئ واحتمالات توسع الحرب على وقع المشهد الضبابي لمفاوضات الدوحة. وبحسب خطار "نتمنى ألا يحصل أي مكروه، ولكن لا يمكن لمخيم البداوي إقفال أبوابه أمام أهله، لذلك فإن الاستعدادات متواصلة على كل المستويات بالتعاون بين الفصائل و(أونروا) والهلال الأحمر الفلسطيني والأهالي". متحدثاً عن "خطوات احترازية للحفاظ على الوجود الفلسطيني في مواجهة أي عدوان، لأن المخيمات هي جزء من الاستهدافات الصهيونية".
من جهته، يلفت المفتش الصحي أبو علاء العتيق إلى أن المؤسسات الصحية في مخيم البداوي على أتم الاستعداد لمواجهة أي طارئ صحي، وهناك تعاون بين "أونروا"، ومستشفى الهلال الأحمر الفلسطيني (صفد) والدفاع المدني ومركز الشفاء والنداء الإنساني وشبكة المستوصفات، إذ ينسقون أعمالهم ضمن اللجنة الصحية في المخيم، مؤكداً "توافر كفاءات طبية وتمريضية فلسطينية لتقديم مختلف الخدمات الطبية".
يفرض الواقع الجغرافي نفسه على مخيم البداوي فقد وصلت قدرته الاستيعابية إلى ذروتها، ونظراً إلى عدم إمكانية التوسع الأفقي بسبب محدودية المساحة، خاض الفلسطينيون خلال العقود الأربعة الماضية تحدي التمدد العمودي. حين قام الأهالي ببناء شقق صغيرة هي أشبه بالغرف من أجل تزويج أبنائهم. ليصبح لسان حال أهالي المخيم "أين سيقطن الناس الجدد؟".
ينقسم مخيم البداوي إلى قطاعات أ، ب، ج، وما يعرف بالمخيم القديم والمخيم الجديد، وإلى أكثر من حارة وهي: شفاعمرو، وحي السوق، وشارع أبو الفوز، تل الزعتر.
على سبيل المثال ففي القطاع (ج) الذي يشكل ثلث المخيم الأصلي تعيش 1700 أسرة في حال من الاكتظاظ الشديد، وينشأ عن هذا الوضع ظواهر اجتماعية مختلفة من فقر مدقع وبطالة ومشكلات متكررة على مستوى البنى التحتية، إذ لا توجد أموال للتنظيم وتصليح الأعمال الكهربائية، بحسب محمد ربيع، وهو ناشط في المخيم.
في المقابل، قاد بعض الأهالي عملية توسيع المخيم خارج حدوده، إن باتجاه جبل البداوي أو القبة، من خلال المشاريع السكنية التي أنشئت خلال الأعوام الماضية، كما قام بعضهم بشراء منازل خارج حدود المخيم التاريخية، إذ يتم الشراء والتسجيل باسم أحد اللبنانيين الموثوق بهم، الذي يقوم بدوره بإجراء وكالة وتنازل للمالك الأصلي.
يقول أحد المواطنين الفلسطينيين "بعد انتهاء سنين الخدمة اشتريت شقة وسجلتها باسم ابنة أخي الحاصلة على الجنسية اللبنانية نتيجة زواجها بلبناني". وفي هذا السياق تبرز المطالبات الفلسطينية بتخفيف القيود عنهم ومعاملتهم وفق المعايير الحقوقية والإنسانية، لأن المخيمات تعيش في ظل "قنبلة سكانية" موقوتة.
يشير أبو رامي خطار إلى "عدم تناسب" بين عدد السكان والخدمات الأساسية المقدمة لهؤلاء والممولة بواسطة "أونروا" التي تعتمد على دعم ومواقف الدول المانحة، ولا يمكن أن تحل مكانها منظمة التحرير. من هنا "يعيش المخيم أزمة حقيقية".
ويلفت صالح زيدان المسؤول عن الملف الاجتماعي في اللجنة الشعبية عن مشكلات كبيرة يعانيها المخيم على غرار باقي المخيمات المنتشرة على مساحة الأرض اللبنانية، ويؤكد أن نسبة الفقر والبطالة تصل إلى مستوى قياسي بفعل الكثافة والنازحين الفلسطينيين والسوريين وبحث أصحاب العمل عن اليد العاملة الرخيصة، متحدثاً عن جهود لتخفيف وطأة الأزمات و"تعاون مع بعض الجمعيات وممولين متبرعين من أجل تخفيف أزمة المياه والكهرباء وتوزيعها على المنازل حيث تتوزع 13 بئراً في أنحاء المخيم، وحل مشكلة الأعطال التي تطاول شبكة شركة كهرباء قاديشا العمومية اللبنانية".
اللاجئ المثالي
يعاني اللاجئ الفلسطيني جراء الأزمة الاقتصادية على غرار المواطن اللبناني، إذ يضطر الشبان إلى العمل في أكثر من وظيفة من أجل تأمين القوت اليومي. ويعد يونس (28 سنة) وهو أب لطفلين رضيعين، أن "الفلسطيني اعتاد أن يعيش من عرق جبينه، لذلك هو يعمل في أشياء عدة من أجل تأمين الحليب والحفاضات"، مضيفاً "أعمل في الأصل ضمن مجال ذبح الخراف، لكن في أيام الأعطال أضطر إما للبحث عن عمل بالفاعل (مياوم) أو جمع الحديد ومن ثم بيعه لمحلات الخردة". ويخشى من المرض لأن "من يمرض في هذه البلاد يشقى، فكل شيء مدولر، وخدمات (أونروا) تتراجع".
يلفت الشباب الفلسطيني إلى أمرين، الأول هو أن أكثرية الشبان يعملون في القطاع غير النظامي ولا يحظون بالرعاية والحماية الاجتماعية. والثاني أن كثراً يسعون إلى العمل ضمن مؤسسات "أونروا" وإلا فإنهم يعملون في اختصاصات غير اختصاصاتهم ضمن القطاع الخاص اللبناني بسبب منعهم من مزاولة 73 مهنة. ويتعرض هؤلاء للاستغلال والمقايضة على حقوقهم.
يقول أحد الشبان إنه "بعد 15 عاماً من العمل في إحدى مؤسسات القطاع الخاص لبيع الأدوات الكهربائية عرض صاحب العمل عليه إما تخفيض المعاش أو ترك العمل"، مشيراً إلى أنه "اضطر إلى مفاوضة صاحب العمل بعد تركه الوظيفة، وصولاً إلى الاتفاق على تقاضي ثلث التعويض المستحق له".
من هنا تبرز المطالبات بحماية العمالة الفلسطينية والأجنبية في لبنان، من باب تفتيش العمل وضبط سوق العمالة غير النظامية وقمع جميع صور الاستغلال.