ملخص
يعتبر محللون أنه ما لم تتبدل الاستراتيجية الأميركية في منطقة القرن الأفريقي مع بناء سياسة تحترم سيادة الدول، فإن الخسائر الأميركية في المنطقة ستتوالى
يأتي القرن الأفريقي في مقدمة اهتمامات الولايات المتحدة الأميركية، لما يشكله من أهمية وموقع حيوي على طريق التجارة الدولية في البحر الأحمر وقناة السويس، وتمثل دول كالصومال وإثيوبيا والسودان أهمية لدى السياسة الأميركية، وفي ظروف أزماتها تخضع لتوجيهات أشبه بالأوامر، بحسب سياسيين.
فإلى أين تقود الإملاءات الأميركية وما تتلقاه من رفض الأوضاع السياسية في السودان وإثيوبيا والصومال؟ وما انعكاساتها على الواقع الإقليمي والدولي؟
سياسة الوصايا
واجه الصومال خلال القرن الماضي سياسة الوصاية في ظروف حربه الأهلية (1991 حتى 1996)، تحت غطاء قوات الأمم المتحدة "يونسوم"، وتصدى الزعماء القبليون الصوماليون لهذه الوصاية وهزموا القوات الأميركية، وجرفت جثث الجنود الأميركيين في الحواري الصومالية، مما أجبر الرئيس الأميركي بيل كلينتون على إعطاء الأوامر بخروج القوات الأميركية في الثالث من مارس (آذار) 1994 من الصومال.
وبالأمس القريب واجهت إثيوبيا الإملاءات الأميركية بالرفض إبان أحداث الحرب التي دارت بين الحكومة الإثيوبية وجبهة "تحرير تيغراي" (2020 - 2022)، وما أعقب ذلك من ظروف بعيد إبرام اتفاق بريتوريا للسلام بين الحكومة و"جبهة تيغراي" في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022.
قرار الحكومة العسكرية في السودان بالرفض شابه قرارات الأمس وما قبل الأمس تجاه الدعوات الأميركية لتنتهي مفاوضات جنيف التي بدأت في الـ14 من أغسطس (آب) الجاري 2024 حتى الـ24 منه، من دون تحقيق أهدافها لغياب طرف الحكومة وتحفظها على السياسة الأميركية.
أسباب الرفض
جاء رفض رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان المشاركة في محادثات جنيف لأسباب أوضحتها القيادة السودانية في الآتي:
- التحفظات على آلية المحادثات والمشاركين فيها.
- تحفظ القيادة السودانية على صياغة الدعوة الأميركية التي دعت السودان إلى إرسال وفد من الجيش وليس الحكومة.
- التمسك بإعلان جدة كخيار رئيس كونه يلزم قوات "الدعم السريع" بالخروج من منازل المواطنين والأعيان المدنية في ولايات الخرطوم والجزيرة وسنار ودارفور.
وكانت السعودية احتضنت في مايو (أيار) 2023 محادثات بين الجيش السوداني و"الدعم السريع" في مدينة جدة برعاية واشنطن والرياض، أسفرت عما عرف بـ"إعلان جدة" الصادر في الـ11 من مايو 2023، الذي ينص على:
"التزام طرفي النزاع بالامتناع عن أي هجوم عسكري قد يسبب أضراراً للمدنيين، والتأكيد على حماية المدنيين، إلى جانب احترام القانون الإنساني والدولي لحقوق الإنسان".
وكان رئيس مجلس السيادة السوداني وقائد الجيش عبدالفتاح البرهان جدد في لقائه وفد الإعلاميين السودانيين والمصريين في بورتسودان، السبت الـ17 من أغسطس الجاري رفضه المشاركة في محادثات جنيف، قائلاً "إذا كانت واشنطن جادة في مساعي السلام بالسودان فلتلزم الميليشيات المتمردة بتنفيذ قرار مجلس الأمن بإنهاء حصار الفاشر، عاصمة إقليم شمال دارفور، ووقف قصف المدنيين وقتلهم وتدمير المستشفيات".
وكانت مفاوضات جنيف التي استمرت لـ10 أيام وسط غياب الجيش والحكومة السودانية، ضمت مجموعة من الوسطاء ضمن المبادرة الأميركية، شملت السعودية ومصر والإمارات، إضافة إلى سويسرا والاتحاد الأفريقي بمشاركة "الدعم السريع". واعتبر رئيس السيادة السوداني الفريق البرهان منبر جنيف محاولة لتخطي التزامات منبر جدة، ومحاولة لتحسين صورة "الدعم السريع"، مشدداً على عدم وجود فرصة لقوات عودة "الدعم السريع" بعد الجرائم التي ارتكبتها في حق المواطن السوداني.
كما أشار في خطاب لاحق إلى "أن بلاده تواجه مؤامرة تحيكها أطراف دولية وإقليمية"، مؤكداً أن "السودان موحد"، ومحذراً من أنه "قد يكون هناك من يخطط لتقسيم السودان وهذا لن يحدث"، بحسب تعبيره.
وكان المبعوث الأميركي الخاص بالسودان توم بيريلو أكد "أن بلاده ستواصل سلاح العقوبات للمساهمة في وقف القتال والحل في السودان"، وأشار إلى "أن وجود أنصار النظام المعزول في المشهد السياسي يمثل مشكلة كبيرة"، يذكر أن الحرب الدائرة بين الجيش السوداني وقوات "الدعم السريع" منذ أبريل (نيسان) 2023 خلفت نحو 18 ألفاً و800 قتيل إلى جانب قرابة 10 ملايين لاجئ، وفق إحصاءات الأمم المتحدة.
أهمية تتعاظم
معتصم عبدالقادر الحسن المستشار في أكاديمية العليا للدراسات الاستراتيجية والأمنية، يقول "ازدادت أهمية الدول الأفريقية المطلة على ساحل البحر الأحمر والمحيط الهندي في ظل التحديات المتمثلة بالوجود الدولي والإقليمي بالمنطقة (إشارة إلى النشاط الإيراني ومن خلفه روسيا)، كلتا الدولتين تحاول التغلغل أكثر في المنطقة من خلال السعي إلى التعاون مع دول المنطقة، يضاف إلى ذلك وجود قاعدة صينية في جيبوتي إلى جانب القواعد الأميركية والفرنسية. وتابع "من جانب آخر هناك التعاون الأميركي مع بعض دول المنطقة، لكن ما يفاقم الأوضاع خطر الهجمات المكثفة من اليمن على الملاحة فى خليج عدن والبحر الأحمر".
يؤكد "الصراع أصبح واضحاً بين الدول الغربية من طرف وروسيا وغيرها من دول وكيانات كبرى، مما خلق بؤراً وانتقل بالتوترات للمنطقة، وجعل من الصعب وقف تصاعد التوترات التي قد تؤجج العنف وتشعل الحروب، وهذا سبب إضافي لتحول الاهتمام نحو منطقة البحر الأحمر والقرن الأفريقي".
ويتابع "أحد أسباب فشل السياسة الأميركية في منطقة القرن الأفريقي ظنها بأنها القطب الأوحد وصاحبة القرار النهائي من دون الأخذ في الاعتبار النمو المتسارع الذي يشهده العالم الثالث سواء في قياداته أم شعوبه، إلى جانب ما يمتلكه من اقتصاديات يعمل على تفعيلها لسد حاجاته والاستغناء عن الغير".
ويضيف دول مثل الصين وتركيا وغيرهما تبرز حالياً كمنافس حقيقي إلى جانب إهمال واشنطن ما يمثله الانفتاح الروسي فى الشرق الأوسط وصولاً إلى سواحل البحر الأحمر والأبيض المتوسط، وبروز كيانات أخرى تشكل منافساً حقيقياً ينمو باستمرار.
ويوضح الحسن "لذلك لا يمكن لأي إملاءات أميركية أن تصبح مؤثرة تجاه مجريات الأوضاع في المنطقة ضمن حيثيات ما تشهده من تحولات، فكثير من الشعوب والأنظمة شقت عصا الطاعة واتجهت لتحالفات عسكرية واقتصادية كبرى مثل ’البريكس‘، مما يشتت هيمنة الوجود الأميركي مستقبلاً".
ويقول "رفض القيادة السودانية لمفاوضات جنيف دليل على أن الدور الأميركي يضعف باستمرار على مستوى القارة السمراء في ظل السياسة المتبعة لاسيما في القرن الأفريقي، مثل ما خاضته أميركا من تجارب فاشلة في دول أخرى، لذلك لجأت الولايات المتحدة إلى تفعيل مصالحها عبر وكلاء إقليميين لتقديم الدعم، وهو الدور الذي أسند لبعض دول المنطقة التي فشلت على رغم عظم مواردها بسبب غياب الآليات التنفيذية مثل الكوادر البشرية المؤهلة والخبرات العميقة في مثل هذه الملفات الشائكة، مما عقد الأوضاع فى دول المنطقة عامة وأدخلها فى حروب ومشكلات عرقية شهدها الصومال من قبل، ومرت بها إثيوبيا والآن يعاني السودان تجاوزات السياسة الأميركية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحافز الدولي
صلاح الدين عبدالرحمن الدومة أستاذ العلوم السياسية في جامعة أم درمان يقول في المقابل "ليست كل مداراة أو تماهي مع سياسات الولايات المتحدة، خضوعاً أو خنوعاً للسياسات الأميركية، ففي أحيان كثيرة تلتقي المصالح الأميركية مع مصالح الكيان السياسي الإقليمي المعين الذي دخل في تعاون مع تلك الإدارة".
يشير "ومن هنا يتكامل الجهد المحلي مع الحافز الدولي متمثلاً بالولايات المتحدة الأميركية، فيظهر هذا الجهد المشترك سواء في سياسات ملتقية أم تعاونيات تخدم الأطراف الأفريقية، وما تفعله واشنطن تؤديه دول أخرى بطرق واتفاقات مشروعة متعارف عليها".
يوضح "الولايات المتحدة الأميركية لها وجود مهم في القارة الأفريقية، وهي معنية بصورة أساسية بمحاربة الإرهاب وحماية التجارة العالمية، والحفاظ على مصالح دول وشعوب بما تقوم به من مهمات وتقدمه من مساعدات".
يضيف "إذا افترضنا أن الولايات المتحدة تبحث عن مصالح قاصرة وتتسبب سياساتها في إلحاق الضرر بشرعيات أنظمة أو حقوق شعوب، فهي في الأساس تتدخل في ظل مشكلات أصلاً قائمة لا تخلقها هي، بل تعمل على حلها وفق مرئيات سياسية وما تتبناه من عقيدة في خلق سلام واستقرار محلي أو إقليمي".
يتابع الدومة "ثانياً إذا افترضنا أن الكيان السياسي الإقليمي أمام خيارين لا ثالث لهما، إما أن يختار التوجه غرباً وعقد شراكة مع الولايات المتحدة أو التوجه شرقاً نحو روسيا أو الصين، وعليه أعتقد جازماً أن التوجه غرباً أقل سوءاً".
صراع الفروض
من جهته يقول عادل عبدالعزيز حامد، الباحث في الشؤون الدولية، "صراع التدخل الأميركي في دول القرن الأفريقي يؤدي إلى التعقيد السياسي والاقتصادي في هذه المنطقة".
ويضيف "القرن الأفريقي يتكون من دول عدة مثل إثيوبيا والصومال وجيبوتي وأريتريا والسودان، وتتميز هذه الدول بإمكانات متنوعة مما يجعلها ساحة للتنافس، وتدخل الولايات المتحدة في المنطقة يسعى في الظاهر إلى تعزيز استقرار المنطقة من خلال دعم الحكومات المحلية ومكافحة الإرهاب، خصوصاً في الأماكن التي تشكل خطراً على مصالح العالم كالبحر الأحمر، لكن فرض سياسات أو خيارات معينة من قبل الولايات المتحدة على الدول يؤدي إلى مقاومة محلية أو عدم قبول لهذه السياسات، إذ يعتبر بعض القادة المحليين أو بعض الجمهور أن هذه الأوامر تتعارض مع سيادتهم الوطنية."
ويوضح "هناك أبعاد جيوسياسية - تشكل مصالح استراتيجية للولايات المتحدة في القرن الأفريقي، مثل الوصول إلى المياه الاستراتيجية والموارد الطبيعية ومكافحة القرصنة وتأمين طرق التجارة العالمية، وهذه تتنافس فيها مع دول كبرى أخرى مثل الصين وروسيا، مما يزيد من تعقيد الصراع."
يتابع "السياسات والإجراءات الأميركية قد تؤدي إلى نتائج إيجابية مثل الاستثمارات والتنمية، ولكنها قد تتسبب أيضاً بتفاقم الأزمات الاقتصادية أو بخرق للسيادة".
يتساءل حامد "إلى أين تتجه الأمور؟ من المحتمل أن تؤدي الضغوط السياسية من جانب الولايات المتحدة إلى تغييرات في السياسات المحلية، لكن نجاح هذه الضغوط يعتمد على الاستجابة الشعبية والموقف من القوى السياسية المحلية".
يخلص "إذا استمرت الحركات المتطرفة أو النزاعات الأهلية من دون حل منصف، يستجيب لتطلعات الشعوب ولا يمس سيادتها، فيكون من الصعب تحقيق الاستقرار حتى مع التدخل الأميركي العسكري إذا لجأت واشنطن لذلك، كما أن هناك حاجة إلى التعاون بين دول المنطقة لمعالجة القضايا المشتركة ضمن تحدياتها وطموحاتها".
إعادة النظر
الإخفاق الذي يتبع أحياناً سياسة واشنطن في منطقة القرن الأفريقي يتطلب إعادة النظر في كثير من أدبيات الدبلوماسية الأميركية، وذلك لإعادة ثقة المنطقة بالأجندة الأميركية، وخلق نوع من التبادل الودي القائم على الاحترام المتبادل لدول رئيسة في المنطقة مثل إثيوبيا والسودان والصومال، لاسيما في ظل ما تشهده منطقة البحر الأحمر على وجه الخصوص من تصعيد خطر، مما أجبر بعض الأساطيل الأميركية كحاملة الطائرات "ثيودور روزفلت" و"يو إس إس دوايت أيزنهاور" ترك مياهها الدولية إلى مياه البحر الأحمر.
وبحسب خبراء في الشأن الأفريقي إذا لم تتبدل الاستراتيجية الأميركية في تلك المنطقة مع بناء سياسة تعتمد على احترام الشعوب وسيادة الدول فإن الخسائر الأميركية في المنطقة ستتوالى، وستفقد واشنطن القرن الأفريقي كما حدث في أفغانستان وفيتنام."
ووقف الخبراء فإن المستجدات التي تطرأ في المنطقة مثل تلويح السودان بتخصيص قاعدة بحرية لروسيا على شواطئه في البحر الأحمر، وما تشكله كل من إثيوبيا والصومال كقوى إقليمية لها دورها في أمن واستقرار القرن الأفريقي والبحر الأحمر، كلها دلالات تشير إلى ضرورة أن تعيد الإدارة الأميركية النظر في قواعد سياستها مع دول القرن الأفريقي واعتماد أسلوب جديد تكسب فيه دول المنطقة.