ملخص
إلى جانب الشهادات الحية، وثق الدفاع المدني تبخر جثامين ضحايا وتحولها إلى رماد في مقبرة جماعية عثر عليها في مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوب القطاع في أبريل (نيسان) الماضي.
بعد أن قصفت الطائرات الإسرائيلية منزل سفيان اتصل الرجل على الفور بخدمة الإسعاف والطوارئ، وبسرعة وصل فريقا الدفاع المدني والهلال الأحمر وباشرت الطواقم عملية التنقيب عن الجثث وإنقاذ الجرحى.
لا أثر للضحايا
بعد ساعات من إزالة الركام لم تجد فرق الإنقاذ أية جثة أسفل الأنقاض، لكن سفيان الذي غادر بيته قبل الغارة الإسرائيلية لشراء طعام لأطفاله، كان يؤكد بحرقة لطواقم الدفاع المدني أن جميع أفراد أسرته كانوا في المنزل، يقول "لدي ثلاثة أطفال وزوجتي، جميعهم كانوا في غرفة النوم".
يشير سفيان إلى مكان غرفة نومه، وباجتهاد تعمل آليات الدفاع المدني في المكان، لكن لا أثر لهم تحت الأنقاض.
ومن على متن جرافة متوسطة الحجم نزل محمود بصل وهو المتحدث باسم الدفاع المدني، وأخذ ينقب بيديه بين الأنقاض، وبعد ساعة نفض يديه من الغبار، وخاطب سفيان قائلاً، "لقد تبخرت الجثث، ادعُ لهم بالرحمة".
"تبخر الجثث" ليس تعبيراً مجازياً، بل هو أمر بات شائعاً في غزة، إذ رصد جهاز الدفاع المدني تبخر نحو 1760 جثة في الحرب العنيفة التي تشنها إسرائيل على القطاع، لكن فكرة تبخر الجثث شكلت صدمة لعقل سفيان عجز عن تفسيرها.
يضرب الرجل كفاً بكف ويحتج على اختفاء جثامين أفراد عائلته ويطلب تفسيراً لهذه الظاهرة، يتساءل، "أين اختفت؟".
وقف المتحدث باسم الدفاع المدني حائراً أمام سفيان، لكنه أخذ يشرح "هذا الأمر ليس مقتصراً على أفراد عائلتك، لقد ذهبت طواقمنا لانتشال أعداد كبيرة من الأشخاص في المباني المستهدفة، وبعد عمليات بحث طويلة لا نجد أي أثر للضحايا، تعاملنا مع 1760 حالة لم نتمكن فيها من تسجيل بيانات أصحاب الجثامين بالسجلات الحكومية المتخصصة".
ويضيف بصل، "نحن نعتقد أن السبب وراء تبخر الجثث هو استخدام الجيش الإسرائيلي أسلحة غريبة في الحرب، لكن طواقمنا لا تملك إمكانات تحديد نوع هذه الأسلحة والصواريخ، لكن من المعاينة استنتجنا أن هناك أسلحة تؤدي لإذابة وتبخر الجثث".
يلفت بصل إلى أن طواقم الدفاع المدني لا تستطيع الحكم على مصير هذه الجثامين، لكنه يؤكد أن ما يحدث في القطاع يعد "تطهيراً عرقياً، إذ لم يحدث في تاريخ البشرية أن تذوب الأجساد ثم تتبخر".
تفسير طبي
لم يحصل سفيان على إجابة واضحة من الدفاع المدني، فاضطر الأب إلى الذهاب للمستشفى في محاولة لتهدئة عقله العاجز عن الفهم كيف تتبخر الجثامين فور قصف المنازل.
يشرح رئيس قسم الطوارئ والاستقبال في مستشفى شهداء الأقصى محمد ريان أن "تبخر الجثامين أمر شائع لاحظناه فقط في هذه الحرب، لقد استدل العاملون الصحيون على ذلك من نوعية الإصابات التي تصل المستشفيات ولم يسبق أن تعاملنا معها، إذ لاحظنا آثاراً غريبة على المصابين".
ويضيف ريان، "يصاب المصابون بحروق غريبة تخرج منها انبعاثات دخان من مكان الإصابة، ويستمر تصاعد الدخان حتى مع مرور الساعات، وفي اليوم التالي للإصابة نلاحظ أن الجسم بدأ في الذوبان والتبخر وتتسع رقعة الحروق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويوضح ريان أن ما يحدث مع المصابين قد يكون هو ما يجري مع الجثث التي تطالها القنابل الإسرائيلية، إذ يحدث عند انفجارها حرارة هائلة تصل إلى 7 آلاف درجة مئوية مما يؤدي إلى ذوبان الجثامين وتبخرها على الفور.
اقتنع الأب سفيان نسبياً بالتحليل الطبي لظاهرة تبخر الجثامين، لكنه فضل الاستماع إلى شهادات من أشخاص مروا بالتجربة نفسها. ميدانياً ساعدت "اندبندنت عربية" في توثيق شهادات عن ذلك الموضوع، واستمعت إلى عامر بنات الذي قتل 15 شخصاً من عائلته في قصف إسرائيلي على القطاع.
يقول عامر، "طواقم الدفاع المدني وأقارب العائلة قاموا بمحاولات مضنية لانتشال جثث الضحايا، لكن لم نعثر على ثلاثة منها على رغم وجودهم في مكان الغارة نفسه، وعندما سألنا الخبراء أبلغونا أن الجثث تبخرت بسبب درجة حرارة الانفجار".
في شهادة أخرى أدلت بها إيمان البراوي، تقول "قتل سبعة من عائلتي، وكل محاولات العثور على جثمان ابنتي شيماء باءت بالفشل، وتبين أنها تبخرت، كنت آمل في دفنها بيدي لكنني لم أحظَ حتى باحتضان جثمانها".
إلى جانب هذه الشهادات وثق الدفاع المدني تبخر جثامين ضحايا وتحولها إلى رماد في مقبرة جماعية عثر عليها في مجمع ناصر الطبي بخان يونس جنوب قطاع غزة في أبريل (نيسان) الماضي.
تفسير عسكري
آمن سفيان بـ"تبخر الجثث" لكنه حاول فهم النظرية علمياً. للوقوف على ذلك سألت "اندبندنت عربية" أستاذ العلوم العسكرية واللواء المتقاعد جميل الشيخ، الذي أجاب "بحسب التوثيقات فإن إسرائيل استخدمت أربعة أنواع من الذخائر المحرمة دولياً، هي الفوسفورية والانشطارية والفراغية واليورانيوم المنضب".
ويضيف، "عملية تبخر الجثث تأتي بسبب استخدام القنابل الفراغية وهي أسلحة حرارية عند انفجارها تولد حرارة شديدة وتؤدي قوتها التفجيرية إلى تحلل أو انصهار أجساد الضحايا بصورة كاملة بما في ذلك العظام والأسنان".
وتصنع القنابل الحرارية من متفجرات تقليدية صغيرة لإنتاج سحابة من الجزيئات أو القطرات شديدة الاشتعال، وبعد التشتت الأولي لهذه القطرات تقوم عبوة ناسفة ثانية بإشعال سحابة من المواد القابلة للاحتراق.
يوضح الشيخ، "يمكن أن تصل درجات الحرارة الناتجة من الانفجار إلى 2500 درجة مئوية، كما يمكن أن يكون الضغط كبيراً جداً في الحيز ليصل إلى 400 أو 500 كيلو باسكال لكل بوصة مربعة، بالتالي يؤدي هذا الانفجار إلى ذوبان الجثث إلى حد التبخر أو الانصهار".
مفزع جداً ما سمعه الأب سفيان، لذا قرر أن يرفع قضية ضد إسرائيل بسبب قتلها أسرته بأسلحة خطرة ومحظرة. حول الوضع القانوني لهذه الدعوى، يقول مدير المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان رامي عبده، "يحظر القانون الدولي الإنساني استخدام القنابل الحرارية لاستهداف مدنيين في المناطق المدنية المأهولة، وذلك وفقاً لاتفاقيات لاهاي واتفاقات جنيف، ويعد استخدامها جريمة حرب وفقاً لنظام روما الأساس للمحكمة الجنائية الدولية".
لكن الجيش الإسرائيلي يرفض الإفصاح عن أنواع القنابل التي يستخدمها ضد أهدافه في قطاع غزة، وفي جميع الظروف يؤكد المتحدث العسكري دانيال هاغاري أنهم يستخدمون قوة تناسبية مع الأهداف وفق قواعد الحرب والقانون الدولي الإنساني ولا تجاوز لذلك، وفي كل غارة يستخدم سلاح الجو قوة متناسبة مع الهدف.