ملخص
أتى بعض ما تحويه الحقائب ليكشف أموراً كثيرة ومدهشة عن "رغبات جان جينيه السينمائية" وربما بدءاً من سنوات الـ50 حين كتب تجربته السينمائية الأولى على صورة سيناريو بعنوان "حفرة العقاب"، لم يتمكن من أن يجد له طريقاً للتحقق.
كان الشائع دائماً أن جان جينيه الكاتب المسرحي الفرنسي المشاكس والمدافع عن مهمشي العالم ونضالاتهم والشاهد الأبرز في الغرب على ما حدث في صبرا وشاتيلا في بيروت، توقف تماماً عن الكتابة منذ عام 1964 أي خلال الـ20 سنة الأخيرة من حياته حتى وإن كان قد صدر له مباشرة بعد موته في عام 1986 واحد من أهم كتبه "الأسير المتيم" الذي تحدث فيه أساساً عن الثورة الفلسطينية وعلاقته بها، لكن عدة حقائب كانت مودعة لدى محامي جان جينيه السياسي الفرنسي رولان دوما، الراحل قبل أسابيع من يومنا هذا، وكان بدوره قد أودعها قبل أعوام لدى مؤسسة ثقافية فرنسية تعنى بأوراق المبدعين الراحلين وتراثهم، نكشت قبل خمسة أعوام من الآن لتكشف عن أنه لئن كان صاحب "الخادمتان" و"الزنوج" قد توقف بالفعل عن النشر بعيد انتحار صديقه المغربي المهرج عبدالله حداداً عليه، فإنه لم يتوقف عن الكتابة مراكماً عدداً كبيراً من المشاريع.
ولعل في إمكاننا هنا، طالما أن المشاريع الأدبية المعنية قد أشبعت بحثاً ونشراً وتحليلاً منذ "اكتشافها" ومنها خاصة مدونات رحلة قام بها إلى اليابان عام 1967، في إمكاننا أن نتوقف عند جانب غير مألوف تماماً في مسيرة جان جينيه الإبداعية. ونتحدث هنا عن السينما.
سينما كاتب استثنائي
كان حب جينيه للسينما معروفاً، كما كان معروفاً رضاه التام والاستثنائي عن الطريقة التي اقتبس بها للشاشة الكبيرة المخرج الألماني راينر فرنر فاسبندر روايته الشهيرة "عراك في بريست"، وكلامه الطيب عن بضعة اقتباسات أخرى للسينما من نصوصه، غير أن كل ذلك "النشاط السينمائي" ظل ثانوياً في مسار جينيه وكذلك كان وسيكون لاحقاً حال العدد المهم من الشرائط التلفزيونية الوثائقية والروائية التي حققت عن حكايته الشخصية.
أما النجاح الأنغلو–ساكسوني في سينما جينيه فكان عام 1966 حين أخرج طوني ريتشاردسون المعتبر من مؤسسي تيار مسرح وسينما الغضب في بريطانيا فيلمه "مدموازيل" الذي أسند بطولته لجان مورو، في اقتباس عن نص لجينيه عنوانه "الوجه الآخر للأحلام" بالنظر إلى أن هذا الفيلم قد حقق نجاحاً جماهيرياً أوروبياً وأميركياً لم يكن هذه المرة نجاحاً فضائحياً، كما ستكون الحال مع "عراك في بريست". والحقيقة أن جينيه لم يفته أن يقر بأن "مدموازيل" حقق له رغبات سينمائية خفية كان نادراً ما عبر عنها أو اعتبرها أساسية في حياته. فهو في نهاية الأمر كان يرى أن الحياة أقصر من أن تتسع لتنمية مشاريع سينمائية طويلة الأمد وتحتاج صبراً طويلاً.
إثارة داخل الحقائب
ومع ذلك أتى بعض ما تحويه الحقائب ليكشف أموراً كثيرة ومدهشة عن "رغبات جان جينيه السينمائية" وربما بدءاً من سنوات الـ50 حين كتب تجربته السينمائية الأولى على صورة سيناريو بعنوان "حفرة العقاب"، لم يتمكن من أن يجد له طريقاً للتحقق. وكذلك سيكون على أية حال مصير نصوص سينمائية أخرى كتبها وحاول تحقيقها ليجد حيناً أنها نخبوية أكثر من اللازم وحيناً أنها غير قابلة للأفلمة لامتلائها بالتأمل وما إلى ذلك. ولسوف تكون حال نص عنوانه "لغة الجدار" عجزاً بدوره عن إقناع أي منتج، لكن ذلك لم يكن كل شيء في مسيرة جان جينيه السينمائية كما تكشف لنا محتويات الحقائب من أمور كانت معروفة فباتت منسية، أو غير معروفة تماماً، لكنها في مجملها تكاد تنم عن حكاية اقتران مستحيل بين جينيه والفن السابع. لا سيما منذ خيل إلى كاتبنا أنه إذا كان عليه أن يقترب من السينما لا يمكنه أن يفعل إلا عبر التحول هو نفسه إلى الإخراج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهكذا في عام 1977 تحديداً صاغ نصاً بعنوان "زرقة السماء" قرر أن يخرجه بنفسه قبل أن يقال له إن ذلك العنوان غير جذاب ولا يكاد يعني شيئاً فأبدله بعنوان رآه أكثر منطقية "الليل إذ يحل" انطلاقاً من محادثات دارت بينه والسينمائي غيزلان ديري الذي عمل طويلاً مع المخرج لوي مال في أفلام نصف طليعية/نصف شعبية، لكن سرعان ما تبخر المشروع في العام التالي 1978 حتى بعدما أثار فضول المنتج كلود نجار واهتمامه، بيد أن هذا سرعان ما راح يتساءل عما إذا كان يمكن لجينيه وقد بات في الـ65 من عمره أن يصور في شوارع باريس وأزقتها لا سيما في لياليها الباردة، مغامرات شاب مغربي يمضي لياليه في تجوال لا ينتهي في كآبة الليل الباريسي وأخطاره، وهنا قد لا يكون ثمة مفر من أن نذكر أن من بين ما ردع المنتج عن الغوص في ذلك المشروع إنما كان في الحقيقة إدراكه أن ثمة للسيناريو طابعاً سياسياً نضالياً قد يكون في نهاية الأمر جزءاً من نضالات جان جينيه السياسية المشاكسة.
ففي ذلك الحين كان جينيه قد انضم إلى صديقه وكاتب سيرة شبابه الأول "بعنوان (جينيه شهيداً وقديساً)" الفيلسوف جان بول سارتر كما إلى المفكر المشاكس بدوره ميشال فوكو في معركة سياسية نضالية ضخمة يخوضونها معاً ضد استشراء العنصرية ضد المهاجرين المغاربة في فرنسا. وفي ذلك الحين لم تكن تلك النضالات شعبية بل مغرقة في نخبويتها، كما من ناحية أخرى وجد المنتج أن الجمهور المهاجر نفسه قد لا يستسيغ الفيلم بالنظر إلى أن حكايته تختتم على قرار يتخذه المهاجر الذي تتبعه الكاميرا ليلاً، بترك كل شيء والعودة إلى وطنه!
الاكتشاف الحقيقي
مهما يكن من أمر يبقى أن الاكتشاف الحقيقي الذي احتوته تلك الحقائب التي شوهدت محتوياتها في عرض خاص أقيم عام 2019 في مركز ثقافي بمدينة كان في الغرب الفرنسي (وهي بالطبع غير مدينة كان الساحلية في الجنوب الشرقي الفرنسي)، كان السيناريو المكتمل لمشروع سينمائي أنجزه جان جينيه عام 1975 وكان من المعتقد أنه قد فقد إلى الأبد ، لكنه كان نائماً في واحدة من الحقائب يزينه عنوانه "الألوهي".
ولقد روت الباحثة مرغريت فابيرو التي اشتغلت على كتاب عنوانه "جان جينيه: الإغراء السينمائي" الذي استفدنا منه إلى حد ما خلال كتابتنا هذه العجالة، روت كيف ولد هذا السيناريو الذي وصفته بالأسطوري، من خلال لقاء يتسم بالأسطورية هو الآخر جرى في لندن قبل كتابة السيناريو بين جان جينيه والمغني الأيقوني ديفيد بووي الذي سيقول جينيه لاحقاً إنه استلهم شخصيته في رسمه لبطل روايته "سيدة الزهور". في ذلك اليوم تعرف الكاتب في مطعم إلى المغني جالساً على بعد طاولات منه فالتفت إليه قائلاً: "مستر بووي كما افترض؟". وتلا ذلك لقاء مع وكيل أعمال المغني وهو كرستوفر ستامب شقيق الممثل تيرينس ستامب الذي كان يبحث عن مشروع لمغنيه النجم يحاكي فيه فيلم "تومي" الذي حققه كين راسل مع فريق "ذي هو" في العام نفسه وحقق نجاحاً مدهشاً.
اختفاء مشروع طموح
ولما كان قد سبق لبووي أن تعرف إلى أدب جينيه من خلال قراءته رواية "سيدة الزهور" تحديداً التي شعر بأنها تخصه، تحمس بسرعة للمشروع الذي عنون حتى من قبل أن تكتب صفحة واحدة منه. ولسوف يكتب جينيه بسرعة ذلك النص "الألوهي" تيمناً باللقب الذي كان قد بدأ يطلق على بووي. ولقد جعل جينيه الأحداث تدور في مناخ يطغى عليه اللهو الباخوسي الإغريقي خلال الفترة الصاخبة المجنونة التي سبقت نهاية الاحتلال النازي لفرنسا وانتهت بتحرير الحلفاء لها. كان سيناريو غريباً بدا مستوحى من أسلوب يجمع، في رأي الباحثة فابيرو، بين جان كوكيو والموجة الجديدة الفرنسية وأندي وارهول... في مناخ بدا واضحاً فيه أن مجرد تبادل الحديث انطلاقاً منه بين جينيه وبووي من حول "سيدة الزهور" قد أعاد جينيه إلى مستهل سنوات شبابه وبداياته بصفته كاتباً وأثار حماسته إلى درجة إبدائه الرغبة في أن يتولى إخراج الفيلم بنفسه، لكن ذلك لم يكن ممكناً فطوي المشروع واختفى السيناريو حتى كشفت الحقائب عن وجوده لكن بعد موت صاحبه بأكثر من ثلث قرن.