ملخص
يحمل عنوان المجموعة القصصية "أيام عادية" للكاتب عادل عصمت دلالات استراتيجية تتماثل مع نهج القصة القصيرة عامة في توقفها أمام الشخصيات المهمشة المأزومة التي تقع في أدنى مستويات السلم الاجتماعي.
تعاني شخصيات المجموعة القصصية "أيام عادية" للكاتب المصري عادل عصمت (دار الكتب خان) الوحدة والإحساس بالفراغ والاغتراب والقهر، سواء كان اجتماعياً أو وجودياً. وغالباً ما يلتزم الكاتب بوحدة المكان والزمان و"تبئير" موقف سردي محدد مشحون بالدلالات. يتوقف الكاتب – وهذا أهم ما يميز تلك المجموعة – أمام ثيمات محددة من قبيل: البيت/ النافذة/ الشارع/ وأعضاء الإنسان كالكف والقدم والعين، ويأخذ "البيت" تحديداً صورة المكان المقبض المخيف، وهذا ما يدفع السارد – دائماً - إلى الإحساس المرضي (الفوبيا) بتصدع البيت، وتحوله إلى مكان آيل للانهيار بين لحظة وأخرى. وهذا ما يظهر منذ عنوان قصة "تصدع" التي تحكي عن الزلزال الذي ضرب مصر في عام 1992. وعلى رغم تأكيد مهندس الحي أن الزلزال لم يؤثر في المبنى، وأن التصدعات ليست ذات شأن، فإن "عبدالهادي" يظل متشككاً في كلامه ومتوجساً من تصدع المبنى وانهياره. وربما كان عمله خبيراً في مكتب الخبراء ومعاينته مشكلات لا تنتهي حول المواريث والملكيات، هو الذي أصابه بذلك الفزع من كل شيء، حيث اكتشف أن "الناس يمكن أن تقتل بعضها من أجل شبر من الأرض، الأرض أغلى من الحياة". يدخل "عبدالهادي" في دوامة هذه الفوبيا ولا يستطيع الخروج منها.
بشر مهددون
في قصة "رجفة" – ولنلاحظ دلالة العنوان أيضاً - تسيطر هذه الثيمة على السارد الذي أصبح – كل ليلة تقريباً - يصحو "مفزوعاً متأكداً أن البيت ينهار". ولا يعود هذا الإحساس – هنا – إلى زلزال طبيعي، كما في القصة السابقة، بل إلى تدخل البشر، عندما أجر صاحب البيت الطابق الأرضي معملاً لمخابز "الفيروز"، وفشل سكان المبنى في وقف نشاط هذا المعمل الذي يهددهم جميعاً. وفي قصة "شقة على مناور"، تبدو هذه الشقة أشبه بالقبو، ينتشر فيها الضوء الأصفر الشاحب الذي يوحي للمرء – لو عايشه فترة طويلة – بأنه يعيش خارج الزمن، ويصف "سعيد" – ساكنها - جدرانها بأنها "مثل ورق الكرتون". ولأن المكان مجاز مرسل في دلالته على قاطنيه، نجد "سعيد" وقد أخذت بشرته في الشحوب وازداد نحولاً، كما يصف السارد الخارجي المكان العام الذي تقع فيه الشقة بأنه "حارات ريفية متشابكة متسخة، وتشم روائح العطن تفوح في كل مكان". وبعد انقطاعه عن المقهى عرف أصدقاؤه من الجيران خبر موته بعدها بأسبوع، ولم يتبق غير ذكرياتهم معه.
والحقيقة أن الشخصيات هي الآيلة للسقوط، والعابرة بينما يظل كل شيء على حاله، ويظهر ذلك في قصة "الطريق إلى البيت" التي نجد فيها شارع معسكر الجيش مثل "النفق المظلم"، إذ يطفئ العساكر عمود النور الوحيد. وظل عامل محطة بنزين يمر من أمام هذا المعسكر في ذهابه للبيت، وفي إحدى الليالي الشتوية يشاهد جندياً مستنداً على الحائط وهو يسعل بشدة ويقول بصوت خافت: "آه يا با تعالي لي يا با"، فيقرر عدم المرور من هذا الشارع، إذ "رأى مصيره مجسداً في سعال العسكري ووحدته واستنجاده بأب غير موجود في ذلك النفق المظلم".
الإنسان والزمن
ظل صراع الإنسان مع الزمن ملازماً له منذ وجوده على الأرض، وليست الرغبة في الخلود سوى محاولة يائسة للتغلب على قهر الزمن الذي يحطمنا في النهاية. ففي قصة "يوم الأربعين"، يقلب موت "محمد الزمر" بائع الصحف حياة صديقه "حسن السبع"، فتغيم الدنيا في عينيه، ويسير في الشارع على هدي الذاكرة. حاول كثيراً أن يغير طريقه إلى المقهى حتى لا يمر على كشك الصحف، "لكن تغيير الطريق بعث أحزانه، وبدا كأنه يهرب من الموت" الذي يبدو معه الزمن كأنه وحش غير مرئي يذيب الحياة ويبددها ولا يترك شيئاً على حاله. وفي عزاء "الأربعين" يتأكد السبع أن يومه – هو الآخر - سيجيء، "وهناك لا نهاية للزمن"، وسوف يتمكن من الحديث مع صديقه الراحل وإخباره بما حدث في غيابه. وقد أجاد عادل عصمت في وصفه للكف بوصفه معبراً عن مرور الزمن، فطبقات الجلد في "كف" ذلك الفلاح في قصة "يد الفأس"، "تحكي قصته من أيام ما كان صبياً يهرب من الكتاب"، إذ "أخذوا المصحف من يده الناعمة، وأمسك الفأس للمرة الأولى"، مما ترتب عليه ظهور فقاقيع في كفه مثل فقاقيع الحروق. ومع استمرار العزق بالفأس "بدأت الجروح في الجفاف، وماتت تلك الطبقة من الجلد، وتحولت إلى جلد متماسك صلب".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الهيمنة الزمنية وغلبة الموت جعلتا الماضي أكثر حضوراً، ففي قصة "ظل مرور الأيام"، لا تجد "سمية"، معلمة اللغة العربية، عزاءً في أيامها الأخيرة إلا باسترجاع أيامها الماضية من خلال ما تحتفظ به من "أجندات"، تمثل لها عصير الحياة وكل ما تبقى منها، فتجلس لتقليب الصفحات واستئناس شبح الأيام الماضية. فالزمن عندها هو خط مرسوم ملون بلون أغلفة الأجندات التي حمت الحياة – من خلالها – من أن تتبدد. وكثيراً ما يستدعي حدث حاضر ما يماثله في الماضي، فسارد قصة "حب قديم" يرى فتاة، فيعيده وجهها المستدير إلى وجه "سناء" زميلته في مرحلة الدراسة الابتدائية. إن حضور هذه الفتاة الجديدة "رفع الغطاء عن مشاعر قديمة وحررها من غفوتها". وكما يحطم الزمن الإنسان فإنه يحطم – أحياناً كثيرة – طموحاته، فهذا "سمير عبدالله" في قصة "المنتحر" يتمنى أن يصبح رساماً أو مصمم ديكور أو مهندساً معمارياً، لكن موت أبيه يضطره إلى أن يتطوع في الجيش عقب حصوله على الثانوية العامة. تضيع كل هذه الطموحات، كما يضيع حبه الذي كان يمثل عزاءه الوحيد، فيفكر في الانتحار. لكنه يتغلب على هذه الرغبة القاتلة ويصبح المنتحر الوحيد "الذي أفلت من مصيره"، والذي "يجلس الآن ساهماً ينتظر أول حفيد". وفي قصة "في خدمة المعسكر"، يقرر "عبدالصمد" الهرب من الخدمة العسكرية الإجبارية، وعندما يقول له رفيقه: "لم يبق لنا غير أشهر قليلة، وتنتهي خدمتنا"، يرد عليه: "ومن أدراني أنها ستمر". وهكذا تسيطر عليه فكرة أن الزمن "قد توقف بنا هنا"، هذا الزمن الذي يبدو – في الشاهد السابق – هو زمن نفسي معبر عن ذوات مأزومة وليس زمناً طبيعياً مطرداً.
الأمل والخلود
وسط هذه الإحباطاًت واليأس والمعاناة يظل "الأمل" موجوداً على نحو ما نرى في حوار "بشير" المحامي وسكرتيرته التي تقول له: "لا أحد يعيش من غير أمل. حتى في السجن. احتمال يكون الميتين عندهم أمل". فالأمل هو الدافع الكبير لحركة الحياة وتعميرها. حتى الخلود الذي ظل معضلة الإنسان يتغلب عليه المرء بما يتركه من ذكرى. يقول سارد قصة "الخلود"، إنه يرى صديقه "في مكان ما، بنفس الهيئة، في نفس صالة بيته المجاور للمدرسة الثانوية". وهكذا يظل هذا الزميل حاضراً في خيال السارد حتى بعد رحيله. ومن علامات الخلود – أيضاً- ما يشير إليه سارد قصة "وجه أخي" من وراثة الملامح. فحين يموت هذا الأخ يتيقن السارد من اقتراب ملامحه من ملامح أبيه. وفي هذا السياق يأتي الاحتماء بالدين بوصفه مقاوماً للشر وجالباً للحياة العادلة الآمنة. ولنقل أخيراً إن هذه المجموعة القصصية تقدم عالماً دلالياً واحداً، ومن ثم فإنها تمثل تنويعات لثيمة الموت والغياب وكيفية مغالبتها.