Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"ملك الدولار" بالعراق إلى الواجهة وتهريب الأموال تحت المجهر الأميركي

تتهم واشنطن النظام الإيراني باستخدام بغداد كوسيلة للحصول على "العملة الخضراء" والالتفاف على العقوبات

مقر البنك المركزي العراقي في بغداد (أ ف ب)

ملخص

بدأت الحملة على البنوك العراقية في أواخر عام 2022 بعد أكثر من عقد من التقاعس الأميركي، حتى بعد تحذيرات المفتش العام للبنتاغون منذ عام 2012 من الاحتيال المحتمل بما يصل إلى 800 مليون دولار أسبوعياً، وأنعش غياب الرقابة التهريب، وأنتج شخصيات توصف محلياً بـ"حيتان الفساد" المحميين من جهات نافذة.

بات من شبه الروتيني في هذه الأيام أن يطلع العراقيون على تفاصيل عمليات فساد بأرقام تقدر بموازنات دول، إذ ابتلعت مليارات الدولارات واختفت في صفقات فساد، أما "أبطال" هذه العمليات فيطلق سراحهم، ومن بينهم من يظهرون على شاشات التلفاز ويكملون حياتهم كأثرياء. أما الأمول المختفية فتبقى مثل أحجية صعبة يتداولها العراقيون لفك رموزها من دون إجابات شافية، بل إن السلطات الثلاث في العراق تتجنب الحديث في تفاصيلها وكيف تلاشت ملاحقة المتهمين بها.
وعاد العراقيون اليوم للحديث عن "علي غلام" بعدما حركت صحيفة "وول ستريت جورنال" المياه الراكدة في قضيته، وأجرت لقاء معه. علي غلام الذي تحوم حوله الشبهات، والمدير لأربعة مصارف عراقية، اعتقل في الـ18 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2022 لدى وصوله إلى مطار بغداد وفق أحكام المادة 456 من قانون العقوبات العراقي التي تنص على عقوبة "الحبس لكل من توصل إلى تسلم أو نقل حيازة مال منقول مملوك للغير لنفسه أو إلى شخص آخر".
ولكن عملية اعتقاله لم تدم طويلاً، إذ أطلق سراحه بكفالة، ووصفت عملية الإفراج عنه بأنها الأسرع، وأصبحت مثار جدل على وسائل التواصل الاجتماعي، وهناك من دعا وعلى نحو ساخر إلى تسجيلها ضمن موسوعة غينيس للأرقام القياسية "كأقصر اعتقال في التاريخ".

"ملك الدولار"

بطلب من واشنطن قرر البنك المركزي العراقي منع 20 مصرفاً من إتمام معاملات بالدولار في إطار حملة للحيلولة دون تهريب "العملة الخضراء" عبر النظام المصرفي العراقي إثر تحويلات غير مشروعة، إلى إيران وجماعات مسلحة تدور في فلكها، وكانت المصارف التي يملكها علي غلام من بين المصارف التي شملتها العقوبات.
ووصفت صحيفة "وول ستريت جورنال" علي غلام بأنه "ملك الدولار" بلا منازع في العراق لمدة عقد من الزمان تقريباً، إذ حولت مصارفه الثلاثة في بغداد عشرات مليارات الدولارات خلال تلك الفترة خارج البلاد ظاهرياً لشراء قطع غيار سيارات وأثاث وغير ذلك من الواردات، وهو كان أحد أكبر المشغلين في نظام مصرفي موقت أنشئ قبل نحو عقدين من الزمن في ظل الوجود العسكري الأميركي، مما منح "الاحتياط الفيدرالي الأميركي" (البنك المركزي للولايات المتحدة) دوراً رئيساً في معالجة المعاملات الدولية للعراق.

أموال غير قابلة للتتبع

في الـ22 من مايو (أيار) 2003 أصدر الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش أمراً تنفيذياً لحماية صندوق تنمية العراق الذي كانت تودع فيه عائدات مبيعات النفط بهدف حمايتها من أية ملاحقات قانونية، ومنذ ذلك الوقت وحتى اليوم تذهب الإيرادات النفطية نتيجة بيع العراق للنفط إلى "الاحتياط الفيدرالي"، وبعد ذلك تتحول إلى حساب البنك المركزي العراقي بعد إرسال طلب من وزارة المالية العراقي يوضح أين ستصرف تلك الأموال، ويتم تدقيق تلك الطلبات من "الفيدرالي". لكن التقارير الأميركية كشفت عن أن عملية نقل "الاحتياط الفيدرالي" عائدات النفط من بغداد افتقرت إلى ضمانات أساسية لمكافحة غسيل الأموال، مما أدى إلى تحويلات مالية غير مشروعة مولت الجماعات المسلحة لسنوات، إذ استغلت البنوك حصولها على الدولار لتمويل نشاطات مشبوهة.
ووفقاً لصحيفة "وول ستريت جورنال" فإن بنوك علي غلام كانت بين أكثر من 20 بنكاً عراقياً متورطاً في تحويل الدولارات إلى إيران وحلفائها من الميليشيات، عبر استخدام "شركات واجهة" وإيصالات دفع مزورة للالتفاف على العقوبات التي تمنع إيران من التعامل ضمن النظام المالي العالمي. وبحسب مسؤولين أميركيين فإن 80 في المئة من التحويلات المالية بالدولار التي تتدفق عبر البنوك العراقية في بعض الأيام، التي تجاوزت قيمتها 250 مليون دولار، كانت غير قابلة للتتبع، وذهب جزء من هذا المبلغ سراً إلى "الحرس الثوري" الإيراني والميليشيات المعادية للولايات المتحدة التي يدعمها "فيلق القدس".

التقاعس الأميركي أنعش التهريب

بدأت الحملة على البنوك العراقية في أواخر عام 2022 بعد أكثر من عقد من التقاعس الأميركي، حتى بعد تحذيرات المفتش العام للبنتاغون منذ عام 2012 من الاحتيال المحتمل بما يصل إلى 800 مليون دولار أسبوعياً. وأنعش غياب الرقابة التهريب، وأنتج شخصيات توصف محلياً بـ"حيتان الفساد" المحميين من جهات نافذة، ومنهم علي غلام الذي بات يعرف كرجل أعمال عراقي مالك لشركة "بوابة عشتار" للدفع الإلكتروني، ومدير لأربعة مصارف عراقية هي "مصرف الأنصاري" و"مصرف القابض" و"مصرف آسيا العراق الإسلامي" و"مصرف الشرق الأوسط الإسلامي"، وتذكر مصادر محلية أنه من مواليد عام 1982 وكان "عامل طحين"، يحمل السلع والبضائع في سوق الشورجة وسط بغداد، وتحول بعد مدة ليحتل المركز الرابع ضمن سلسلة أغنى 20 عراقياً في عام 2024.
أسس علي غلام مجموعة من شركات الصيرفة، وكان دخوله في مجال مزاد العملة بسيطاً في البداية. وفي عام 2016 وبقرار من محافظ البنك المركزي جرى تحويل كل صيرفة رأسمالها أكثر من 200 مليار دينار عراقي إلى بنك، فتحولت الصيرفات التي يملكها غلام إلى مصارف موجودة إلى الآن وأسماؤها معروفة كـ"القابض والشرق الأوسط" وحصلت شركته "بوابة عشتار" على مبلغ 600 مليون دولار بعدما ألزم القضاء العراقي "مصرف الرافدين الحكومي" بدفع مبلغ 600 مليون دولار لشركة "بوابة عشتار للنظم وخدمات الدفع الإلكتروني" كشرط جزائي لعدم تطبيق عقد سابق بين الطرفين. وأثار الأمر جدلاً ولغطاً واسعاً، فيكف لشركة حصلت على الإجازة في عام 2020 ورأسمالها أقل من 7 ملايين دولار أن تحصل على تعويض بقيمة 600 مليون دولار.
يقيم علي غلام الآن في لندن بعدما كان وبحسب صحفية "وول ستريت جورنال"، "يدير إمبراطورية تعاملت مع الحصة الأكبر من الدولارات المحولة خارج العراق، وفي بعض الأيام كانت تصل إلى 20 في المئة من التحويلات البرقية".
ونفى غلام في حواره مع "وول ستريت جورنال" أن تكون البنوك التي يتعامل معها أرسلت أموالاً عن علم إلى "فيلق القدس" أو الحكومة الإيرانية، وقال إن "الأميركيين ليس لديهم أي شيء ضدي، لا علاقة لي بغسل الأموال أو إيران".
وكتبت الصحيفة أن "غلام يعيش في منزل تبلغ كلفته 40 مليون دولار، وجدد أخيراً بأرضيات رخامية لامعة وحوض سباحة في الطابق السفلي وقفص للببغاء، وبعد ممارسة رياضة المشي، غالباً ما يتوجه إلى مطاعم لندن المفضلة في سيارته الرولز رويس ذات الدفع الرباعي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


تغلغل الميليشيات في القطاع المصرفي

وذكرت "وول ستريت جورنال" أنه "بعد إدراك الميليشيات العراقية القوية حجم الأرباح الهائلة التي يمكن تحقيقها من خلال استغلال النظام المالي العراقي المعتمد على الدولار الأميركي، بدأت بتوسيع نفوذها داخل هذا القطاع والسيطرة على البنوك الخاصة. ولتحقيق ذلك عينت أفراداً موالين لها في مناصب عليا داخل البنوك الخاصة، أو اشترت حصصاً كبيرة في تلك البنوك، مما منحها سيطرة مباشرة على الأنشطة المالية، ومن خلال هذه السيطرة دخلت الميليشيات مجال تحويل الأموال إلى الخارج بطرق غير شرعية واستغلال الثغرات فيه".
واعتمدت الميليشيات على فواتير مزورة لاستيراد بضائع غير موجودة، مما مكنها من تحويل مبالغ كبيرة من الدولارات إلى خارج العراق، وكانت الفواتير غالباً ما تشير إلى استيراد سلع مثل "الأثاث" أو "الأدوات الكهربائية" أو "قطع غيار السيارات"، ولكن في الحقيقة لم تكن هناك بضائع فعلية تبرر هذه التحويلات. كانت هذه الفواتير تقدم كجزء من نظام التحويلات الدولي، مع تضمين معلومات محدودة عن المستفيد النهائي وعدم تقديم وثائق داعمة مثل بوالص الشحن أو شهادات المنشأ، مما صعب عملية تتبع الأموال.
بعد تحويل الأموال إلى الخارج كانت تصل غالباً إلى الإمارات العربية المتحدة، إذ كانت تسحب نقداً أو تنقل عبر شبكات مالية غير رسمية تعرف باسم "الحوالة"، ويعتمد نظام الحوالة على الثقة الشخصية والعلاقات العائلية أو القبلية لنقل الأموال، ولا يخضع لمراقبة مالية صارمة. هذا النظام، الذي يعمل في الظل من دون إشراف حكومي، سمح للميليشيات بنقل الأموال بسرعة وبتكاليف منخفضة مع تقليل خطر اكتشاف الأنشطة غير القانونية.
ووفقاً لمسؤولين أميركيين، انتهى المطاف بجزء من هذه الأموال في أيدي الحرس الثوري وفيلق القدس التابع له، واستخدمت لدعم حلفاء إيران وتمويل نشاطها العسكري والسياسي في المنطقة.

الإجراءات الأميركية لوقف تدفق الأموال

وبدأت الولايات المتحدة حملة صارمة على البنوك العراقية المتورطة في التحويلات المالية إلى إيران في أواخر عام 2022، بعد أكثر من عقد من عدم التحرك، وذلك على رغم التحذيرات من المفتش العام للبنتاغون منذ عام 2012 في شأن احتمال حدوث عمليات احتيال تصل إلى 800 مليون دولار أسبوعياً. وعلى رغم أن الولايات المتحدة فرضت قيوداً موقتة على تدفق الأموال إلى العراق على مر السنين، إلا أنها كانت تخشى أن يؤدي فرض ضوابط صارمة أو دائمة إلى إغراق العراق في الفوضى الاقتصادية وتأخير حربه ضد تنظيم "داعش".
وحظرت الولايات المتحدة على أكثر من 24 بنكاً عراقياً إجراء معاملات بالدولار، كما فرضت قواعد جديدة صارمة منذ أواخر عام 2022، بضغط من البنك المركزي العراقي، تلزم البنوك بالكشف عن المستفيدين النهائيين من التحويلات المالية. وفي الوقت نفسه بدأ "الاحتياط الفيدرالي" بمراقبة التحويلات المالية من الحسابات الرسمية العراقية عن كثب، مع رفض أي تحويلات لا تلتزم بالمعايير الدولية المتبعة للتحويلات المالية.

تأثير العقوبات والإجراءات الأميركية

نتيجة لهذه الإجراءات قلصت المعاملات المالية غير المشروعة بشكل كبير، على رغم أن المسؤولين الأميركيين يؤكدون أن إيران لا تزال تسعى إلى استخدام العراق كمصدر للحصول على الدولار. كما أشارت وزارة الخزانة الأميركية إلى أن النظام كان "ذا قيمة للأمن القومي الأميركي" لأنه سمح للعراق بمواصلة التجارة الدولية في بيئة عالية الخطورة، بما في ذلك خلال الحرب ضد "داعش".

تغييرات النظام المالي العراقي المستقبلية

واستجابة لهذه الإجراءات أعلن البنك المركزي العراقي خططاً للتخلي عن النظام الحالي لتحويل الأموال بالدولار إلى الخارج بحلول نهاية العام، وأوضح محافظ البنك المركزي العراقي علي محسن العلاق، في تصريح لوكالة الأنباء الرسمية في أغسطس (آب) الماضي، أن "النظام السابق سمح ببعض الاستغلال، مثل التعاملات التي تشمل مصدرين وهميين". وأضاف أن "العراق يعمل على إنشاء علاقات مباشرة بين البنوك العراقية والبنوك المراسلة، متجاوزاً الحاجة إلى التنفيذ من خلال البنك المركزي أو البنك الاحتياط الفيدرالي الأميركي".

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير