ملخص
شهدت علاقة رياض سلامة بالقادة السياسيين في لبنان تداخلاً كبيراً على مدى ثلاثة عقود، مما أسس لنظام اقتصادي انتهى بانهيار مالي كبير عام 2019. وأدت تداعيات هذا الانهيار إلى تبادل الاتهامات بين السياسيين، علماً أن السياسة الاقتصادية التي أقرتها الحكومات ارتكزت على تثبيت سعر صرف الليرة وتمويل العجز من مصرف لبنان وإقراض الحكومة، مما أدى إلى استنزاف احتياطات مصرف لبنان وأموال المودعين.
في آخر مستجدات قضية حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة الموقوف منذ الثالث من سبتمبر (أيلول) الجاري، عقد قاضي التحقيق الأول في بيروت بلال حلاوي جلسة استجواب اليوم الخميس لكل من سلامة والشاهدين المحاميين مروان عيسى الخوري وميكي تويني انتهت بتحديد موعد لجلسة أخرى للتوسع بالتحقيق مع المحاميين، الثلاثاء الـ23 من الشهر الجاري.
كما تقدم محامي سلامة بطلب لإخلاء سبيل موكله، فأحال حلاوي الطلب على النائب العام المالي القاضي علي ابراهيم لإبداء الرأي قبل أن يتخذ قراره بالموافقة على تخلية السبيل أو رفضه.
وفي غضون ذلك، منعت رئيسة هيئة القضايا القاضية هيلانة إسكندر اليوم أيضاً من المشاركة في جلسة استجواب سلامة لعدم إبرازها المستندات اللازمة. وفي هذا السياق، أفادت منظمة "المفكرة القانونية" التي تعنى بالشؤون القضائية والقانونية بأن الهيئة الاتهامية في بيروت برئاسة القاضي ماهر شعيتو أصدرت قراراً عدت فيه أنه لا يجوز لها النظر في طلب الاستئناف المقدم من قبل الدولة اللبنانية على يد القاضية إسكندر ضد منعها من الانضمام إلى التحقيق مع سلامة في قضية "أوبتيموم"، وذلك بسبب مخاصمة سلامة لقضاتها سابقاً في قضية "فوري" سنداً للمادة 751 من قانون أصول المحاكمات المدنية. بالتالي، أحالت الهيئة الاتهامية قرارها للرئيس الأول لمحكمة استئناف بيروت القاضي حبيب رزق الله طالبة منه "اتخاذ ما يراه مناسباً في شأن تكليف هيئة للنظر في الدعوى الراهنة".
سلامة والسياسيون
وتشكل قضية سلامة مثالاً على التشابك بين القضاء والسياسة في لبنان وتبعات ذلك. فقد أرست علاقة معقدة ومتشابكة امتدت لثلاثة عقود بين رياض سلامة والقادة السياسيين في لبنان، نظاماً اقتصادياً ونقدياً انتهى بالانهيار المالي الكبير الذي شهدته البلاد عام 2019، مخلفاً وراءه تداعيات اجتماعية كارثية وتراشقاً واتهامات وتبادل تحميل مسؤوليات بين القوى السياسية، في حين غابت أية مظاهر إصلاحية طوال خمسة أعوام تلت الانهيار على رغم مطالبات صندوق النقد الدولي الحكومات بإجراء إصلاحات بنيوية.
وترى أوساط اقتصادية، أنه يصعب الفصل في لبنان بين "المنظومة" الاقتصادية و"المنظومة" المالية، إذ يمتلك كبار السياسيين ورؤساء الأحزاب الكبرى شركات مالية وبنوك وشركات نفط ومصالح ضخمة، وفيها يتحكمون بمعظم المصالح والمفاصل المالية في البلاد.
ومنذ اندلاع الأزمة الاقتصادية، بدأت تخرج تقارير صحافية تتحدث عن مصالح مشتركة جمعت سلامة مع شخصيات سياسية كبيرة من "الطبقة" الحاكمة، حتى أن تقارير عرضت أرقاماً لصفقات تمت بين الطرفين، فيما نقلت عن أوساط سلامة أنه يمتلك تسجيلات ووثائق تؤكد تورط سياسيين كبار في صفقات، وأنه أودع تلك المستندات والوثائق بشكل مشفر على شبكة الانترنت لتنشر فوراً في حال تعرضه لمكروه.
أرقام وأسماء في تقارير صحافية
في هذا الإطار نشرت مواقع إخبارية لبنانية قبل نحو سنتين مقالات تكشف عن طلب إمارة ليختنشتاين مساعدة القضاء اللبناني في دعوى الاختلاس المقامة ضد رياض سلامة، وسألت عن علاقة مالية بين سلامة وطه ميقاتي، وهو شقيق رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، وعن تحويلات مالية بين شركتيهما حصلت عام 2016 وصلت قيمتها إلى 14 مليون دولار.
كذلك برز اسم ميقاتي عندما انفضحت قضية القروض المدعومة من مصرف لبنان عام 2018، وتبين معها أن مجموعة ميقاتي حصلت على 9 قروض من مصرف عودة ومدعومة من مصرف لبنان يصل مجموعها الى 14.139 مليون دولار أميركي.
أيضاً كشفت تقارير صحافية لبنانية منذ عام 2017، أن سلامة خصص هندسات ماليّة لمصرف البحر المتوسط لمنحه 400 مليون دولار من المال العام. يذكر أن سعد الحريري، والذي كان رئيساً للوزراء حينها، هو مساهم في المصرف.
أما شركة "أنترا" للاستثمار والتي قامت على أنقاض فضيحة مصرف أنترا الذي أفلس منتصف القرن الماضي ويملك فيها مصرف لبنان 35 في المئة من الأسهم، فباتت بعد الحرب الأهلية كما يصفها اقتصاديون بأنها "الصندوق الأسود المالي"، ويضيفون أنها تحت عهدة وسيطرة حركة "أمل" ورئيس مجلس النواب نبيه بري.
أما مصرف سيدروس بنك، والذي يحسب له قربه من التيار الوطني الحر، فقالت وسائل إعلامية لبنانية إنه نال حصة من الهندسات المالية التي قام بها سلامة قبل نحو 10 سنوات، وهذه الحصة بلغت أكثر من 30 مليون دولار من المال العام.
كذلك ورد اسم شركة الصرافة ستيكس ومالكها حسن مقلد، المقرب من "حزب الله"، على لائحة المصالح التي جمعت الأحزاب بالسياسيين بحسب اقتصاديين ومتابعين، فقد تأسست هذه الشركة قبل سنوات قليلة وبسرعة نالت رخصة العمل في سوق الصيرفة من المصرف المركزي.
لكن عام 2023 تم إدراج اسم مقلد على لائحة العقوبات الأميركية، وقال وكيل وزارة الخزانة لشؤون الإرهاب بريان إي نيلسون إن وزارته اتخذت "إجراءات ضد صاحب شركة صرافة فاسد، تدعم معاملاته المالية الحزب ومصالحه" وذكرت الوزارة أن مقلد وقام بمعاملات مالية نيابة عن الحزب أدت إلى تربحه مئات الآلاف من الدولارات.
ماذا حصل في عهد سلامة؟
السياسات الاقتصادية التي أقرتها الحكومات المتعاقبة في بياناتها الوزارية ارتكزت على تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية وتمويل العجز في الموازنات من قبل مصرف لبنان، الذي بدوره يضع السياسات المناسبة لتأمين حاجات الحكومة والمالية والتحكم بحجم السيولة بين البنوك والأسواق، مما دفع المجلس المركزي في مصرف لبنان إلى إلزام البنوك العاملة داخل لبنان بإيداع 25 في المئة من ودائعها النقدية لدى المصرف المركزي، الذي بدوره كان يسلفها لحكومات عبر وزارة المالية التي تنفذ قانون الموازنة تحت إشراف الحكومة والهيئات الرقابية.
سياسة تسليف الدولة تحت قوانين الموازنة التي يقرها البرلمان بتصويت عدد كبير من القوى السياسية كانت تراهن على مؤتمرات الدول المانحة لتغطية الفجوة المالية المتراكمة، إضافة إلى طرح سندات الخزانة وسندات "اليوروبوندز"، إلا أن النكسة الكبيرة التي سبقت الانهيار المالي كانت باشتراط الدول المانحة في مؤتمر "سيدر" دفع تعهداتها البالغة 12.5 مليار دولار بإجراء إصلاحات ومراقبة آلية صرفها، وتبعها لاحقاً قرار الحكومة بالتعثر عن دفع مستحقاتها لـ"اليوروبوندز"، يضاف إليها إقرار سياسة دعم السلع التي استنزفت على مدى عامين نحو 20 مليار دولار من احتياطات "المركزي" أي أموال المودعين.
تلك السياسات ونتائجها أدت إلى تسليط الضوء مجدداً على علاقة جمعت سلامة بالطبقة الحاكمة لأكثر من ثلاثة عقود، ناهيك انقسام في الآراء حول الجهة التي تتحمل المسؤولية، إذ يرى البعض أنها مسؤولية جماعية تطاول الحاكم المركزي السابق ورؤساء الحكومات ووزراء المال والكتل النيابية التي شرعت تلك السياسات، وآخرون يعدون سلامة المرتكب الأساس كونه كان جزءاً أساساً من تنفيذ تلك السياسات والتماهي معها وعدم الاعتراض عليها، مما أسهم في التجديد المتتالي لولاياته على مدار 30 عاماً.
سياسات الدولة الاقتصادية
وكثيراً ما أعلن حاكم مصرف لبنان السابق أنه كان يمول الدولة وفقاً لقوانين الموازنة وقرارات مجلس الوزراء وبناء على قانون النقد والتسليف، إضافة إلى أنه كان يتم بقرار من المجلس المركزي بالتضامن والتكافل بين أعضائه (أي نواب الحاكم الأربعة والمدير العام لوزارة المالية والمدير العام لوزارة الاقتصاد) وتحت رقابة مفوض الحكومة في المجلس.
بالتالي، تقول أجواء سلامة إن "قرار إقراض الدولة كان يمر عبر هيكلية يُحكم السيطرة عليها السياسيون من ألفها إلى يائها بالتكافل والتضامن مع المجلس المركزي الذي كان سلامة جزءاً منه وملزماً تنفيذ قرارته"، وبهذا تلقي المسؤولية على سلامة بحكم أنه جزء من "المنظومة"، ولكن هناك مسؤولية جماعية كون الحاكم السابق كان ينفذ تلك السياسة المتفق عليها والمنصوص عنها في البيانات الوزارية للحكومات المتعاقبة. ويكشف مصدر مقرب من الحاكم السابق عن أنه على رغم سياسية الحاكم الحالي بالإنابة وسيم منصوري عدم إقراض الدولة لا بالليرة اللبنانية ولا بالدولار الأميركي إلا بقوانين صادرة عن مجلس النواب، فإن مشروع قانون موازنة عام 2025 الذي يبدو أنه يتضمن عجزاً في ميزان المدفوعات سيلزم منصوري إقراض الدولة من جديد، بالتالي العودة إلى السياسة نفسها من خلال استخدام أموال الاحتياط الإلزامي أي من أموال المودعين، مستنتجاً أن "العلة" هي في طريقة إدارة الدولة التي أنفقت أموال المودعين، مما يعني أنه "إذا كان الشعب يريد استرداد أمواله عليه تغيير الطبقة السياسية التي تقرر السياسات المالية في البلاد منذ 30 عاماً".
لجنة الرقابة على المصارف
في المقابل يقول خبراء اقتصاديون ومتابعون إن لجنة الرقابة على المصارف تتحمل بدورها مسؤولية مباشرة في أزمة المصارف اللبنانية، إذ تنص القوانين المصرفية على عدم إقراض العميل أكثر من خمسة في المئة من إجمال التسليفات للمصرف، في حين يؤكد تقرير صندوق النقد الدولي الذي صدر خلال يونيو (تموز) 2019 أي قبيل الانهيار المالي أن 65 في المئة من تسليفات القطاع المصرفي كانت للدولة اللبنانية، وذلك أمام أعين لجنة الرقابة المولجة مهمة متابعة أعمال المصارف اليومية بالتفاصيل الدقيقة والتي لم تحرك ساكناً. ولفت المتابعون إلى أن "جميع المصرفيين وكذلك مصرف لبنان ومجلسه المركزي ومفوض الحكومة في المجلس والحكومات المتعاقبة كانوا يعلمون أن الدولة فقدت ملاءتها بالعملة الصعبة منذ عام 2015، مما يعني أن إقراض الدولة سواء من خلال ’اليوروبوندز‘ أو التسهيلات من مصرف لبنان هو كمن يلعب بالقمار"، وعلى رغم ذلك استمر إقراض الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تبادل أدوار
يعتبر الصحافي الاقتصادي عماد الشدياق أن رياض سلامة "عمل مع المنظومة السياسية في رسم السياسات المالية للبنان على مدى 30 عاماً، إذ تبادل توزيع الأدوار بينه وبين الطبقة الحاكمة"، مشيراً إلى أنه نفذ سياسات الحكومات في تثبيت سعر الصرف وفي الوقت نفسه كان موافقاً على هذه السياسات، وكونه حاكم مصرف لبنان كان يمتلك الاستقلالية القانونية التي تتيح له رفض تنفيذ السياسات في حال لم تكن مناسبة، لكنه لم يفعل ذلك. وأضاف أن الأرقام المتعلقة بتثبيت سعر الصرف على مدى 30 عاماً ضخمة للغاية وتقدر بنحو 100 مليار دولار، وهو ما يعادل حجم الودائع التي فقدت في المصارف.
وعبر الشدياق عن خيبة أمله في عدم تحويل توقيف سلامة إلى عملية محاسبة فعلية للفاسدين، موضحاً أن مجريات التحقيق والاستجوابات لا توحي بوجود نية حقيقية لمحاكمة المسؤولين عن الفساد، لافتاً إلى وجود ثغرات في التحقيقات بما في ذلك عدم السماح للقاضية هيلانة إسكندر ممثلة الدولة بحضور جلسات التحقيق، "وهذا الأمر يعطي انطباعاً بوجود نيات مبيتة من السلطة للتأثير في مسار القضية وحصرها ضمن نطاق ضيق"، وتطرق الشدياق إلى فتح ملف صغير نسبياً في قضية سلامة إذ "يتم التحقيق في فساد بقيمة 42 مليون دولار فقط"، معتبراً أن هذا قد يكون بمثابة تسوية لإغلاق الملف نهائياً، وبخاصة أن التحقيقات الجارية معه قد تكون محدودة وموجهة ولن تصل إلى السياسيين، موضحاً أيضاً أن فتح ملفات أخرى كان من الممكن أن يكشف أسماء سياسيين متورطين إلا أن "القضاء هو جزء من المنظومة السياسية الفاسدة، وقد تم تعيينهم من السياسيين مما يعني أن المحاسبة الجدية لا تزال بعيدة جداً"، وبرأيه فإن الحماية التي حصل عليها سلامة أسفرت عن استفادة جميع المتورطين في ملفات الفساد التي كان سلامة جزءاً منها مؤكداً أن "المنظومة" لن تتخلى عنه.
نفقات الدولة
من ناحيته، رأى مدير المعهد اللبناني لدراسات السوق باتريك مارديني أن المصرف المركزي احترم شروط تثبيت سعر صرف العملة حتى عام 2015، إلا أنه خضع لاحقاً للضغوط السياسية والحزبية لناحية تمويل عجز الموازنة والنفقات العامة، مما أسهم بصورة كبيرة في انهيار سعر صرف الليرة، معتبراً أن الأزمة الاقتصادية في لبنان تعود إلى السياسات التي اتبعتها الحكومة والمصرف المركزي منذ عام 2015 إذ "امتنعت المصارف اللبنانية عن تمويل الحكومة مباشرة وطلبت من المصرف المركزي إيجاد حلول بديلة"، وكشف عن أن المصرف المركزي في الوقت ذاته كان أمام خيارين، إما أن تتخذ الحكومة خطوات إصلاحية جادة لتصحيح الاختلالات المالية وإيقاف عجز الموازنة وتحقيق فائض مالي، أو أن يلجأ إلى تأمين الدولارات عبر الهندسات المالية وهي عملية تضمنت استخدام أموال المودعين في المصارف وتقديم إغراءات لهم، إلا أنه لم يتمكن من الوفاء بالتزاماته تجاه المصارف مما زاد من تعقيد الأزمة.
وبرأيه "فإن مسؤولية الانهيار المالي تتحملها بصورة أساس الحكومات المتعاقبة، التي أنفقت المال العام بصورة تفوق الإيرادات الحكومية، في حين كان رياض سلامة مسؤولاً عن تأمين الأموال للطبقة السياسية". وإذ نوه بالتحقيقات الحالية التي تكشف عن أن سلامة قد يكون حصل على عمولات من شركات كانت تنفذ عمليات إعادة تدوير وغسل الأموال، إلا أنه انتقد ما وصفه بمحاولة السلطة الحالية لحصر المسؤولية في ملف واحد، معتبراً أن ما يحصل محاولة لتشتيت الانتباه عن المبالغ الضخمة التي فقدت والتي تراوح ما بين 80 و100 مليار دولار.