ملخص
الخلاف الذي كانت تمثله بعض دول المنبع انقلب إلى وجه جديد تقوده دولتا المصب الرافضتان لاتفاق "عنتيبي" 2010 الذي يفرض واقعاً جديداً، لتظل جدلية المياه قائمة بين دول حوض النيل الداعمة للاتفاق، والأخرى المتمسكة بالاتفاقات التاريخية كحقوق طبيعية في النيل واهب الحياة منذ القدم.
لا تزال التفاعلات في شأن اعتماد اتفاق الإطار التعاوني لدول حوض النيل (عنتيبي) تعتمل ما بين إعداد جارٍ له من جانب الدول الموقعة، ورفض من جانب دولتي المصب مصر والسودان. وعلى رغم اكتمال النصاب بتوقيع 6 من دول حوض النيل بإجازته لا يزال يتطلب ترتيبات قانونية وسياسية وجهوداً لإجماع يحقق الرضا والمصالح المشتركة. فهل يحل اتفاق "عنتيبي" كبديل لاتفاقات النيل التاريخية، أم ماذا يحدث في مشوار العلاقات المائية لدول حوض النيل؟
الخلاف الذي كانت تمثله بعض دول المنبع انقلب إلى وجه جديد تقوده دولتا المصب الرافضتان لاتفاق "عنتيبي" 2010 الذي يفرض واقعاً جديداً، لتظل جدلية المياه قائمة بين دول حوض النيل الداعمة للاتفاق، والأخرى المتمسكة بالاتفاقات التاريخية كحقوق طبيعية في النيل واهب الحياة منذ القدم.
إذعان ومكاسب
ظل اتفاق مياه النيل الذي أبرمته الحكومة البريطانية عام 1929 (بصفتها الاستعمارية) نيابة عن عدد من دول حوض النيل (أوغندا وتنزانيا وكينيا)، مع الحكومة المصرية كإذعان من دول الحوض بحصة مصر المكتسبة من مياه النيل، وحقها في الاعتراض (على أية مشاريع مائية على النهر وروافده).
يشار إلى أن اتفاق نوفمبر (تشرين الثاني) 1959 الذي أطلق عليه اتفاق "الانتفاع الكامل" بمياه النيل كونه من أهم الاتفاقات، وجاء بعد التوقيع على بناء السد العالي، إذ أعاد تأكيد الحقوق التاريخية المكتسبة لكل من مصر والسودان في مياه النيل وفقاً لما قرره اتفاق 1929، بإضافته الكميات الجديدة من السد العالي وجملتها (22 مليار متر مكعب) من المياه إلى الكميات المقسمة سابقاً، إذ أصبح نصيب مصر الإجمالي 55.5 مليار متر مكعب (48 + 7.5)، ونصيب السودان الإجمالي 18.5 مليار متر مكعب سنوياً (4 + 14.5)، بدلاً من التقسيم السابق وهو (48 مليار متر مكعب لمصر، و4 مليارات للسودان)
اتسمت نهاية الحقبة الماضية وبداية الألفية الحالية بنشاط كبير قادته دول المنبع لتبني اتفاق جديد يحقق تقاسماً عادلاً لمياه النيل وفق مرئياتها، إذ جاءت اتفاق الإطار التعاوني (عنتيبي) في حيثيات الخلافات التي طرأت بعد رحيل الاستعمار كرد فعل رافض لواقع سابق ترى فيه دول المنبع أحقية مهضومة جراء اتفاقات لم تستشر فيها ولا شعوبها في ظرف الاستعمار، إلى جانب كونها لا تفي بحقوق مجتمعاتها المتنامية وأحقيتها هي الأخرى في المياه المتدفقة من أراضيها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في يوليو (تموز) 2009 كان اجتماع المجلس الوزاري الـ17 لدول حوض النيل والذي عقد بمدينة الإسكندرية في مصر، وعملت فيه دول المنبع (كينيا وإثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وروندا) لهدف إقامة "مفوضية" جديدة لحوض النيل، من دون مشاركة دولتي المصب (مصر والسودان) اللتين ترفضان إنشاء مفوضية جديدة كبديل لسكرتارية مبادرة حوض النيل وللاتفاقات التاريخية.
استمرت المفاوضات بين دول حوض النيل ستة أشهر من دون جدوى. وفي مايو (أيار) 2010 انعقد اجتماع حاسم بمدينة عنتيبي بأوغندا، اتفقت فيه كل من إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي على معاهدة "الإطار التعاوني الجديدة لحوض نهر النيل".
وصادقت عليها بعد ذلك دول خمس هي (إثيوبيا وأوغندا وتنزانيا وروندا وبورندي) عبر برلماناتها بعد وضع الاتفاق ومرور 14 عاماً، ثم جاءت مصادقة دولة جنوب السودان التي أقر برلمانها بالاتفاق في يوليو (تموز) الماضي، ليكتمل النصاب القانوني للبدء بإجراءات تأسيس مفوضية لحوض النيل بعد 60 يوماً من إيداع وثائق التصديق لدى الاتحاد الأفريقي.
تفرض اتفاق "عنتيبي" الموقع عليها من دول الغالبية الستة إطاراً قانونياً لحل الخلافات والنزاعات، كما تنهي الحصص التاريخية لمصر والسودان، وتعمل لإعادة نهج تقسيم المياه من جديد، كما تسمح لدول المنبع بإنشاء مشروعات مائية من دون التوافق مع دول المصب، وهو ما ترفضه كل من مصر والسودان.
وفي حين يشير خبراء في هذا الصدد إلى أن هذا البند يتعارض مع القوانين الإقليمية والدولية التي تنظم حق الانتفاع بالأنهار والمجاري المائية المشتركة بين الدول، مثلت الاتفاقات التاريخية لحوض النيل مرحلة مهمة في العلاقات المائية امتدت لما يقارب قرناً من الزمان، ويعد ما حوته من حصص مائية، وحق اعتراض (فيتو) تجاه أية مشروعات على النهر وروافده مكاسب تاريخية يصعب على دولتي المصب التخلي عنها.
ضمن ما تمثله المرحلة الجديدة بعد اكتمال نصاب الاتفاق الإطاري (عنتيبي) والعمل على تكوين المفوضية الجديدة بموجب الاتفاق الذي صادقت عليه غالبية دول حوض النيل، يقول الباحث في العلاقات الدولية بجامعة "أربا مينش" بإثيوبيا سيد أحمد إن "المفوضية الجديدة ستسهم بصورة كبيرة في تحقيق الاستخدام العادل والمنصف لموارد المياه، وضمان السلام المستدام في المنطقة". وأشار إلى أن "إنشاء المفوضية سيسهم في إلغاء اتفاقات الحقبة الاستعمارية الموقعة عامي 1929 و1959، وغير المقبولة من قبل دول المنبع. وسيفتح آفاقاً لفصل جديد من التعاون والتنمية المشتركة بين دول حوض النيل".
وقال فقي أحمد نغاش الباحث في الموارد المائية وعضو سابق بفريق التفاوض في شأن سد النهضة إن التزام إثيوبيا باتفاق "عنتيبي" ومشروع "سد النهضة" يعكس رغبتها في تعزيز التعاون المشترك مع دول حوض النيل، موضحاً أن إثيوبيا قدمت للعالم مراراً وتكراراً موقفها الواضح في شأن الاستخدام العادل والمنصف للموارد المائية المشتركة، وكذلك المنافع المتبادلة للتنمية المشتركة.
ليس كافياً
من جهته يقول الباحث في الشؤون الدولية عادل عبدالعزيز حامد إن "الاتفاق الإطاري الجديد يمثل بديلاً لاتفاق مياه النيل القديمة (1929 و1959) التي كانت توزيعات مياه نهر النيل فيها محصورة لفائدة دولتي المصب (مصر والسودان) بصورة أساسية". وأضاف، "ستعطي مصادقة دولة جنوب السودان على اتفاق (عنتيبي) دفعاً لدول المنبع، وستعزز من حقوق الدول التي تعد نفسها غير مستفيدة تاريخياً، مثل إثيوبيا وأوغندا وغيرهما لتطوير الموارد المائية، كما ستشجع على تأسيس مفوضية حوض النيل الجديدة ولكن من دون إجماع بين دول الحوض نسبة إلى الخلاف الذي سيظل قائماً بين دول المنبع ودول المصب".
على رغم ذلك يوضح حامد أنه "ليس معنى نيل الاتفاق الجديد غالبية مطلقة أن تفرض واقعاً لا يرتضيه طرفا المصب، فهناك مراحل أخرى تنتظرها الاتفاق لتأخذ صفة فعلية، مثل الاعتراف بها من قبل المنظمات الإقليمية والدولية ومؤسسات البنك الدولي المتخصصة بقوانين المياه وغيرها لاعتمادها رسمياً كغيرها من الاتفاقات الدولية، كما يتطلب ما يتبعها من واقع تواؤم لا مفر منه لجميع دول الحوض الـ12 من دون إقصاء أي طرف". ويشير إلى أنه "خلال المرحلة القادمة سيكون من المهم العمل على حلول مستدامة تضمن الاستخدام العادل لمياه النيل، مما يتطلب تعاوناً أكبر بين دول الحوض. ويجب الوصول إلى حلول ترضي جميع الأطراف، كما ينبغي تشجيع التوجهات نحو استثمارات مشتركة بين جميع الدول، والاستفادة من المياه الجوفية في دول المنبع ودول الممر مثل السودان مما يسهل من العملية التقاربية، كما تحتاج الأطراف إلى حوار مثمر لا ينقطع لضمان استدامة الموارد المائية وتفادي النزاعات المحتملة".
على مستوى أممي قال المقرر الخاص المعني بحقوق الإنسان في المياه بيدرو أروخو-أغودو، "إن النظم البيئية المائية والمياه التي نستخرجها منها يجب النظر إليها وإدارتها في المجال العام، باعتبارها ممتلكات عامة، يمكن للجميع الوصول إليها، وألا تكون حكراً على أحد".
وأشار تقرير أغودو، الذي قدمه في 16 سبتمبر (أيلول) الجاري إلى الدورة العادية الـ57 لمجلس حقوق الإنسان المنعقدة في جنيف، إلى ضرورة التمييز بين المياه اللازمة لاستدامة الحياة والمياه المستخدمة لأغراض اقتصادية، وتحديد الأولويات ووضع معايير إدارة محددة تجاه ذلك.
وأفاد تقرير أممي جديد "بأن 2.2 مليار شخص يفتقرون إلى مياه الشرب التي تدار بطريقة مأمونة، بينما يفتقر 3.5 مليار شخص إلى خدمات الصرف الصحي المدارة بطريقة مأمونة.
ونبه التقرير الذي نشرته الـ"يونيسكو" نيابة عن لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية، "إلى أن هدف الأمم المتحدة المتمثل في ضمان انتفاع الجميع بهذه الخدمات بحلول عام 2030 بعيد المنال، وأن هناك أسباباً تبعث على القلق من أن فجوة التفاوت قد تستمر في الاتساع".
وأشار التقرير إلى "تضرر أكثر من 1.4 مليار نسمة من موجات الجفاف بين عامي 2002 و2021. وكان عام 2022 بداية مرحلة عاش فيها نصف سكان العالم تقريباً تحت وطأة ندرة حادة في المياه خلال جزء من السنة في أقل تقدير، بينما تكبد ربع سكان العالم مستويات "عالية للغاية" من الإجهاد المائي لاستخدام أكثر من 80 في المئة من إمدادات المياه العذبة المتجددة السنوية".
الدفع بعجلة التعاون
ونبه تقرير الأمم المتحدة العالمي عن تنمية الموارد المائية لعام 2024، إلى أن من المتوقع أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة تواتر وشدة هذه الظواهر، مع وجود أخطار جسيمة تهدد الاستقرار الاجتماعي.
وأكد التقرير الأممي "أن التوترات في شأن المياه تزيد من حدة النزاعات في سائر أرجاء العالم. ودعا الدول إلى ضرورة الدفع بعجلة التعاون الدولي وتحفيز الاتفاقات العابرة للحدود إن أرادت المحافظة على السلام".
وقالت المديرة العامة لـ"يونيسكو" أودري أزولاي، "كلما تفاقم الإجهاد المائي، تعاظمت أخطار اشتعال النزاعات على الصعيدين المحلي والإقليمي. ورسالة اليونيسكو واضحة في هذا الصدد: إن أردنا الحفاظ على السلام، يجب علينا العمل بسرعة ليس فقط لحماية الموارد المائية، بل أيضاً للدفع بعجلة التعاون الإقليمي والعالمي في هذا المضمار".
ومن جهته قال ألفارو لاريو رئيس الصندوق الدولي للتنمية الزراعية (إيفاد) ورئيس لجنة الأمم المتحدة المعنية بالموارد المائية، "يمكن للمياه عند إدارتها إدارة مستدامة ومنصفة أن تفيض بالسلام والازدهار، وهي أيضاً عصب الحياة بالمعنى الحرفي للزراعة، ومحرك أساس لتحقيق الرفاه الاجتماعي والاقتصادي لمليارات البشر".